آراء وتحليلات
تصريحات أردوغان وانقلاب الموقف التركي تجاه سورية
شكّلت التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بعيد صلاة الجمعة الفائتة حول سورية والرئيس السوري بشار الأسد مفاجأة من العيار الثقيل بالنسبة للرأي العام التركي تحديدًا ولجميع المتابعين والمهتمين بالشأن السوري - التركي.
قال اردوغان: "في السابق كانت العلاقات التركية السورية جيدة، والتقيت في السابق مع السيد الأسد، وبالتالي من الممكن أن نلتقي مجدّدًا في المرحلة المقبلة، ومستعدون لذلك"، وأضاف: "لا يوجد أي سبب يمنعنا من إعادة العلاقات الديبلوماسية مع سورية، مستعدون للعمل معًا على تطوير العلاقات مع سورية تمامًا كما فعلنا في الماضي. لا يمكن أن يكون لدينا أبدًا أي نية أو هدف مثل التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا".
يمكن الاستنتاج من مضمون تلك التصريحات أن أردوغان حرص على إظهار الاحترام عند ذكره للرئيس السوري بشار الأسد، وهو ما يمثل بحد ذاته تراجعًا عن الكثير من المواقف الصادرة عنه في السابق، كما أن اردوغان أراد أن يظهر رغبةً في عودة العلاقات إلى ما كانت عليه في السابق قبيل الحرب التي شنت على سورية والتي كان نظام اردوغان أحد أهم اللاعبين المنخرطين فيها بشكل مباشر، وأما الجانب الثالث الذي حملته تصريحات أردوغان فتمثل بتراجعه عن طموحاته وأهدافه السابقة بالتدخل في الشأن الداخل السوري.
فما هي الخلفيات التي تقف خلف هذه التصريحات الصادرة عن رأس النظام التركي في هذا التوقيت؟ وكيف يمكن قراءتها ضمن سياق التطورات التي تمرّ بها المنطقة والعالم؟
بدايةً لا بدّ لنا من المرور على محطات عدة سبقت تصريحات أردوغان، وجميعها ذات صلة بمستجدات العلاقة السورية التركية، ونذكر منها:
أولًا: جاءت تصريحات أردوغان بعيد تسريبات عدة في الصحافة والإعلام التركي حول مرحلة جديدة من العلاقات السورية التركية، وكذلك بعد تصريحات متقاربة صادرة عن وزيري الدفاع والخارجية التركيين.
ثانيًا: جاءت مواقف اردوغان بعد نحو شهر من إعلان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن حكومته تعمل على المصالحة بين أنقرة ودمشق، وأن بعض الخطوات في هذا الصدد ستظهر قريبًا، وأنه على اتّصال مع الرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن جهود المصالحة.
ثالثًا: جاءت مواقف اردوغان بعيد يومين من استقبال الرئيس السوري بشار الأسد للمبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف، حيث أكد الرئيس الأسد انفتاح سورية على جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سورية وتركيا والمستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها من جهة، ومحاربة كلّ أشكال الإرهاب وتنظيماته من جهة أخرى، وأكد أن سورية تعاملت دائمًا بشكل إيجابي وبنّاء مع كلّ المبادرات ذات الصلة، لافتًا إلى أن نجاح وإثمار أية مبادرة ينطلق من احترام سيادة الدول واستقرارها.
رابعًا: ترافقت تصريحات اردوغان مع الحديث عن تحركات على الأرض وتحديدًا في الشمال السوري شملت فتحًا للمعابر، وانسحابات للقوات التركية مع معداتها من بعض المواقع التي تحتلها في الشمال السوري.
النتيجة الأولى: يمكن الاستنتاج أن مواقف اردوغان جاءت استجابة لشروط سورية المسبقة، والتي كانت دمشق تصرّ عليها لعودة العلاقة مع أنقرة والمتمثلة بالانسحاب من الأراضي السورية، ووقف دعم التنظيمات الإرهابية في الشمال السوري، وعدم التدخل في الشأن الداخلي السوري، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأسد في تصريحاته خلال لقائه لافرنتييف، والتي على ما يبدو نقلتها موسكو لأنقرة، فجاءت تصريحات اردوغان كبادرة حسن نية من طرفه وتأكيدًا على رغبته بالاستجابة لشروط الرئيس الأسد.
على الصعيد الداخلي التركي:
تأتي مواقف أردوغان بعد حدثين مهمّين شهدهما الداخل التركي وشكّلا عاملين مهمّين دفعا بأنقرة نحو التوجّه لتسريع المصالحة مع دمشق كخيار ضروري بعد فترة طويلة من المراوغة والمماطلة، وهذان العاملان هما:
العامل الأوّل: نتائج الانتخابات البلدية والتي جرت مؤخرًا، والتي نتج عنها أكبر خسارة لحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه اردوغان منذ وصوله للسلطة قبل عشرين عامًا.
العامل الثاني: خطة التقشّف أو ما يعرف بخطة الإصلاح الاقتصادي التي أعلنتها الحكومة التركية لمعالجة الوضع الاقتصادي السيئ الذي تعاني منه تركيا بسبب التضخم وارتفاع خدمة الدين العام، وبهدف تقليل النفقات إلى الحد الأدنى الممكن.
النتيجة الثانية: يعتقد أردوغان بأن المصالحة مع دمشق تشكّل طريق نجاة له على الصعيد الشعبي والاقتصادي، فمن جهة بات وجود اللاجئين عبئًا على الاقتصاد التركي، ومن جانب آخر فإن اردوغان بحاجة للجغرافيا السورية بما تمثله من سوق لتصريف المنتجات التركية أو بما تمثله من معبر حتمي للبضائع التركية إلى الدول العربية ودول الخليج تحديدًا، وفي كلّ الأحوال سينعكس ذلك على شعبيته وشعبية حزبه في الداخل الذي بات يدرك خطأ الخيارات التي انتهجها اردوغان بما يخص الحرب على سورية، وخاصة أن سورية حافظت على ثوابتها الداعمة لقضية فلسطين قولًا وفعلًا، بينما كانت مواقف اردوغان المتردّدة والمتقلبة من تلك القضية واحدًا من عوامل خسارة حزبه للانتخابات البلدية.
على صعيد الملف الكردي:
عارضت تركيا بشدة إجراء الانتخابات المحلية اللاشرعية التي كانت تخطط "قسد" لتنظيمها في الشمال الشرقي السوري، واعتبرتها تهديدًا لأمنها القومي، وحذرت من أنها ستؤدي إلى قيام كيان كردي إرهابي مستقل يمكن أن يتمدد للداخل التركي، كما تخشى من إعادة تنظيمها بعد أن أعلنت "قسد" تأجيلها لشهر آب المقبل.
وأعلن اردوغان أن وزير خارجيته حقان فيدال ناقش في موسكو مع المسؤولين الروس هذا الموضوع على هامش اجتماع وزراء خارجية بريكس، وبلا شك فإن موسكو أبلغت تركيا بأن إنهاء هذا الملف أو معالجته مرتبطة بشكل وثيق بسيطرة الحكومة السورية على كامل أراضيها، وهو ما يشمل بكلّ تأكيد ادلب وكامل الشمال الذي تحتله تركيا.
وعليه فإن اردوغان يحتاج إلى التواصل مع دمشق لمعالجة هذا الموضوع ودرء الخطر المحتمل.
النتيجة الثالثة: إن اردوغان يدرك أن إزالة الخطر القديم المتمثل بانفصال الجنوب الشرقي الكردي يستوجب معالجة ملف "قسد" وتنظيم "بي كي كي"، وهذا يتطلب تنازلات من قبله تسهل عملية انتشار الجيش العربي السوري على كامل الحدود الشمالية، وكذلك اعترافًا بسلطة الحكومة السورية على كامل أراضيها، واعترافًا بوحدة سورية واستقلالها وسيادتها.
على الصعيد الجيوسياسي والإقليمي:
أولًا: شكّلت النتائج التي أفرزها طوفان الأقصى والعدوان "الإسرائيلي" على غزّة، والنصر الحتمي لمحور المقاومة في هذه المعركة المستمرة منذ تسعة أشهر أحد أهم العوامل في تبدل الموقف التركي من سورية التي تمثّل العمود الفقري لمحور المقاومة.
إن أردوغان بات يدرك أن محور المقاومة بات يمسك بقواعد الاشتباك الجديدة في الإقليم، وفي ذات الوقت الذي فرض سيطرته على أهم المعابر والممرات البحرية والبرية التي تحتاجها تركيا في تجارتها وفي حصولها على مصادر الطاقة.
كما أن اردوغان بات يدرك أيضًا أن سورية كواحدة من أهم مكونات محور المقاومة باتت مهيأة وتستعدّ لقطف ثمار هذا النصر الاستراتيجي لمعركة طوفان الأقصى وعلى جميع الأصعدة، وهو بالتالي - أي اردوغان - لم يعد بمقدوره ممارسة اللعب والمراوغة بذات الأوراق القديمة التي أنهى الطوفان صلاحيتها.
ثانيًا: إن مستجدات التشبيك الإقليمي منذ إعلان اتفاق المصالحة بين طهران والرياض، وعودة سورية للجامعة العربية فرض نمطًا جديدًا من العلاقات في الإقليم قائمة على الانفتاح والتعاون نتيجة لزوال مسببات الاشتباك، ولم يعد أمام اردوغان إلّا الالتحاق بهذا التشبيك.
ثالثًا: إن التوجّه شرقًا وإقامة علاقات متوازنة والتشبيك المتعدد الأطراف تحوّل إلى استراتيجية عامة لدول الإقليم ودول العالم الصاعدة، وقد تأخرت تركيا عن غيرها من الدول الوازنة في الإقليم كما هو حال إيران التي انضمت لمنظمة شنغهاي وبريكس ووقعت اتفاقيات شراكة استراتيجية مع الصين والهند وقريبًا مع روسيا، وأنجزت مشاريع المعابر البرية والبحرية كممر شمال - جنوب، والحال كذلك بالنسبة للسعودية ولو بدرجة أقل، بينما تأخرت تركيا التي كانت تمنّي النفس وطوال سنوات بالانضمام للاتحاد الأوروبي.
وعليه فإن اردوغان يدرك أن ذلك كلّه يتطلب منه أولًا تحسين العلاقات مع سورية أقرب جار لتركيا وبوابتها الحتمية جنوبًا، والتي تقيم علاقات وثيقة مع دول الشرق الصاعدة.
رابعًا: في ظلّ التنافس على مشاريع الطاقة في شرق البحر المتوسط، وبعد استبعاد تركيا من المشاريع التي تقودها واشنطن ودول الغرب بالاشتراك مع "إسرائيل" ودول التطبيع العربية، فإن اردوغان بات ملزمًا بالبحث عن شركاء له في المجال، وفي تلك المنطقة الحيوية والاستراتيجية.
النتيجة الرابعة: إن حتمية الجغرافيا السورية وفي ظل التحولات الجيوسياسية الإقليمية والعالمية تفرض على أردوغان طرق أبواب دمشق من جديد، وفي هذه المرّة فإن أردوغان سيكون مضطرًا لأن يحني رأسه ويطلب ذلك مكرهًا معتذرًا، وأن يرمي خلف ظهره طموحاته السابقة ومشاريعه الخلّبية الطورانية العثمانية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024