معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

الرجل صاحب النظارة السوداء
02/08/2024

الرجل صاحب النظارة السوداء


كان ذلك في إحدى ليالي الشتاء من تسعينيات القرن الماضي. كنا مجموعة من الطلاب الجامعيين المتحمسين للمقاومة وفلسطين، طلبنا لقاء من التعبئة التربوية المركزية مع قيادي في المقاومة الإسلامية، وكان لنا ما أردنا بعد صلاة المغرب في شقة من شقق الضاحية الجنوبية. 

بلا طول سيرة وصل السيد محسن بسيارة BMW سوداء، يقودها بنفسه وإلى جانبه مرافقه الشخصي. ترجل من السيارة صاحب القامة المديدة تعلو إمارات وجهه هيبة الفارس النبيل المقدام ووقار المتدينين من أهل الليل. نزع نظارته السوادء، ولحق به من المقعد الخلفي مرافقون آخرون أحاطوا به من كلّ جانب حتّى استقر في مكانه على فراش إسفنجي. تناول لفافة التبغ ينقفها من عقبها نقفات متتابعة متتالية حتّى يتغربل التبغ بداخلها، ونحن متحلقون حوله نصغي إليه معجبين بل مسحورين بكاريزما هذا القائد الفذ الذي تشي ملامحه وطريقته في الكلام بحيوية باذخة، بديهة حاضرة، ذكاء منقطع النظير، وإحاطة شاسعة بالمشهد وبما وراء الأحداث التي تدرج في شرحها من الوضع الدولي (حرب البوسنة والهرسك) إلى الإقليمي (حرب الخليج) إلى الوضع المحلي إلى الميداني إلى العلاقة المتينة مع سورية. حدثنا عن بدايات العمل المقاوم في لبنان، عن مجموعة الأوزاعي وعن الطلقة الأولى، ومواجهات خلدة التي أصيب فيها، والعمليات النوعية، واقتحام المواقع الحصينة في الجنوب والبقاع الغربي، وطال الكلام، بعدها فتح المجال للأسئلة والحوار. 

ودارت الأيام. تخرجنا من الجامعات إلى نهر الحياة وصخبها. صار منا الأطباء والمهندسون، والمحامون، والمعلمون والمقاومون وقادة العمليات وبقي السيد محسن المقاوم الأول في البال ممثلًا للرعيل الأول والجيل المؤسس. وإن أنسَ، فلا أنسى تلك الليلة ولا أبرح أتذكر الرجل صاحب النظارة السوداء. لقد هيّمنا ذلك الرجل القبضاي الذي والف بين وضوح الرؤية ودينامية الميدان، وأبقى لنفسه ذلك الحبل الممتد من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى الأرض في قوسي الصعود والنزول.

يمر في حياتك مواقف وأشخاص عاديون وآخرون غير عاديين، ولحظات نادرة، عصية على النسيان، تتذكرهم، تنساهم، تعود فتتذكرهم، وهكذا، ولكن أقول وأشهد الله على ما أقول إن جرعة القوّة المعنوية الإحيائية، التي تشبه الموجة الكهرو - مغناطسية رافقتني بعد ذلك اللقاء طيلة حياتي وامتدت مفاعيلها حتّى ساعة كتابة هذا المقال.

فؤاد شكرالسيد محسن

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة