موقع طوفان الأقصى الجبهة اللبنانية

آراء وتحليلات

إيران وخيارات المستقبل
29/05/2024

إيران وخيارات المستقبل

لم يكن يوم 19 أيّار/ مايو 2024 كغيره من الأيّام على الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة قيادةً وشعبًا، ولا على تدفّق الأخبار ومواقف زعماء ورؤساء وقادة بعض الدول منها، ولا على دول وحركات محور المقاومة بشكل خاص ومجتمعاتها أو على امتدادات إيران الثورة الإسلامية في كافة الشعوب النابضة بمعاني الإنسانيّة والكرامة والمقاومة.
حصل ذلك، في لحظة بالغة الحسّاسية من محطّات ‏الصراع ضدّ قوى الاستكبار والهيمنة والاحتلال الأميركي والصهيوني لمقدّساتنا وبلادنا وشعوبنا وتزامنًا مع تطوّرّات الحرب على غزّة وانعكاساتها المفصليّة في حركة التاريخ والاجتماع والسياسة في منطقة غرب آسيا والعالم.
أدّت تلك الحادثة إلى استشهاد رئيس الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران آية الله السيد إبراهيم رئيسي ووزير خارجيّتها الدكتور حسين أمير عبد اللهيان وممثّل الإمام الخامنئي في ‏محافظة أذربيجان الشرقيّة آية الله السيد محمد علي آل هاشم، ومحافظها الدكتور رحمتي، وفريق الطيران وسائر المرافقين.
حمل نبأ تحطُّم الطائرة المِروحية قربَ مدينة جلفا على الحدود مع أذربيجان تداعيات متباينة تصل إلى حد التناقض في الموقف، وبناء عليه، ينساب الحكم على ذي الموقف بوضوح نادر؛ فمن تعاطف صادقًا بذهول أو حزن مع هذه الحادثة هو بالضرورة كارهٌ لـ"إسرائيل" وأعمالها، ومن شمت أو تراقص قلبه مبتهجًا إزاءها كان تابعًا للإرادة الأميركيّة وأغراضها سواء عَلِمَ أم جَهِل.
"لم يكن رئيسي العزيز يعرف معنى للتعب"، بهذه العبارة المكثّفة صدّر الإمام الخامنئي عزاءه للشعب الإيرانيّ والأمة الإسلاميّة برحيل الشهيد رئيسي. الخبر المرير للرحيل المماثل للشهادة، لرئيس الجمهوريّة –الثامن - القدوة المخلص للشعب والنظام، و‏السند المدافع عن قضايا الأمّة وفي مقدّمها القدس وفلسطين.‏
وعلى القاعدة التي أرساها قائد الثورة والدولة والأمّة الإسلاميّة الإمام الخامنئي، بقوله "يجب أن يكون الأشخاص المؤثّرون والفاعلون في وزارة الخارجيّة من الأكثر وفاءً وحميميّة وعمقًا في التفكير واندفاعًا لطموحات النظام السياسيّ وتوجّهاته"، كان حسين أمير عبداللهيان أنموذجًا وقدوة تحتذى، ‏حاملًا ‏راية الدفاع عن المقاومة والمتفاني في نصرتها ودعمها في جميع المحافل السياسيّة والدبلوماسيّة في العالم. ‏ 
هذان رمزان بارزان في العلم والجهاد والسياسة، ومعهما آية الله السيد محمد علي آل هاشم، العالم المدبّر الذي تكفيه شهادة والده في عدالته ونقاوة روحه؛ هذه الرموز تفيض بهم الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ضمن سجلها الحافل لسباق "القدوة" ورحلة الخدمة الثوريّة.
موازين إيران الإسلاميّة في تحويل التهديد إلى فرصة 
