آراء وتحليلات
عاشوراء والأجيال الأربعة لحزب الله: "لبّيك" و"لا نبالي"
تشكّل إحيائيّة عاشوراء نقطة ارتكاز القوّة المعنويّة الهائلة التي حفظت خط النبوّة والإمامة، وضمنت انتقال الحرارة من جيل إلى جيل، بكلّ محمولاتها العقديّة والشرعيّة والقيميّة الإسلاميّة، ورساليّتها العالميّة إلى الإنسانيّة. استندت إلى "التوحيد" ومحوريّته عقيدة ونهجًا وسلوكًا، وهي القيمة المركزيّة لمناجاة الإمام الحسين "عليه السلام" عند أشد ظروفه: "اللّهم متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء. قريب إذا دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، تدرك ما طلبت، شكور إذا شكرت، ذكور إذا ذكرت..".
بهذه المضامين العميقة والدقيقة والسامية، وبدلالتها الرمزيّة من إمامها وزمانها ومكانها، استمدت حركيّة حزب الله - أمّةً ومنظّمةً - شرعيّتها ومشروعيّتها في إقامة الدين ومواجهة الاحتلال والهيمنة.
من رحم المعاناة والاجتياحات الإسرائيليّة المتعاقبة، وما بعد اختطاف سماحة الإمام السيد موسى الصدر وانتصار الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة، برزت ملحمة كربلاء في واحدة من أعظم تجليّاتها التاريخيّة المعاصرة داخل لبنان، فكانت ولادة "حزب الله"، دون احتكارها أو اختزالها.
برزت عاشوراء في خوضه العمليّات العسكريّة والأمنيّة منذ عام 1982، وسرت في شبابه إكسيرًا ثوريًّا من دموع وقبضات مع علمائه ورواديده وقارئيه عزاء سيّد الشهداء، واختلطت عبقًا من وفاءِ عهدٍ في حفظ المسيرة مع كلّ تشييع لشهيد أو التحاق بنشاط جهاديّ.
تعاقبت على حزب الله أجيال أربعة، تدفّقت فيها إحيائيّة عاشوراء تناميًا في الوجود وأسرارًا في البقاء، لما اختزنته من أبعاد وخصائص، أبرزها:
1. الأبعاد العاشورائيّة الثلاثة "البصيرة والعاطفة والحماسة"
تكفّلت مجالس أبي عبد الله الحسين "ع" بتقديم خطاب دينيّ وسياسيّ يلامس حاجات الجمهور اللبناني من الهداية والاستقامة ويواكب التحدّيات بالبصيرة الدينيّة والسياسيّة، كمرتكز قائم على الإيمان والوعي، تؤمّنه حركة العلماء بمحتواها وحضورها المعنوي والفكري وبارتباطها الولائيّ؛ بينما أخذت العاطفة تستثيرها مجالس النعي وتخليد الذكرى وأحداثها في وجدان المؤمنين من خلال البكاء والتباكي؛ وانعقدت حلقات اللطم تشحذ الحماسة المبنيّة على ما سبقها من العِبرة والعَبرة، وكتفعيل للإرادة بمضامين تطوّرت مع الوقت واختلفت أشكالها. وقد شكّل اللقاء السنوي للأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله - الذي يعقده قبل مدّة وجيزة من استهلال شهر المحرّم الحرام - مع المبلّغين وقارئي العزاء والرواديد مناسبةً لمواكبة كلّ المستجدّات والوقوف عند المسؤوليّات في تأدية الواجب وتوجيه البوصلة وتحقيق التكامل بما يؤدي إلى رفع كفاءة وفعاليّة المجالس تنظيمًا وتأثيرًا، شكلًا ومضمونًا وأداء.
وبما أن الحوزة العلميّة تتكفّل إعداد المبلّغين والمجتهدين، فإن الحزب دعم هذا المسار دون أن يتدخّل بنيويًّا في المناهج التعليميّة، بينما عمد إلى استحداث مركز المعارف للتأليف والتحقيق ومركز سيد الشهداء"ع" للبحوث الحسينيّة حيث تكفّلا بتهذيب النصوص على أسس دينيّة علميّة لتقديم مادة بعيدة عن الشبهات وضعف السند والدلالة، والتزم معهد سيد الشهداء"ع" إعداد القرّاء إعدادًا إيمانيًّا معرفيًّا دينيًّا وفنيًّا، كما انبثقت هيئات اللطم على جوانب حركة حزب الله كمبادرات فرديّة، حرص الحزب على التعامل معها بحكمة تحمي الإبداع وتحميها من البدع بميزان العقل والشرع، وتنظّم حركتها بنحو تكامليّ للارتقاء بإحياء الشعائر المقدّسة.
وبذلك، واكب حزب الله المسارات الثلاثة بمسؤوليّة، دفعته إلى ملء الفراغ ورصد الاحتياجات ومواكبة التطوّرات في الإحياء لناحية نموّه كظاهرة تنظيميّة استثنائيّة بوصفه حركة مقاومة رائدة في صراع ديناميّ يتوسّع إلى ساحات إقليميّة واحتكاكات دوليّة، وبوصفه حركة اجتماعيّة ودينيّة عميقة الجذور الثقافيّة، ومنظّمة سياسيّة في بلد تعدّديّ وتركيبة مجتمعيّة معقّدة، وهذا ينعكس على محتوى الإحياء وكيفيّته، ولناحيّة نمو نفس الإحياءات وتفاعلها مع الإحياءات في العالم لا سيّما مع إيران الإسلاميّة والعراق من جهة أخرى.
2. الروح الاستنهاضيّة والأطر التنظيميّة
يستمد حزب الله من عاشوراء كلّ حكايته في ثلاثيّته المرموقة: الإيمان والجهاد والشهادة، فينهل منها مصادرًا لقيمه، ويقتبس منها المواقف الخالدة والشواهد النافذة، ويتّخذ من أبطالها قدوة لكلّ مكوّناته رجالًا ونساءً، قادةً وجنودًا، ولكلّ شرائحه العمريّة وشرائح بيئته الحاضنة ومجتمعه المقاوم.
ويوظّف ذلك في عمليّات الاستقطاب والتنشئة التنظيميّة ورفد تشكيلاته بالأفراد، حيث يشكّل شهر المحرّم، نبعًا متدفّقًا لا يشارك غيره من الشهور من حيث المجموع كمًّا ونوعًا وثباتًا وانتماءً وفِداءً.
حاليًّا، وكشاهد تطبيقيّ حيّ، يمكن القول إن المقاومة الإسلاميّة ليس فقط رمّمت قدراتها العسكريّة واللوجستيّة إبّان اندلاع عملية طوفان الأقصى، بل يمكن القول بثقة، إن العاشر من المحرّم 1446ه، رفد حزب الله بآلاف المرشّحين والمستقطبين الجدد، ومئاتُ المرفّعين إلى تشكيلاته وقد أنهوا برامج التنشئة والاستعداد لمواجهة العدوّ في مختلف الجبهات والميادين، وتتعاون في سبيل ذلك أجهزة متعدّدة في بنية تنظيميّة صلبة وأطر مختلفة وآليّات عمليّة مرنة.
من زاوية أخرى، يشكّل سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أنموذجًا حيًّا للقائد الكربلائي، وامتدادًا أمينًا لعقيدة الولاية، والقدوة المضحيّ، قائدًا للقلوب والعقول والإرادات، من عمامته ونسبه إلى سيرته ومسيرته وجهاده وتضحياته. كما يشكّل المجلس العاشورائي الذي يقيمه بوصفه وكيلًا شرعيًّا للإمام الخامنئي وبوصفه منبرًا لشورى حزب الله من العلماء، جسر تواصل مع عامة الناس، عبر توجيه خطابهم المباشر للناس وعبر شاشات التلفزة والأثير من شأنها أن تحافظ على تداول عيّنة كبيرة من هذه الأجيال الأربعة مجتمعة في هذا المجلس لتلقّف الخطاب من معدنه دون واسطة، والتفاعل مع مؤثّراته وتنظيمه.
