معركة أولي البأس

طوفان الأقصى

عن الكيان الذي سقط
14/11/2023

عن الكيان الذي سقط

أحمد فؤاد

قبل أي حديث، وأسبق من كل كلمة، وقفة تحية واجبة للسيدة هدى حجازي وأمثالها من نماذج في بيئة المقاومة. تحية إجلال لهذه الشخصيات الاستثنائية الفذة التي منحتنا القدرة على إعادة تعريف أنفسنا والعالم والمألوف، ووهبتنا، في نور إلهي، الفرصة لرؤية قدراتنا الحقيقية ومعاينة عدونا، بكل جبنه وضعفه وهشاشته، ووفرت لنا الظرف الذي نستعيد فيه فهم كلمات قالها سماحة السيد الأمين وقت ذروة المعارك الكبرى التي خاضتها المقاومة، وقت وقعت واقعة تموز 2006، وفي خطابه الأول، قال السيد: "لبوش وأولمرت أنتم لا تعرفون من تقاتلون"، وبعد النصر الإلهي وفي 22 أيلول 2006، افتتح سماحة السيد خطابه لبيئة المقاومة بـ"يا أشرف الناس وأطهر الناس وأكرم الناس"... ووسط اشتعال "طوفان الأقصى" الجاري، قال السيد ردًا على تهديدات وحشود القوة العظمى الوحيدة في الكوكب: "أساطيلكم التي تهددون بها أعددنا لها عدتها أيضًا".. شكر بلا حدود ولا مدى لإطلالة السيدة هدى حجازي، أم ملائكة عيناتا الثلاث، السيدة التي حملت الرسالة القديمة العابرة للقرون والعصور والأجيال، بأبسط الكلمات وأعذبها.. شكرًا يا سيدتي؛ عرفنا الآن أننا لن نكسر.
..

إن وهم أسطورة التفوق الصهيونية التي نجح الإعلام الرسمي العربي الدنيء بزرعها، في وعي الناس وعقولهم وقلوبهم، ليس لها تفسير إلا أنها محاولة هروب الأنظمة الخائنة من ضرائب القضية وأثمان الانتماء والتكاليف. هي ليست أسرارًا مدفونة ولا طلاسم سحرية غامضة، هي كذبة كبيرة رويت كثيرًا، وتضخمت كثيرًا جدًا، بفعل ترديدها حتى صارت تشبه الحقائق، أو حتى العقائد في أزمنة السقوط والهوان، ليبرر كل حاكم ومسؤول متخاذل تطبيعه مع العدو، ثم إنه ينزع أهم ما يملكه الإنسان العربي الآن، حقه في المقاومة.

الحقيقة الوحيدة العارية، اليوم، في العالم العربي، هي أن الكيان ما كان له أن يستمر 75 عامًا كاملة، سوى بسبب البؤس والعجز العربيين، وأن ما يمنح هذا الكيان الضئيل الهشّ مكانته وقوته هو ظلّ أو انعكاس صورة ضعفنا وتخاذلنا وصمتنا الكئيب، وأي تفوق لهذا السرطان هو بسبب انعدام مناعتنا نحن، والهوان الشامل الذي تعانيه الشعوب العربية، خصوصًا في دول "الطوق" المحيطة بفلسطين المحتلة.

ما هو مؤكد –اليوم- هو أن تغيرًا هائلًا قد طرأ على الصراع العربي-الصهيوني، فلم يعد الكيان يملك قدرة المبادأة أو يتمتع بحرية الحركة أو لديه رفاهية مهاجمة كل تهديد يلوح أمامه. لقد تحوّل الكيان إلى نسخة أخرى جديدة من النظم العربية الفاشلة، وحتى حين تتحدث أعلى المستويات القيادية فيه، سواء رئيس الوزراء أو وزير الحرب أو رئيس الأركان حاملة الوعيد والكلمات النارية، فإنها باتت مدعاة للسخرية من الكيان الذي "يحتفظ بحق الرد"، وكل التهديدات الجوفاء الصادرة منه تمثل لحظة ضعف، ورسالة للداخل المنهار بفعل تبدد قدرته على الردع، أكثر من كونها إشارة خطر على المقاومة.

أين كنا وكيف أصبحنا؟
في الحقيقة؛ إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في معاينة الفارق المذهل بين كل معاركنا وحروبنا مع الكيان قبل/بعد تموز 2006. فقد كانت استراتيجية الكيان وقاعدته الأولى للعمل ضد الدول العربية تقوم على مبدأ الفصل بين الجبهات، فوق امتلاكه لوسائل الردع أمام الدول العربية، مستفيدًا بشدة من انعدام العقيدة الوطنية والدينية لدى الجيوش العربية التي واجهته في أي حرب، ليبعد عن أذهان وقلوب المؤسسات العسكرية العربية المحيطة أية أفكار للتورط من جديد في نزاع مسلح، مع خصم أذاقهم مجتمعين الهزيمة وردّ جيوشهم إلى أوطانها مكللة بالعار، المرة بعد المرة.

منذ إعلان الكيان، في العام 1948، ظلت الخلطة الصهيونية للعمل قائمة وفاعلة وناجحة. والإستراتيجية الصهيونية التي تبدو ثابتة، في أية مواجهات عسكرية مع دول المواجهة العربية، تؤمن وتبني على أنه بإمكانها فصل الجبهات العربية، والاستفراد بكل جبهة في معركة واحدة، تضربها بكل ما أوتيت من قوة ومن سلاح على رأسها لتحطمها، ومن ثم، تنتقل بعدها إلى جبهة أخرى، بعد أن تكون الضربة الثقيلة الواحدة قد رسّخت "يقين الهزيمة" لدى الطرف العربي، ووضعت الطرف الصهيوني في حال "شعور النصر". وهي استراتيجية تمزج، بشكل فريد ومتكامل، بين الحرب النفسية والعسكرية والإعلامية، وللصورة والكلمة فيها مكان بجوار السلاح، وربما معه وقبله.

آتت الخطة الصهيونية أكُلها أمام العرب المثقلين بالهموم والتشرذم المروع، أصحاب النفس الأقصر في الحرب، والذين قد يتمكّنون من حشد جهودهم بالفعل لمعركة، لكن إن طال الوقت تراخت التعبئة وضعفت الحماسة، ثم تنفجر شواغلهم وخلافاتهم الداخلية وتأخذهم إلى طرائق أخرى بعيدة عن التي جمعت بينهم في البداية.
منذ البداية، وحتى العام 1982، كان دخول الطرف الجديد إلى الصراع متمثلًا في حزب الله وعقيدته الجديدة في المواجهة؛ حين دخل الإيمان في معادلة الصراع العربي- الصهيوني، نستطيع القول – مطمئنين لصدق القول ودقته- بأنّ كل شيء تغير وانقلب، فمن ثلة صغيرة صابرة مجاهدة، قبل 41 عامًا، تحوّل المحيط العربي إلى جهنم تأكل كل فرص أو إمكانات بقاء الكيان ذاته، تحوّل هذا السلاح اليوم إلى مدد إلهي لا ينقطع، وثقة تزيد في المحن وتتأكد بمعارك النار والدم. واختيار "القدس" و"الأقصى" عناوينَ للصراع فرضت على الجبهات العربية المقابلة للكيان وحدة العمل المقاوم، وبالتالي حين ردت المقاومة الفلسطينية، في غزة في السابع من تشرين الأول، على الإجرام الصهيوني غير المسبوق بحق المسجد الأقصى، درة التاج وقلب الصراع، وقف الكيان الصهيوني لأول مرة في موقف العاجز غير المصدق والمشلول الذي لا يستوعب –حتى هذه اللحظة- حجم ما أصابه من ضربات ومن ضرر ومن إهانة.

وبفضل التكتيك العبقري المبتكر للمقاومة الفلسطينية، والمتمثل في إبداع فن "الدفاع المتحرك" الذي قد يترك للعدو فرصة التقدم مئات الأمتار، قبل أن يخرج في المكان المناسب واللحظة المناسبة لضربه، ضربه بقوة وضربه بعزم وحسم شديدين. هذا الفكر الذي كسر تفوق العدو، في السلاح والإمكانات والعدد، قد حرم الكيان من مجرد الحصول على صورة واحدة يتكئ عليها لتسويق "وهم انتصار" لقطعان مستوطنيه، هذا الوهم هو كل ما يبحث عنه الصهيوني اليوم، لا أكثر.

بصمود المقاومة الفلسطينية الباسلة، في غزة، لليوم الثامن والثلاثين من العدوان الوحشي الصهيو-أميركي، وبالإمداد الهائل الذي تمثله جبهة جنوب لبنان وحزب الله، بكل ثقلها العسكري و"النفسي" على العدو، وبوجود اليمن والعراق وسورية في معادلة الحساب، يمكن الجزم بأنّ العد العكسي لنهاية الكيان قد حلّ، ومعه أفول زمن الهيمنة الأميركية على المنطقة.

إقرأ المزيد في: طوفان الأقصى