ليست "المظلوميّة" هي التي تستند إليها طهران في تحويلها التهديد إلى فرصة، كما تذهب إلى ذلك السطحية والأوهام لدى بعض مرتزقة الأقلام، إنما هي السيرة والمسيرة بكلّ ما حفلت به، من رموزها القدوة والأسوة، وتاريخ ثورتها ومضامينها السامية، وولاية الفقيه الحكيم الكفؤ العادل والشجاع في نظامها وقيادتها، ولياقتها العملانيّة في التقدّم والمثابرة في صناعة الحياة الطيّبة، وصمودها وصبرها الاستراتيجيّ، وصدق العاطفة وصفوها وسحرها، وبكلّ النعم التي أخرجها الإمام الخميني من بطون الكتب وقبور الأنظمة الطاغوتيّة التي تحجز الإنسان وكرامته وتكبّله باستبدادها وظلاميّتها إلى حيّز الواقع المشفوع بالإيمان العميق والمطلق بالغيب وألطافه وتسديده، وبحمل المسؤولية ومشعل الثورة والمقاومة في الاجتماعات الإنسانيّة السياسيّة المتناغمة والمتفاعلة معها.
تمضي الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة إلى الأمام برأسمال العظمة الثوريّة استنادًا إلى قيادتها وشعبها ومزايا بلدها، شامخةً راسخةً في مواجهة وحوش السياسة العالميّة من القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركيّة، وفي وجه أكثر السياسات حنكةً وقوّةً وخبرة في العالم، رافضةً بجرأة نظام الهيمنة ومنطقه "السيّد والرعيّة"، متحفّظةً عن قبول النماذج العالميّة المفروضة في ما يتعلّق بالنظام السياسيّ ونوع العلاقات الدبلوماسيّة وكيفية معالجة القضايا العالميّة الحاليّة (كقضيّة "إسرائيل"، وقضايا الشعوب وبعض الحركات، وأميركا بحدّ ذاتها)، ممتنعةً عن إيقاف معالم تقدّمها، ومنها الطاقة النوويّة وتنمية قدراتها العسكريّة والعلميّة ومشاريعها الداعمة لحركات المقاومة أو الرضوخ والتخلّي عنها باعتبار كلّ ذلك حقًا مشروعًا وعادلًا، ينتسب إلى مبادئها وإنجازات شعبها وتضحياته في الحرب المفروضة وأنواع الحصار والعقوبات. 
يعبّر هذا الأمر عن اختلاف جوهريّ وأساسيّ تتمايز به إيران الإسلاميّة عن أغلب أنظمة العالم التي تعمل تحت إمرة القوى الكبرى العالميّة ولا تنحرف عن بوصلتها، بل تخضع لمختلف أنواع الضغوط والتهديدات والهجمات في ما يتعلّق بأمورها الاقتصاديّة والسياسيّة ومعتقداتها ومبادئها وقوانينها وكيفية إدارتها لبلادها وعلاقاتها الداخليّة والخارجيّة؛ بينما إيران الثورة الإسلاميّة تصمد وتتقدّم وتقاوم وتجترح معجزات البقاء والانتشار والارتقاء. 
الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة أقوى دول العالم في المجال الدبلوماسي
تقف إيران أمام خيارات ثلاثة، وهي: التراجع عن المواقف وبالتالي التخلّي عن مبادئ وشعارات الثورة من أجل تقوية العلاقات مع الحكومات والخروج من الضغوط والحصار أو النزعة العدائيّة المتطرّفة والاقتصار في نسج العلاقات مع الحركات والتيّارات المعارضة والمناهضة العالميّة أو التزام المبادئ وشعارات الثورة والتقدّم ونسج العلاقات السليمة والقوية والمصحوبة بالآداب الدبلوماسيّة مع الدول وتوطيدها (باستثناء بعض الدول المستثناة بالأصل) وكذلك مع الحركات والشعوب والتأثير بفعاليّة على مستوى العالم.
