نقاط على الحروف
قراءة في الخطاب الإستراتيجي للسيد نصر الله
كما جرت العادة في كل مرّة يطل فيها الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، يترقب الجمهور في العالم العربي وفي الإقليم خطابه بفارغ الصبر، وكذلك الأمر بالنسبة للعاملين والمهتمين بالشأن السياسي والشأن الإعلامي في المنطقة والعالم، فما بالك إن كان خطاب سماحته قد أتى بعيد ساعات من عملية عسكرية واسعة نفذها مجاهدو حزب الله ضد كيان الاحتلال في إطار الرد على إجرامه واعتدائه على العاصمة اللبنانية بيروت واغتياله القائد العسكري الكبير في حزب الله السيد فؤاد شكر، حيث خصص سماحة السيد خطابه للحديث عن عملية الرد ومقدماتها وتفاصيلها ونتائجها وأبعادها، وكل ذلك في إطار المعركة التي انطلقت منذ قرابة 11 شهرًا بعيد عملية طوفان الأقصى..
وعلى الرغم من أن سماحته قد أسهب في التفصيل والشرح والتبيين، فإن ذلك لا يمنع من قراءة خطابه بالعمق الذي يستحقه في محاولة للوصول إلى ما يستبطن بين السطور وخلف العبارات، وتلقف الرسائل والأبعاد التي يمكن أن تكون خفيت على الكثيرين..
بدأ السيّد خطابه بالجانب الوجداني مرسلاً تحياته إلى المجاهدين والمرابطين على الثغور والجبهات، وللمقاومين في غزة وجبهات الإسناد في العراق واليمن، ولطالما رأى أولئك المقاومون والمجاهدون في كلمات سماحته حافزاً إيمانياً صادقاً لهم لشحذ الهمم والإصرار على تحقيق النصر ..
وأما المحور الثاني؛ فقد خصصه السيد للتذكير بأسباب ودوافع العملية العسكرية، والتي اختصرها بالتأكيد على النهج الثابت للمقاومة المتمثل بالالتزام بالرد على العدوان "الإسرائيلي" بشكل عام وعلى الضاحية الجنوبية لبيروت بشكل خاص، وهو التزام لطالما عبّر عن مصداقية الحزب، وصدقية وعيده ووعوده التي يئس المشككون المغرضون من تكذيبها، وهو التزام لازمٌ لتثبيت معادلات الردع التي بذلت من أجلها الدماء كما قال سماحته.
وفي المحور الثالث؛ استفاض سماحته في شرح عوامل تأخر الرد، وأهمية هذا التأخير في سياق المعركة، فتحدث عن الاستنفار الأميركي "الإسرائيلي"، وهذا يعني أن المقاومة تمكنت من اختراق جدار التحسب والاستنفار لدى العدو/ بالرغم من إمكانياته الهائلة، وهذا بحد ذاته يشكل نجاحاً استثنائياً للمقاومة على الصعيدين الاستخباراتي والعسكري، ثم تحدث عن تأثير عامل التأخير على العدو "الإسرائيلي"، معتبرًا التأخير عقاباً له، وفي الحقيقة فهذا الكلام موجه بالدرجة الأولى للداخل "الإسرائيلي" المهتز أصلاً من حالة الرعب التي أصابته ترقباً للرد قبل وقوعه ..
وأما سياسياً، فإن تأخر الرد مثّل فرصة لمفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، وبمعنى آخر فإن الحزب وبالتنسيق مع جبهة المقاومة استثمر سياسياً ما أمكن في تأخير الرد للضغط على الأميركي و"الإسرائيلي" معاً، وهذا الاستثمار ينطبق على خيار المحور بأن يكون رد الحزب منفردًا، وأن يكون لكل جبهة ردها الخاص، ولعل ذلك ما أشار إليه السيد عندما تحدث عن حكم تظهر مع الوقت.
