آراء وتحليلات
السيد محسن.. صخرة تعاظمت جبلًا
ترافق مع الغارة على الضاحية الجنوبية، وقبل تكشّف الحقائق، سقوط التحليلات والتكهّنات فوق الرؤوس أسرع من تساقط الركام إلى الأرض. ولن أتحدّث هنا عن التحليلات الإيجابية والمواقف الداعمة، لأنها برأيي هي السياق الطبيعي في أيّ مجتمع عزيز يطلب سيادته والحفاظ على كرامته ووجوده، ولكن سنتحدّث عن المبالغات التي كانت أشبه بمكنونات النفوس من التمنّي الدفين، المقرون بالإلغائية العدوانية التي يمتاز بها العدو، والشريك المتعامل أو التابع للعدو.
مما لا شكّ فيه أن الأمر كان صادمًا ومفاجئًا، حتّى ظنّ البعض ومن الجمهور نفسه أن المقاومة قد ضُربت بمقتل. أما الآخرون ممن لا يتقنون سوى رشق الثمار بالحصى، فلم ينالوا من نظرية نيوتن سوى أن سقطت الثمار الثقيلة فوق رؤوسهم فأفقدتهم صواب القراءة، وخلّفتهم بخيبة تتكرّر مع كلّ دورة تذلل يقدمونها للخارج أو رهان على فشل المحور.
ماذا حصل في الضاحية؟
اهتزّت الضاحية على خبر قصف المبنى الذي يقطن فيه القائد العسكري في حزب الله، السيد فؤاد شكر والمعروف بالسيد محسن. النبأ كان فيه من الصدمة ما فيه بالنسبة للمحبّ لاعتباره فقد مجاهدًا قائدًا على مستوىً عالٍ من القيمة العسكرية والمعنوية في هذه المنظومة. أما بالنسبة للآخرين، فكانت عبارة عن صيدٍ عظيم تمكّن منه العدوّ في معركته ضدّ خصمهم السياسي أو لنكن أكثر وضوحًا، ضدّ خصمهم الوجودي.
وهنا السؤال، هل اغتيال السيد شكر نهاية حزب الله؟ وهل نحن أمام بداية تلاشي الحصن الأمني للحزب؟
السيد محسن شكر هو قائد عسكري له الكثير الكثير من الجولات العسكرية ضدّ العدوّ الصهيوني، "الإسرائيلي" والأميركي على حدّ سواء. إلى حدّ أن الأميركي نفسه قد وضع مكافأة 5 ملايين دولار أميركي لمن يرشدهم إليه. وهنا يذكروننا بالجملة الشهيرة التي اعتمدها الأمويون "كذا من الدراهم لمن يأتينا برأسه"، ليقفز نتنياهو بعد أربعين عامًا من الانتظار، ويصرخ "اشهدوا لي عند الأمير أني من قتلته". حتّى أن "الإسرائيلي" نفسه لم يكن يصدّق أنه تمكّن منه، فأطلق الكثير من التصريحات بعد عملية الاغتيال أنه "قد قتلنا السيد محسن". ألهذا الحدّ كان يُرعبهم!
بعد عملية إنهاء الوجود الأميركي العسكري في لبنان، وقتل المارينز وتفجير السفارة الأميركية في لبنان، طلبت أميركا رأسه، واستمرّ بالعمل رغم أنف الأميركي لمدّة أربعين عامًا وبوتيرة تصاعدية مكّنته من بناء هيكليات عسكرية أُنشئت على فكره وعقيدته وقوّته للتصدّي لهذا الاحتلال الصهيوني والمشروع الاستعماري في المنطقة، فمن تُرى الرابح في هذه المعادلة؟
يضع السيد محسن، كما جميع رفاقه وأخوانه في هذه المنظومة، قاعدة ذهبية لانطلاقتهم في العمل، إما النصر أو الشهادة، ويعتبرون الأول نصرًا للأمة والأخرى نصرًا فرديًّا ومكافأة نهاية الخدمة كما نعرّفها نحن بمنطقنا الدنيوي. وقرأنا بالأمس أيضًا عن عهد قطعه السيد مع تسعة من رفاقه، أسموه عهد العَشرة، أن يكونوا معًا شهداء، وقد سبقوه جميعًا ليبقى هو خاتمة العشرة الذي لم يخلف ميعادًا له معهم.
أربعون عاما بعد طرد أقوى قوة عسكرية في العالم من لبنان، تراكمت فيها خبرات استراتيجية وعسكرية ميدانية ولوجستية كان يبلورها على شكل مؤسسات ومخطّطات مكّنت المقاومة من فرض معادلات الردع والتفوّق الميداني في مواجهة العدو، والكثير مما لا نزال نجهله. لذا فعلى المستوى العسكري نجد أن الأميركي فشل لمدّة أربعين عامًا في إحباط مساعي السيد محسن للعمل والتطوير والتقدّم في مواجهة المشروع الأميركي في المنطقة، أي أنّه لم يتمكّن من إيقاف مهامه ولا نقل خبراته وفكره إلى الكوادر التي تليه وتشاركه العمل في هذه المنظومة، وبالمعنى العسكري، فإن السيد محسن شكر طرد الأميركيين عندما كان شابًا شجاعًا، ولم يتوقف حتّى أورث جمعًا كبيرًا من سنخيته المعرفة الكافية والقدرة المقرونة بالعلم والتدريب للتصدّي لهذا المشروع. أربعون عامًا من الفشل الأميركي، منحت المقاومة الكثير من الوقت للاستفادة من هذا القائد الذي استحقّ النعيم مكافأة لسعيه الدؤوب لنصرة الحق والوقوف بوجه الظالم. وبذلك فشل الأميركي في أن يعطّل المنظومة المتوسّعة في وجهه، وفشل في عرقلة انتقال هذه المواجهة من فرد إلى مجموعة أكثر قدرة عددية وعتادية وكفاءة لمجابهة معاركه المتوالية على المنطقة، ولم يستطع اغتيال الفكرة الناشئة التي أسست وجودًا متكاملًا وزُرعت في الكثير من الأفراد، واكتفى بقتل رمزية تُشبع غروره ولا تخدم معاركه الفاشلة، فهو قتل فردًا من منظومة عريضة باتت هي بكلّها السيد محسن.