3. النماذج الشاهدة الشهيدة
ثمّة نماذج من الأجيال الثلاثة نفسها، قدّمت على التوالي رموزًا في الأسوة الصالحة، برز من الجيل الأول قادة وعلماء، منهم مَن خاض المراحل الأولى للتأسيس، وامتد إلى المراحل التالية التي شملت تحرير جنوب لبنان عام 2000 وحرب تموز 2006 ومواجهة الإرهاب التكفيري 2011 - 2017، وانتهاءً بطوفان الأقصى، ومنهم من خاض بعض تلك المراحل وحالت الشهادة دون بعضها الآخر.
في حين برز من الجيل الثاني أبناء القادة والقادة الميدانيّين والشهداء المجاهدين ممن شارك في تلك المراحل أو بعضها، وتميّزوا بخصال إيمانيّة وثبات حسينيّ جذّاب كخصائص متميّزين من الجيل المؤسّس أو المواكب للتأسيس أو المراحل الأولى لنشأة ونمو حزب الله.
بينما سطّر الجيل الثالث ملاحمه في مواجهة الإرهاب التكفيري لا سيّما عند دفاعه عن سورية دولةً ودورًا وعن لبنان دفاعًا استباقيًّا بمهارة عالية وكفاءة وفعاليّة.
تخوض هذه الأجيال راهنًا نصرة غزّة وفلسطين، وممارسة أقصى ردع ممكن دفاعًا عن لبنان وسيادته وأمنه القومي وثرواته؛ وها هي حكايا بعض هذه الأجيال في نبوغها التكنولوجيّ أو في لياقتها القتاليّة أو في إقدامها الصلب وقيادتها الميدانيّة، تبرز بين نعي شهيد وآخر، إلا أن ما يجمع بين تلك الأجيال هي "الروح"، وهي التي تقاتل وتنتقل من جيل إلى جيل بأمانة مطلقة وبملاءمة لطبيعة التحدّيات الجديدة التي يواجهها كلّ جيل، والتي قد تختلف طبيعتها باختلاف الفترة الزمنية التي شغلها كلّ جيل بجهاده وعطائه الخاص.
ومن جهة أخرى، يجدر التأكيد، بأنّ ما تمّ تناوله، عبارة عن إظهار لجانب من جوانب عطاء الأجيال ومساهمتها في الفعل المقاوم، والخروج إلى العلن برتبة جريح أو أسير أو شهيد. فهذه الأجيال شاركت وتشارك في كلّ ميادين نشاط حزب الله داخلًا وخارجًا، وفي مختلف أطره وتشكيلاته، وأغلب مستوياته.
أما الجيل الرابع فهو جزء حيوي من التحدّيات الراهنة بكلّ مفاعيلها، وقد ارتقى منه بعض الشهداء، وهنا الحديث عن الشهادة كمتغيّر يبيح التعبير عن هذه الكنوز الصافية والثمينة من جهة، وبوصفه أعلى درجات البرّ والعطاء كانعكاس عميق للأرضيّة الصلبة في الانتماء المتين والأصيل.
ويمكن استشراف الأجيال القادمة من خلال رصد تفاعلاتها في إحيائيات شهري المحرم وصفر من كلّ عام، حيث تعقد مجالس خاصّة للأطفال سواء من خلال كشافة الإمام المهدي "عج"، أو داخل المدارس في المؤسّسات التربويّة الإسلاميّة، ومن خلال مشاركة تلك الأجيال في المجالس العاشورائيّة العامّة، وتعبيرات عيّنة منها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومختلف التقارير الإعلاميّة سواء بنحوٍ عفويّ أو مقصود.
4. الأسر المحافظة المؤمنة والمجاهدة
وهي التي تضمّ أبوين مؤمنين أو أحد أفراد الأسرة أو عددًا منها من الملتزمين المؤمنين المقاومين أو الجرحى أو الأسرى المحرّرين أو آباء وأمهات وذوي الشهداء. ولهذا الحضور في الأسرة تأثيره في العائلة النواتيّة أو الممتدّة بحسب موقعه منها ودوره لها.
تساهم تلك الأسر مساهمة فعّالة في وراثة المعتقدات والقيم والأفكار والسلوكيّات عن إيمان وبصيرة من جيل إلى أجيال، وبذلك تتناقل تلك الأجيال هويّتها انطلاقًا من تضامنها العضويّ، وكذلك من تضامنها الثانويّ الناشئ خارجها، والذي قد ينعكس عليها فيصبح جزءًا منها قناعةً أو مناخًا عامًّا، نسبًا أو سببًا، بشكل مباشر أو غير مباشر.