أما المحور الرابع؛ فقد خصصه السيد للحديث عن آلية وضوابط اختيار الهدف وطبيعته، وبالرغم من أن المقاومة لديها المبرر القانوني لاستهداف المستوطنين (المدنيين) والبنى التحتية ردًا على جريمة العدو، فإن الحزب قرر ألا يكون الهدف مدنياً أو بنيةً تحتية، واختار أن يكون هدفاً عسكرياً، وأن يكون له صلة بعملية اغتيال القائد فؤاد شكر، ولعل الحزب يريد بذلك أن يظهر للعالم بأن عمليته تأتي في سياق الرد على جريمة العدو، كي يسحب الذرائع التي تعطي نتنياهو الفرصة لتوسيع المعركة، على اعتبار أن إستراتيجية جبهة المقاومة تقوم على استمرار وتعزيز الردع والاستنزاف.
وبناء على ذلك، أوضح السيد أن الاختيار وقع على قاعدة "غليلوت" كهدف أساسي، حيث يوجد فيها الوحدة 8200 المعنية بالتجسس والتنصت، والتي تبعد عن حدود لبنان 110 كلم، والواقعة في ضواحي "تل أبيب"، أي أن الحزب اختار هدفاً عسكرياً استخبارياً كان مسؤولاً بشكل مباشر عن عملية الاغتيال تعزيزًا للانتقام، وأن هذا الهدف يقع في العمق "الإسرائيلي" في ضواحي عاصمة الكيان كردٍ على استهداف ضاحية العاصمة اللبنانية بيروت الجنوبية.
أما المحور الخامس؛ فقد خصصه سماحة السيد لشرح تفاصيل وسير العملية العسكرية، والتي تم تنفيذها وفقاً لمسارين أو مرحلتين، تضمن المسار الأول إطلاق 340 صاروخ "كاتيوشيا" على القواعد والثكنات العسكرية في شمال فلسطين المحتلة وبعمق وصل إلى 50 كلم، مما أسهم في مشاغلة وإشغال "القبة الحديدية" والصواريخ الاعتراضية، وهو ما سمح وعبر المسار الثاني للرد بعبور الطائرات المسيرة التي وصلت إلى الهدف الرئيسي في ضواحي "تل أبيب" من دون اعتراض.
وكأن السيد يريد إيصال رسالة للعدو مفادها "مهما بلغ حجم التكنولوجيا العسكرية التي لديكم ولدى حليفكم الأميركي، فإن المقاومة لديها من الإمكانيات والتكتيك العسكري ما يجعلها تخترق حصونكم و تدك أهم معاقلكم، وأنها -أي المقاومة- قادرة على تنفيذ عملياتها بدقة شديدة مهما بلغ حجم استعدادكم".
أما المحور السادس؛ فلعله كان المحور الأطول في خطاب سماحة السيد، وقد خصصه لتفنيد وفضح أكاذيب قادة جيش العدو ورئيس الحكومة الصهيونية "نتنياهو" وادعاءاتهم المضللة، سواء قبيل العملية العسكرية أو بعدها، وقد نفى السيد بشكل حاسم وجازم ما ادعاه نتنياهو وجيشه حول تدمير آلاف الصواريخ الباليستية للحزب أو منصاتها، كما أكد سماحته أن الحملة الجوية التي قام بها سلاح الجو "الإسرائيلي" قبيل نصف ساعة من عملية الرد لم تكن بناء على معلومات استخباراتية، بل لأن العدو شعر بحركة المجاهدين، وأن القصف الجوي الذي سبق عملية الرد والذي جاء بعدها استهدف ودياناً خالية من الصواريخ الباليستية ومنصاتها.
وبذلك أراد السيد القول، إن العدو كاذب، وإنه يكذب على الجمهور "الإسرائيلي" للتغطية على نجاح عملية المقاومة وعلى نتائجها، وإنه فاشل وعاجز استخباراتياً، بالرغم من الدعم الأمريكي ودعم "الناتو"، وأن الحزب لديه التكتيك والإمكانيات الكافية لتضليل العدو وإصابته بالعمى التكنولوجي والاستخباري، وأن قدرات المقاومة الصاروخية والباليستية والإستراتيجية بخير، وأنها لم تدخل المعركة بعد ..
وعندما قال سماحته إن الصواريخ الإستراتيجية يمكن أن تدخل المعركة في المستقبل والمستقبل القريب، فهو بذلك يعمق من مأزق العدو عبر رفع منسوب الردع إلى الردع الصاروخي المؤثر والقادر على قلب المعادلات في حال غامر الكيان بتوسيع الصراع او إعلان الحرب الشاملة على لبنان.