وعليه، يشتبه على البعض موقف الحزب المتماسك بعد أي اغتيال لقادته، لكون هذا البعض ما زال يستقي مفاهيمه السياسية وقراءاته من مؤسسات الشخص الواحد لا المؤسسات العقائدية المبنيّة على فكر المنظومة المتكاملة والنهج المتنامي الأطراف. وهكذا نجد التحليلات نفسها، فيما لو أردنا المقارنة، بعد استشهاد السيد عباس الموسوي، والحاج عماد مغنية والسيد مصطفى بدر الدين، جميعهم قادة وعلى مستوى رفيع، ولكن النتاج العسكري الذي كان يلي غيابهم لم يسجّل انحدارًا قط من حيث الأداء والتطوّر والإنجازات، بل كان دومًا تقدّميًّا خلّاقًا، ليس فقط على قاعدة "المقاومة ولّادة"، بل لأن هؤلاء القادة أنفسهم أبناء نهج ومنظومة لا شخصانية فيها، ولأن الأثر الشخصي الوحيد الذي يتركه غياب القائد، هو الفقد الذي يستشعره رفاق دربه من جهة، وتستشعره البيئة التي تحترم وتقدّر عطاءات قادة هذه المسيرة وتأتمنهم أبويًا على وجودها.
أما من حيث الإنجاز الأمني الذي تغنّى به العدوّ باغتياله للسيد محسن، فمنذ الإعلان الأول عن استهداف السيد محسن حتّى الآن، قرأت الكثير من الأخبار التي تُحدّث عن لقاءات أشخاص به، وهم لا يُعدّون من الشخصيات الأمنية التي تمتلك خصوصية الالتقاء بشخصية أمنية غير معروفة، كما قرأنا الكثير عن مشاركاته في المجالس الحسينية العامة في الضاحية وبيروت بشكل عام. حتّى أنه لم يكن يخفى، على فئة عريضة من المجتمع، مكان إقامته، إلا أن تنقلاته كانت لها طابع خاص وهذا ديدن مختلف الشخصيات المستهدفة. فالاستهداف لم يُبنَ على مستوىً عالٍ من الأمنيات التي لا يُمكن اختراقها، كما لا حاجة فيه إلى خائن أو عميل كما يهدف البعض لترويج هكذا أمر، إن هو إلا اجتراء على تخطّي الخطوط الحمراء التي فرضتها المقاومة منذ حرب تموز 2006، بتحييد منطقة الضاحية الجنوبية وبيروت وتحييد استهداف القادة الكبار في المقاومة، وازداد هامش هذه الخطوط مع بداية الحرب الأخيرة في 7 تشرين الأول 2023 تبعًا للمفاوضات ومسار المعارك.
ويأتي السؤال الذي يعرف إجابته سيّد المقاومة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والمعنيون بالشأن التفاوضي بشكل مباشر، وهو لماذا انتقلت "إسرائيل" وبالأحرى الولايات المتحدة الأميركية، من موقع التوسّط والتوسّل لعدم توسيع رقعة الصراع في لبنان، والدعوى إلى الانضباط داخل الخطوط الحمراء، إلى موقع الفجور بالاعتداء المتزامن على المحور ككل، بين لبنان واليمن وإيران والعراق؟
هل تهديد كاريش بمسيّرتين هو السبب؟ هل اغتيال السيد محسن كان أوراق اعتماد قدّمها "الإسرائيلي" للكونغرس مقابل هنيّة في إيران؟ هل هي عملية هروب إلى الأمام اعتمدها "الإسرائيلي" لإنهاء الحرب بهيئة منتصر؟
هناك الكثير من التحليلات والتي منها ستُحدّد هويّة الرد على هذه الاغتيالات، كما ستُحدّد صورة ما بعد الرد وغد المنطقة بشكل عام.
لم يكن السيد محسن هدفًا سهلًا، ولا خسارته على محبّيه والمقاومة عابرة، كان جبلًا صلدًا، وتراكمًا عتيدًا لسنوات من الثبات والرفعة، اتّكأت إحدى صخوره لتستريح جسدًا، ولكن، ما زال جبله شامخًا يحمل هويّته وفكره وإرثه المتنامي والهادف إلى تحقيق ما حمله هو ومن سبقه من عقيدة لخدمة هذا النهج، يستريحون بعد طول جهاد، ويستمرّ النهج ويخلّدون أحياءً عند ربّهم يُرزقون.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024