نقاط على الحروف
الجنوبيون وموعد آخر مع قصص الصمود والتضحية
لم يفهم العدو الصهيوني بعد عمق ومتانة الصلة الروحية الداخلية بين أبناء هذه الأمة والمقاومة وسيدها، وأن مراهنته على تفكك هذه البيئة المقاوِمة وانكسارها هو رهان خاسر مهما رفع سقف إجرامه وجنونه. هذه المقاومة التي كبرنا معها وبها على امتداد أكثر من أربعين عامًا، أبى شعبها أن يتركها أو يتخلى عنها، وصمود الناس وتحدّيهم ومواجهتهم بعزيمة حديدية للعدوان الصهيوني الإجرامي المستمر، هو دليل قاطع على ثبات هذه المعادلة ورسوخها.
تتراكم المواقف والمشاهدات في مخازن الذاكرة، تحتشد صور الصمود والتحدي عند كل مشهد تقف عنده، هنا ممرضة في أحد مستشفيات صور لم تترك عملها لحظة، لم تغادر سكنها ولم تنزح إلى مناطق أكثر أمانًا رغم مغادرة عائلتها للمنطقة، إيمانًا منها بأنها تقدم بعضًا من العمل المقاوم، وأن بقاءها وتقديمها للخدمات الطبية والاستشفائية للجرحى الوافدين يعدّ عملًا جهاديًا بحد ذاته.
لم تترك زينب المستشفى منذ ما يقارب الثلاثة أيام، وان كانت تريد المغادرة لأخذ قسطٍ من الراحة، فإن ساعتين في اليوم تعدّان كافيتين بالنسبة لها. إصرار وعزيمة زينب انسحبت أيضًا على العديد من زملائها في العمل الذين رفضوا ترك عملهم في مختلف الأقسام، يضاف لهم العديد من الأطباء من مختلف الاختصاصات الذين توافدوا بدورهم إلى المستشفى منذ لحظات العدوان الأولى لاستقبال المصابين وتقديم كل ما يمكن تقديمه.
مشهدٌ آخر في أحد شوارع المدينة، سيارات مصطفّة بشكل مزدحم عند إحدى محطات الوقود التي لم تقفل أبوابها، قبل فتحها بساعات قليلة أغار الطيران الحربي الصهيوني على بُعد كيلو متر واحد في أحد البساتين القريبة منها. أبى أصحاب المحطة أن يقفلوها بوجه الناس. العاملون فيها استمروا في تقديم الخدمة حتى انتهاء كميات الوقود المتوفرة لديهم، آخذين بالحسبان تأمين الوقود لسيارت الإسعاف الوافدة إليهم بقدر ما هو متاح.
على المدخل الجنوبي لصور اجتمع عدد من النازحين في إحدى الحدائق العامة لحين انتقالهم الى مراكز الإيواء بالتنسيق مع اتحاد البلديات والجمعيات الأهلية. تكثر الأحاديث بين النازحين المتكاتفين القادمين من قرى مختلفة، لكن ثمة عبارات مشتركة بإمكانك سماعها في كل زاوية وعند كل "جَمعة" محتشدة من الأهالي، خلاصتها: " البيوت كلها فدا المقاومة وسيدها." بعضهم يبحث بين النازحين ليشاركهم ما لديه من ماء وطعام، وبعضهم الآخر يحاول تأمين الفرش وكل ما بإمكانه تأمينه، عملًا بمبدأ الأخوة والعز المشرّف الذي تربى عليه أبناء الجنوب.
في المكان عينه يلفت نظرك مشهد رجل مسن يجلس على حافة إسمنتية وبيده سيجارته، يراقب الناس ويسلّم على عدد من المارّين بحفاوة، وبعد سؤاله تبين أنه نازح للمرة الثانية بعدما تهدّم منزله الكائن في قرية طير حرفا الحدودية مما دفعه للنزوح في المرة الأولى. ابتسامته الهادئة اختزنت الكثير من الإيمان والتوكل، لم يكن مهتمًا إن كان سيتمكن من المغادرة أم لا، لكنه أصر على أن البقاء في الجنوب بالنسبة له هو كل ما يريده. "نحنا متكلين ع الله وع المقاومة، وحتماً منتصرين"، ودّعنا الرجل بكلماته هذه دون أن تفارق ثغره ابتسامة اليقين ودموع العزّة التي ازدحمت في عينيه دون أن يتسلل منها دمعة.
شارع آخر هدأت فيه حركة الناس إلى حد كبير، المحال التجارية مقفلة بأكملها، لكن سرعان ما رصدنا صيدلية فتحت أبوابها للزبائن. لم يقفل صاحب صيدلية أبوابه بوجه الناس، تراه يتنقل بسرعة بين الرفوف لتأمين أدوية الوافدين إليه دون أي تأخير، وفي السياق علمنا أنه لم يقفل الصيدلية لأن هدفه تيسير أمور الناس الصامدين لكي لا ينقطعوا من أدويتهم لا سيما وأن العديد من الصيدليات في المنطقة قد تكون اقفلت أبوابها بسبب اشتداد حدة القصف، "رح ضل اخدم الناس ويلي كاتبه ربنا بدّو يصير" ختم صاحب الصيدلية.
ما ذُكر آنفًا ليس إلا جزءًا يسيرًا من المشهد العام الحالي، مشهد التآخي والصمود الذي اعتاد الجنوبيون عليه طيلة محطات تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني، ليثبتوا هذه المرة كما في كل معركة سابقة، أنهم متجذرون في أرضهم ثابتون فيها، هذه الأرض التي بذلت لأجلها الأرواح وقدّمت على مذبح بقائها وصمودها دماء أبنائها الأطهار، وهي وإن طال الانتظار، فإن موعد لقائها بأبنائها قريب، لقاء مكلّل بالعزّ والنصر الإلهي المحتوم.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
02/12/2024
كيف حقّقت المقاومة نصرها العسكري والسياسي؟
30/11/2024
قراءة في خطاب النصر!
28/11/2024
شواهد من يوم النصر الأعظم
28/11/2024
نصرك هز الدنيا.. ولو بغيابك يا نصر الله
28/11/2024