وهنا تحضر عاشوراء بوصفها شعيرة من شعائر الله المقدّسة، يضاف إليها بعض العادات والطقوس، كجزء من التربيّة المقصودة وغير المقصودة، الشكليّة الظاهريّة والمعنويّة الداخليّة.
5. العمق التاريخي والانفتاح الواثق
أثبت حزب الله من خلال إحياء عاشوراء أنه راسخ رسوخها التاريخيّ ومتجذّر في ثقافة عميقة وأصيلة ممتدة في بنية مجتمعيّة وحواضر علميّة شكّل جبل عامل أحد أهم مراكزها في فترة زمنيّة ماضية رغم القهر التاريخيّ الظالم، إلا أن ذلك القهر أعجز من أن يطمس تلك الهويّة الرساليّة التي تمتلك ديناميّات التفاعل مع التغيّرات الزمنيّة مهما اشتدّت، مما يسمح للأجيال أن تنسجم مع بعضها البعض وتحديدًا في الزمن الذهبيّ لمحيي ذكرى عاشوراء متسلّحة بذاكرتها التاريخيّة.
بفضل جهاده ومثابرته وحكمته وأخلاقه السياسيّة المنبثقة من تعاليم عاشوراء أصبح حزب الله عابرًا للأجيال ورمزًا في المقاومة داخل المجتمع اللبنانيّ، بانفتاحه المشهود وتفاهماته السياسيّة التي أبرمها مع قوى وشخصيّات سياسيّة، وما حصده جهاده من التحرير عام 2000 وتحرير الجرود عام 2017 والدفاع عن الثروة البحرية عام 2022، معالم لخارطة وطنيّة واضحة لا انسداد فيها.
يساهم إحياء عاشوراء في إعادة إنتاج هذا الوعي بين الأجيال كجزء من بنية ثقافية تتمسّك بالمشترك الإنسانيّ الذي يتماهى مع خطاب الإمام الحسين "ع" وهو يخاطب من يواجهه: "إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارًا في دنياكم وارجعوا إلى أحسابكم إذ كنتم أعرابًا".
6. عقيدة الانتظار الإيجابيّ
تبقى عاشوراء عند محييها مقدّمة من مقدّمات عقيدة الانتظار والتمهيد للظهور الشريف للإمام المهدي "عج"، فهي ليست حركة آنيّة مختصّة بظروفها إنما هي حلقة من سياق سننيّ طويل له أغراضه ووظائفه. وتمتلك عاشوراء من الطاقة الباعثة على الإلهام الأنجع للأجيال على اختلاف شرائحهم، كجزء تاريخيّ يقظ وثائر، وكجزء من حاضر يتجسّد في مختلف ساحات الجهاد والنضال والقيام لله، ولأنها وثبة الأرواح إلى صناعة الأمل من خلال انغماسها في تهيئة أسباب الظهور والاستفادة من العلامات بوظائفها لا الركون إلى الظالمين أو اللامبالاة تجاههم.
ما بين عاشوراء وأمانتها في إحياء النفوس والجماعات والمجتمعات وما بين عقيدة الانتظار والأمل بدولة العدالة الإنسانيّة، تنشط أجيال حزب الله على قاعدة "لبيك يا حسين"، دون مبالاة أوقعت الحرب أم لا؛ بعد استيفاء كلّ مقدّماتها الضروريّة. وبهذا يجيب حزب الله بأجياله الأربعة على كلّ التهديدات وتشويهات الموقف في الداخل والخارج، متمسّكًا بمناقبيّة الدفاع عن الإنسانيّة في غزّة، وعن السيادة الوطنيّة في لبنان، وعن الأمن القوميّ لأحرار العالم بوجه الطغيان الأميركيّ. ألسنا على الحق؟ بلى؛ إذًا لن نبالي. كأرقى تلبية للنداء عن ثقة واقتدار وإشباع بروح الفداء والوفاء وصناعة المستقبل العزيز.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024