مقالات مختارة
حرب الإبادة بنسختها اللبنانية: "إسرائيل" تريد سحق المقاومة
إبراهيم الأمين - صحيفة الأخبار
السمعة، الهيبة، الثقة والقدرة! سمات تميّز بها حزب الله في مسيرته النضالية ضدّ "إسرائيل". وهي سمات رسمت خطه التصاعدي بناءً على ما حقّقه طوال أربعين عامًا من القتال المستمر، وجعلته يتقدّم الصفوف في كلّ حركات التحرر الوطني المعاصرة، متفوّقًا على من سبقوه ومن رافقوه أو من كانوا إلى جانبه في المعركة المفتوحة ضدّ "إسرائيل".
في كلّ جولة من جولات الصراع مع العدو، أو حتّى في التحديات الاضطرارية التي واجهها في سورية والعراق واليمن، نجح الحزب في تعزيز مكانته المتقدّمة، والتي أهّلته ليكون مثالًا عن فصائل المقاومة في فلسطين، حيث الدور الأبرز في وجه العدوّ الأول.
لم يركن حزب الله إلى نجاحاته ليبقى أسير مربع جغرافي أو حزبي خاص، بل تفاعل مدركًا أنه سيتحمل مسؤولية أن يكون مدرسة، لها ساحتها المركزية في لبنان، لكن لها ساحات دعم وعمل وتطوير تمتد على مستوى الإقليم أيضًا. وكان العدوّ يطارده ويراقبه ويدرسه، حتّى صار الحزب الهدف المركزي لكل برامج العمل "الإسرائيلية" علنًا، أو التي تتعاون في تنفيذها مع الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبية أخرى، إضافة إلى حلفاء هؤلاء من العرب بقيادة السعودية والإمارات والأردن، وجوقة من خصوم حزب الله في سورية والعراق، كما بقايا 14 آذار في لبنان.
وفق هذه النتيجة، نظّم العدوّ أدواته للمواجهة، وسخّر بعد حرب 2006 موارد هائلة في برامج هدفها الجوهري تقويض السمات التي ميّزت الحزب عن غيره. فانطلقت حملة شيطنة الحزب، وتحويله من قوة تحرّر وطني إلى ميليشيا مارقة، بالتزامن مع تحرّشات في لبنان ومناطق أخرى من العالم، لجرّه إلى صغائر بلادنا من أجل كسر هيبته. لكن ذلك لم يكن ليوفّر النتائج التي يريدها العدو، وهو الأمر الذي أخذ شكلًا جديدًا بعد "طوفان الأقصى".
ليس صحيحًا أن "إسرائيل" فوجئت بقرار حزب الله الشروع في معركة إسناد قطاع غزّة. والعدو الذي يعرف كثيرًا عن العلاقة بين حزب الله وفصائل المقاومة في فلسطين، وخصوصًا حركتي حماس والجهاد الإسلامي، يدرك مركزية قرار العدوّ بـ"معاقبة" حزب الله على دوره المركزي في دعم فلسطين. ويتصرف العدوّ على أن له في ذمة الحزب دينًا متراكمًا يريد تحصيله الآن أو في أي فرصة متاحة له. ووجد في مواجهة معركة الإسناد مدخلًا لتجريب أساليبه الجديدة في مواجهة الحزب.
صحيح أن قواعد الاشتباك فرضت على العدوّ الكثير من القيود، لكنّه كان يحاول طوال الوقت البحث عن منافذ لتجاوزها، فتعمّد القيام بعمليات قصف أو اغتيال، لم تكن تستهدف فقط من يقود معركة الإسناد، بل أيضًا من يعتبرهم عناصر مركزيين في القيادة العسكرية للحزب، مستندًا إلى عقلية الثأر التي تسيطر عليه. فعمد إلى قتل مقاومين فقط لأنهم شاركوا في عملية أسر الين في 12 تموز عام 2006، ثمّ لجأ إلى اغتيال من يحمّله مسؤولية إرسال مقاتل فلسطيني مع عبوات ناسفة لتفجيرها في منطقة مجدو في 13 آذار 2023، وتقصّد اغتيال من ساعد المقاومة في فلسطين على إدارة برامج تقنية خاصة. إلى جانب عمله الدؤوب ضدّ من يعتقد بأنهم يقومون بدور تنسيقي يومي مع قطاع غزّة، قبل أن يشرع في ورشة تستهدف كوادر الحزب الذين يعتقد بأنهم يتولون المسؤولية عن عمليات تهريب الأسلحة والذخائر إلى الضفّة الغربية أو تجنيد خلايا تعمل في عمق الكيان. وإلى ما قبل ساعات قليلة من عملية "النداء القاتل"، سرّب العدوّ أخبارًا عن عمليات فشل حزب الله في تنفيذها ضدّ قادة عسكريين سابقين في جيشه، وهو يسعى خلف من يقول إنهم يديرون الأمر.
