آراء وتحليلات
واشنطن وقرار مجلس الأمن: الدوافع والأسباب
بأغلبية 14 صوتًا وامتناع روسيا عن التصويت، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2735 والذي يتضمن الدعوة لوقف شامل لإطلاق النار في غزّة بهدف إنهاء الحرب وفقًا لمبادرة الرئيس الأميركي جو بايدن التي أعلنها منذ عشرة أيام بعد أن تم إدخال تعديلات طفيفة عليها، ودعا مجلس الأمن كلًا من كيان العدو الإسرائيلي وحماس إلى الموافقة على القرار وتنفيذه بالكامل ودون تأخير أو شروط.
ووفقًا للقرار فإن المبادرة تشمل ثلاث مراحل، تتضمن المرحلة الأولى ومدتها ستة أسابيع وقفًا فوريًا وكاملًا لإطلاق النار مع إطلاق سراح الأسرى، وإعادة رفات بعضهم ممن قتلوا، وإجراء عملية تبادل مع الأسرى الفلسطينيين، وانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من "المناطق المأهولة بالسكان في غزّة"، وعودة "المدنيين الفلسطينيين" إلى ديارهم، والتوزيع الآمن والفعال للمساعدات الإنسانية على نطاق واسع في جميع أنحاء غزّة.
أما المرحلة الثانية فتتضمن وقفًا دائمًا "للأعمال العدائية" في مقابل إطلاق سراح جميع الأسرى الآخرين الذين ما زالوا في غزّة، والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من غزّة.
فيما تشمل المرحلة الثالثة إطلاقًا لخطة إعادة إعمار كبرى تستمر لسنوات عديدة في غزّة وإعادة رفات أي رهائن متوفين ما زالوا في القطاع إلى أسرهم.
وأكد القرار أنه إذا استغرقت المفاوضات أكثر من ستة أسابيع للمرحلة الأولى، فإن وقف إطلاق النار سيستمر طالما استمرت المفاوضات، كما أكد القرار منع أي تغيير ديمغرافي، وضرورة عودة الوضع الديمغرافي إلى ما كان عليه.
ورغم أن القرار يأتي بعد أكثر من ثمانية أشهر من الفشل الأميركي الإسرائيلي سواء على المستوى الميداني أم على المستوى السياسي، ولم تستطع خلالها كلّ من واشنطن و"تل أبيب" تحقيق أي إنجاز سوى الإبادة الجماعية والقتل والتجويع والحصار والتدمير الممنهج، فإن إدارة بايدن المأزومة داخليًا وإقليميًا ودوليًا اجترحت لنفسها مسارًا للهروب من ورطتها ومعالجة آثارها عبر القرار المذكور، حتّى لو كان ذلك على حساب حليفتها "إسرائيل".
وعند قراءة هذا الموقف الأميركي تحديدًا وتحليله، فإنه لا بد لنا من الوقوف على أهم الدوافع وكذلك الغايات التي أجبرت واشنطن على اتّخاذ هذا المسار، أو التي تسعى لتحقيقها عبره.
أولًا؛ في الخلفيات والدوافع:
منذ اللحظة الأولى لطوفان الأقصى وطوال الشهور الثمانية التي تلته، وجدت واشنطن وحليفتها "إسرائيل" أنهما قد دخلتا في مواجهة جديدة ومختلفة عن كلّ سابقاتها منذ عقود من الزمن، وأن تلك الأبعاد الجيوسياسية لهذه المواجهة تتعدى الملف الفلسطيني إلى ما هو شرق أوسطي وعالمي يمكن أن ينتهي بخروجهما من اللعبة الإقليمية بخسارة تاريخية تنعكس على مكانة واشنطن العالمية.
وساهم الفشل العسكري والاستخباراتي والسياسي الأميركي لقلب نتائج المواجهة أو تجييرها لصالح واشنطن في تسريع التحول في الموقف الأميركي نحو اجتراح هذا المسار، وهذا العجز والفشل شكل زلزالًا سياسيًا بدأت تردّداته وآثاره بالوصول إلى الداخل الأميركي على المستوى الشعبي والسياسي، وامتدت لتطول سمعة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي.