وبكل الأحول فإن مصداقية السيد لدى الجمهور الإسرائيلي تفوق بكثير مصداقية قادة جيشه وقادته السياسيين، ولعل ذلك هو أكثر ما يصيب أولئك القادة بـ"الهيستريا".
وفي المحور السابع؛ تحدث سماحة السيد عن أهمية ونتائج عملية الرد الأولي التي أطلق عليها عملية "يوم الأربعين" لتزامنها مع ذكرى أربعين الإمام الحسين عليه السلام، وأغلب الظن أن اختيار ذلك التوقيت لم يكن من باب الصدفة، فالرد كان ردًا على الظلم وعلى الإجرام والقتل العابر عبر السنين والعصور ..
"العملية العسكرية أنجزت بدقة كما خطط لها بكل تفاصيلها رغم الظروف الصعبة"، قالها السيد مؤكدًا ومثنياً على شجاعة المقاومة ومن يؤيدها ويساندها رغم التهويل الأميركي والغربي، وهذه رسالة من سماحته بأن جبهات الدعم والإسناد كانت وما زالت على استعداد للدخول إلى جانب المقاومة اللبنانية في حال فكر العدو وداعميه بالرد على "عملية الأربعين" ..
وفي جانب آخر مهم نبّه سماحته إلى نقطة في غاية الأهمية، عندما قال إن هذه العملية هي أول عملية كبرى للمقاومة في غياب قائد كبير كالسيد فؤاد، وهو بذلك يوجه رسالة طمأنة لجمهور المقاومة بأن غياب القادة الكبار لن يؤثر في عمل المقاومة وفي قدراتها، وأن هؤلاء القادة بنوا نهجاً وهيكلاً مقاوماً لا يفنى ولا يتأثر بغيابهم، وأن دماءهم وأرواحهم حاضرة في كل ساح وميدان.
أيضاً كان من نتائج "عملية الأربعين" التي تحدث عنها السيد، هو مشهد التوازن (توازن الرعب) الذي ظهر في الكيان "الإسرائيلي" في "تل أبيب" وفي مطار "بن غوريون"، حيث أوضح السيد أن توازن الرعب هذا هو المعادلة التي عاد الحزب لتكريسها لحماية لبنان من العدو "الإسرائيلي" الذي يتفوّق في السلاح والقدرات الفنية والعدد وفي ظهره أميركا و"الناتو"، ورسالة السيد في ذلك هي القول للصهاينة بأن الرعب سيبقى مخيماً فوق رؤوسكم في كل لحظة وكل حين من هذا الصراع الوجودي.
في المحور الثامن والأخير؛ ختم السيد خطابه بالحديث عمّا بعد الرد الأولي و"عملية الأربعين"، وترك الباب مفتوحاً للمزيد وربما الكثير من المواجهة مع العدو في حال لم يرتدع.
بمعنى آخر، فإن السيد ترك السيف مسلطاً على رقبة الكيان "الإسرائيلي"، مؤكداً أن جبهة المقاومة ستبقى خلف المقاومة الفلسطينية في غزة ولن تسمح بإجبارها على تقديم التنازلات أو هزيمتها، وأن الجبهة لن تقبل بالتنازل أو التراجع عن المكتسبات والنتائج التي حققتها منذ انطلاق طوفان الأقصى، وأنها تملك من القوة ما يكفيها للتحكم بمسارات المعركة والصراع بما يسهم في مراكمة الانتصارات وتعميق مأزق الكيان وحليفه الأمريكي.
"نحن قوم لا نقبل بذل، ولا نحني الرقاب لأحد، دمنا المظلوم سينتصر على السيف" .. بهذه الكلمات من وحي المناسبة العظيمة ختم السيد رسائله للعدو.
الكيان الصهيونيالسيد حسن نصر االلهالمقاومة
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
02/12/2024
كيف حقّقت المقاومة نصرها العسكري والسياسي؟
30/11/2024
قراءة في خطاب النصر!
28/11/2024
شواهد من يوم النصر الأعظم
28/11/2024
نصرك هز الدنيا.. ولو بغيابك يا نصر الله
28/11/2024