مع ذلك، يدرك العدوّ أن كلّ ذلك لا يصيب مركز الثقل في المقاومة. ولذلك، قاد أكبر عملية جاسوسية في تاريخ الصراع مع قوى المقاومة في المنطقة. وكان يحضّر المسرح لتنفيذ عمليات يراها ضرورية في سياق التمهيد للحرب الكبرى. سابقًا وحاليًا، وخلال 15 عامًا، نجح جهاز أمن المقاومة في لبنان، أو فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي وبقية الأجهزة الأمنية، في تفكيك مئات شبكات التعامل مع العدو، وكشفت حصيلة ما قام به هؤلاء، عن حجم العمل الهائل الذي يركّز عليه العدوّ في هذه الحرب. ولم تقتصر الاختراقات "الإسرائيلية" على البيئة العامة المعادية للمقاومة، بل دخلت في قلب البيئة اللصيقة بالحزب، وصولًا إلى اختراق الجسم نفسه، وهي اختراقات شارك فيها الأميركيون أيضًا، وتوجد في سجلّ المواجهة قائمة بأسماء عدد غير قليل من عناصر الحزب، وبينهم كوادر في مراتب عسكرية وأمنية عالية، تبيّن أنهم وقعوا في شبكة الاستخبارات "الإسرائيلية"، وبعضهم تسبّب بإفشال أنشطة حساسة للمقاومة، وبعضهم الآخر، كشف عن بعض أسرار المقاومة العسكرية.
وإذا كان حزب الله لا يحب الحديث عن الحرب الأمنية بينه وبين العدو، ويحاذر الإدلاء بمعلومات عن طبيعة ما يجري على هذه الجبهة، فهو مقتنع بسياسة يراها الأنسب لمصلحة المقاومة. لكن ذلك، لا يجعل الحزب في حالة إنكار إزاء النشاط المعادي. وفي كلّ مرة تظهر فيها نتيجة مؤلمة لهذه الأنشطة التجسسية، يجد الحزب نفسه أمام استحقاقات من نوع مختلف.
ومع اشتداد وطأة حرب الإسناد للمقاومة في غزّة، تصرّف العدوّ على أساس قناعته، عن صواب أو خطأ، بأن حزب الله يقف خلف معظم ما يجري في الضفّة الغربية، وضخّ القدرات عبر الحدود مع الأردن، وأنه مسؤول أيضًا عن عمليات "أنصار الله" في قلب الكيان، وأنه يدير عمليات المقاومة العراقية، إضافة إلى نتائج حرب الإسناد على شمال الكيان. كلّ ذلك، أوصل العدوّ إلى قرار بتفعيل برنامجه الجديد في مواجهة المقاومة. وهو يتصرّف على أساس أنه بات مضطرًا للانتقال إلى مرحلة جديدة من المواجهة.
ومفيد هنا التوضيح بأن تصعيد الوضع مع لبنان لا يتعلق بتراجع مستوى الحرب في غزّة، ولا بالتأثيرات العربية والدولية التي جعلته يضبط حملته العدوانية في الضفّة الغربية، بل يتعلق الأمر، بأن العدو، كان على قناعة تامة بأن حربه الكبيرة مع حزب الله آتية لا محالة. وفي عقله ثابتة، بأن هذه الحرب ستحصل، سواء بدأها حزب الله أو وجدت "إسرائيل" طريقها الأنسب للدخول فيها.
بناءً على هذه الوقائع، يمكن قراءة ما يحصل على جبهتنا منذ أيام قليلة، حيث وضعت قيادة العدوّ أمامها هدفًا مركزيًا، عنوانه: توجيه ضربات قاسية ضدّ حزب الله، والسعي إلى جعله في موقع لا يمكنه فيه إسناد غزّة، ولا الدفاع عن نفسه، ولا تهديد "إسرائيل". وليس صحيحًا أن العدوّ كان ينتظر مساعي الأميركيين السياسية، ليس لأنه لا يثق أصلًا بقدرة الأميركيين على تحقيق ذلك، بل لمعرفته العميقة بعقل حزب الله، وبأن لا شيء يردعه عن إسناد غزّة. وبالتالي، فإن العلاج، يحتاج إلى عملية جراحية قاسية تقوم بها "إسرائيل" بنفسها.
عمليًا، أطلق العدوّ حملته الجديدة، مستهدفًا السمات المركزية في صورة حزب الله. لجأ من خلال الاغتيالات وقتل المئات من المقاومين وصولًا إلى اغتيال القائد فؤاد شكر، معتبرًا أن ذلك سيصيب سمعة الحزب القوي، وسيجعله محط استخفاف من جانب خصومه، مستفيدًا من جوقة عملاء لبنانيين وعرب وغربيين يتولّون الجانب الدعائي من المهمّة. وهي مهمّة ضرورية في حسابات العدوّ قبل الانتقال إلى مرحلة التعرض لهيبة المقاومة، من خلال إظهاره ضعيفًا غير قادر على ردّ الصاع صاعين. وهذا أمر حاول التسويق له بعد كلّ رد قام به الحزب على ما يتعرّض له من اغتيالات. ويتّكل العدوّ في هذا الجانب، ليس على الإيلام الذي تتسبب به عملياته العسكرية، بل على السردية التي يراد تثبيتها في السجال حول جدوى جبهة الإسناد. لكن العدوّ الذي يعرف أن كلّ ذلك لا يحقق الغرض المنشود، انتقل إلى أكبر عملية استعراض لتفوّقه الأمني ومرفقاته من القدرات التقنية، لزرع الشكوك في نفوس مؤيدي المقاومة حول ما يقوم به الحزب. وأعماله الأمنية الكبيرة أطلت برأسها قبل دقائق من بدء عملية "يوم الأربعين"، حين شنّ حملة جوية واسعة، لم تنجح في تعطيل الرد المقرر من الحزب، لكنّها ألقت بثقلها الأمني على عقل الحزب وآليات عمله. ثمّ لجأ بعدها إلى اللكمات المتتالية على الوجه مباشرة، من خلال ما فعله في اليومين الماضيين، حين قدّم صورة "المتفوّق الأسطوري" الذي لا يمكن مجابهته، وزرع الشك بأنه يخترق كلّ جسم وعقل الحزب، وبمقدوره الوصول إلى أي مكان يريده، مستفيدًا من العملية الأمنية المعقّدة التي نفّذها بنجاح، من لحظة التفكير بها، إلى توفير عناصرها البشرية واللوجستية التي مكّنت العدوّ من الوصول إلى تحديد حاجات الحزب من الأجهزة الخاصة بالتواصل، ثمّ الوصول إلى مرحلة زرع متفجرات في الأجهزة، سواء تم ذلك في مركز المنشأ، أو من خلال عملية تبديل جرت بعد اعتراض الشحنة وهي في طريقها إلى المقاومة.
عملية "النداء القاتل"، أول من أمس، شكلت بالنسبة إلى العدو، نجاحًا في معركة الصورة والفعل معًا. فهو مسّ للمرة الأولى بعنصر الثقة المركزي في علاقة المقاومة بناسها وأهلها. وعندما لجأ إلى تفعيل الجزء الثاني من العملية أمس، كان يستهدف تعزيز نظرية الشك، وجعلها تحتلّ مكانة الثقة، بدفعه أهل المقاومة مباشرة، والمحيط الاجتماعي، والبيئة الصديقة، إلى طرح أسئلة محيّرة إزاء كيفية التعامل مع عناصر المقاومة ومراكزها ومؤسساتها. وتكفي ملاحظة سهولة إطلاق الشائعات حول ما يمكن أن يصل إليه العدوّ ليفجّره في التجهيزات الموجودة في كلّ سيارة أو مكتب أو منزل، لنكون أمام لحظة حساسة، إزاء علاقة الثقة والاطمئنان التي ميّزت علاقة المقاومة بناسها وجمهورها، وحتّى بالداعمين لها.
ولكن، يبقى الهدف المركزي للعدو الوصول إلى القدرات العسكرية التي يملكها حزب الله على مستويات مختلفة. وهي القدرات التي تشمل البشر والإمكانات، وصار من المنطقي الأخذ في الاعتبار أن العدوّ الذي حقّق نجاحات في ما سبق، قد يكون لديه ما يساعده على تحقيق هذا الهدف. وبالتالي، فإن المنطق يقول إن العدوّ يستعد فعليًا لمرحلة جديدة من المواجهة القاسية مع الحزب، تستهدف قدراته الكبيرة بشريًا وعسكريًا. وهو ما يجعل الحديث عن الحرب الشاملة حديثًا واقعيًا. وما يفعله العدوّ معنا هو شكل من أشكال حرب الإبادة، ولو أنه اختار لها، حتّى الآن، صورة مختلفة عن الجرائم الوحشية التي يقوم بها في فلسطين.
أن يلجأ العدو، إلى تفعيل عملية، يستهدف فيها أكثر من عشرة آلاف شخص، بين عسكري ومدني، يتواجدون في مراكز أو مواقع أو في منازل ومراكز عمل، فهو يكون قد قرّر أن حربه معنا، أدخلتنا جميعًا، في معركة بلا ضوابط وبلا سقوف وبلا حدود، وقد يكون من غير المجدي أن ننتظره ليرمي لنرد أولًا!
المقاومة الإسلاميةحزب اللهالكيان الصهيوني
إقرأ المزيد في: مقالات مختارة
04/10/2024
هل نعرف من نقاتل؟
03/10/2024
إلى سماحة الشهيد السيد
02/10/2024