وأما العامل الأهم والأخطر والذي يمكن وصفه بأنه كان مولدًا رئيسيًا للعوامل السابقة فيتمثل بحجم القوّة والتكتيك والإستراتيجيا والإمكانيات العسكرية والسياسية التي اظهرها محور المقاومة بكامل مكوناته طوال المعركة، والتي عجزت واشنطن عن زعزعتها أو التقليل منها أو التأثير عليها، بل إن واشنطن وجدت نفسها وقد استهلكت كامل أوراق قوتها بما فيها الأوراق اللا أخلاقية واللاإنسانية، في الوقت الذي كان فيه محور المقاومة وجبهات الإسناد تزجّ بأوراق قوتها بالتدريج وتراكم الانتصارات والنتائج الجيوسياسية والميدانية وتحتفظ بالكثير من أوراق القوّة، وتستنزف واشنطن وحليفتها "إسرائيل" اللتين وصلتا إلى مرحلة من العجز وانسداد الأفق. .
ثانيًا؛ في الأهداف:
رغم أن قرار مجلس الأمن يدعو "إسرائيل" وحماس على حدّ سواء للالتزام بمضمون الخطة وتنفيذها، فإن الإدارة الأميركية تصرّ على أن حماس هي المعنية الوحيدة بالقبول بالقرار وتنفيذه، وهو ما أعلنه بايدن بنفسه، وكذلك وزير خارجيته بلينكن.
وتهدف واشنطن من وراء ذلك إلى استباق فشل محتمل قد ينتج عن مراوغة نتنياهو، واحتمالًا لتهربه من القرار ولو في مرحلته الثانية تحديدًا والتي تضمنها القرار.
كما أن إدارة بايدن تسعى من وراء القرار لتسويق نفسها كراعية للسلام بعد إشرافها بشكل مباشر ومشاركتها في حرب الإبادة الجماعية على غزّة، والتي كانت آخر فصولها في مخيم النصيرات، حيث ارتكبت مجزرة راح ضحيتها ما يزيد عن 200 فلسطيني بمشاركة وإشراف من القوات الأميركية.
وعلى الصعيد الداخلي يسعى بايدن لمعالجة الانقسام في معسكر الديمقراطيين على المستوى الشعبي وخاصة جيل الشباب الذي أظهرت الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي عزوفه عن الالتزام بترشيح بايدن بسبب حرب الإبادة على غزّة.
وعلى صعيد الداخل في الكيان، فإن إدارة بايدن تهدف إلى الضغط على نتنياهو وحلفائه في اليمين المتطرّف والأحزاب القومية بهدف تشكيل حكومة جديدة تكون أكثر طواعية لإدارة بايدن وأكثر التزامًا بخياراتها وفق ما تقتضيه الإستراتيجية الأميركية التي تنظر للصراع من منظور جيوسياسي إقليمي وعالمي، حيث تعتقد إدارة بايدن بأن إعادة تشكيل المنطقة ودمج "إسرائيل" فيها وتحقيق التطبيع السعودي "الإسرائيلي" هو الهدف الأهم لواشنطن في هذه المرحلة التي يسعى فيها خصوم واشنطن في محور الشرق لاستقطاب السعودية وضمها إلى مجموعة "بريكس"، وهو ما تخشاه واشنطن وتعتبره هزيمة إستراتيجية لها وتسعى لمواجهته عبر التطبيع السعودي "الإسرائيلي" كأساس لضمان حلفها مع السعودية.
في الختام؛ واستنادًا إلى تاريخ واشنطن الحافل بالكذب والخداع، فإنه لا بد من أن نضع في الحسبان بأن واشنطن تسعى مرحليًا لتقطيع الوقت في ظل ما أصابها من انتكاسات على صعيد المواجهة وعلى الصعيد الداخلي، وذلك تمهيدًا لخلق بيئة وظروف جديدة تكون أكثر ملاءمة لها، وهو بطبيعة الحال ما يستدعي مزيداً من الحذر من قبل محور المقاومة، واستعدادًا أكبر وأكثر شمولًا وعدةً وعتادًا، ولعل امتناع روسيا عن التصويت على القرار في مجلس الأمن الدولي عائد لقناعتها ومعرفتها بسياسات واشنطن التي اكتوت بها موسكو قبل غيرها.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024