لكن إيران الإسلاميّة ترى أن التراجع نفيٌ لهويّتها كجمهوريّة إسلاميّة حيث لا يبقى سوى اسمها فقط، وأن التواضع تجاه القوى الدوليّة، وخاصّة أميركا، لن يرضيهم على الإطلاق، ولن يتخلّوا عن مصالحهم قيد أنملة من أجل الشعب أو الحكومة الإيرانيّة، بل سيسعون حتّى النهاية لاستيفاء مصالحهم كافّة والتعدّي على مصالحها مع الصخب والضجيج والانتهاز لفرض الإملاءات وبصفة القوّة العظمى دون حلّ المشكلات. وعليه، إن إظهار الخضوع للعدو والتماشي - خلافًا للمعتقدات - مع ما يريده ويرغب به، وتكرار ما يقوله في أي موضع لن يكسب ودّه. 
لذلك تستفيد الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة من موقعها الجيوسياسي وتاريخها الحضاريّ في منطقة هامّة على خارطة العالم، وكذلك من شعبها الذي لا يقبع في نقطة منعزلة كمثل بعض البلدان إنّما ينعم بفضل قيادته بالتأثير على مساحة كبيرة خارج حدود إيران الجغرافيّة.
تحافظ القيادة الإيرانيّة على الهندسة السياسيّة للجمهوريّة الإسلاميّة مع وعيها لموقعها ولاتّجاه تحرّكها وأهدافها، مما يجعلها في حالة مواجهة ومجاهدة مستمرّة، ولا ترى أن أحدًا يملك حق التنازل قيد أنملة عن مصالح الدولة الإيرانيّة، بل يحتّم الواجب السعي بكامل الجهد لاستيفائها كاملة، والوقوف في مواجهة أطماع أعدائها بصرامة واضحة، معتمدةً على الموقف الهجومي لا الدفاعي في العديد من القضايا العالميّة، وترى بحزم أنه بالإمكان تحويل إيران الإسلاميّة من قوّة إقليميّة إلى قوّة دوليّة حقيقيّة تدريجيّا، وأنّ الأرضية والمقدّمات اللازمة متوفرة فيها، ولذلك تردّ على كلّ رسالة برسالة تحمل النبرة ذاتها. 
تنشط إيران الإسلاميّة دبلوماسيًّا بمشاركتها الفاعلة في العلاقات ثنائيّة الجانب وتلك الإقليميّة وفي المحافل الدوليّة التي تمتلك عضوية فيها، دون استخفاف أو سراية لليأس أو تبخيس للفائدة من عدم الإصغاء لكلام قادتها ودبلوماسيّيها بل ترى أن كلّ الجهود ستثمر وتترك التأثير في مكان ما مهما كان الوزن ضئيلًا.
 لذلك، تنسج علاقاتها من خلال مجموعات فاعلة تحت ذرائع مختلفة على مستوى الدول الإسلاميّة، وأخرى مع الدول الآسيويّة البارزة والمؤثّرة كالصين وروسيا والهند، وتسعى إلى خفض التوتّرات ورفع التشنجات والتخلّص من الأحقاد والحساسيّات وإيجاد التقارب والحميميّة، وتحويل العديد من التهديدات (بتغيير أسبابها) إلى فرص، وتوفير الفرص للنظام السياسيّ والدفاع عنه، والحيلولة دون الرضوخ تحت الضغوط أو الانكسار، ودون إظهار التردّد أو الخوف أو الضعف في الدفاع عن المواقف الثوريّة بشكل حاسم. 
 وهي تملك لذلك القوّة والقدرة والمبادئ، فتعمد إلى تحقيق امتداد الجبهة السياسيّة عبر الشعوب وتعميقها وتجذيرها أكثر في الصمود، فتتجلّى حقيقتها بوصفها أقوى دول العالم في المجال الدبلوماسي، تعكس عظمة وعزّة وقوّة النظام الإسلاميّ، وتنقل أهدافها المنبثقة من مبادئ الثورة والمليئة بالمضامين العميقة إلى أقصى أنحاء الكرة الأرضيّة دون أن تكون سلطويّة (فلا تسعى للتعدّي على الآخرين أو إقامة حكومة عالميّة واحدة، بل تحترم وجود حكومات متعدّدة في العالم)، ومن هنا، يرغب الكثيرون ويجدون مصلحةً لهم بأن تكون لديهم علاقات طيّبة معها.


 

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات