معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

السيد رئيسي ورأسماله الرمزي
23/05/2024

السيد رئيسي ورأسماله الرمزي

 

"إن الذاكرة – خلافًا للتاريخ الرسمي- لا يمكن تزويرها أو العبث فيها، ولذلك فهي حينما تمجّد أو تتجاهل فإنها تعبّر تعبيرًا أمينًا صادقًا عن تفاعل تاريخي ناجح أو فاشل ربّما أصبح نسيًا منسيًا، ولكن آثاره ما تزال حيّة في الوجدان".

الوجدان المشحون بالعواطف قد لا يشكّل قيمة عند مزاولي النمط التقليدي لتسجيل الأحداث والتطورات الفكرية والسياسية، هذا النمط الذي يمكن أن نقول إنه صار تقليدًا باهتًا في ما نعيشه من انتكاس للفكر الحداثي الغربي في مجالات متعددة وبدرجات متفاوتة، ولكن في يومنا هذا صار الوعي تجاه العناصر المركبة والمعقدة لمجمل الوعي والعقلي والوجداني وغيرهما، من روافد تشكيل المشهد العام للبشرية في مراحلها الزمانية المختلفة. وحتى لا نخوض في نقاش أكاديمي جاف، نختصر ما نريد أن نبيّنه من أن قضية الوجدان الفردي والشعبي لا يمكن أن تسقط عن الاعتبار والقيمة في عالم اليوم، وليس التاريخ وتسجيله بخارج عن هذه الحقيقة. فلم يعد زماننا زمان "الوثائق الموثوقة والمسجّلة والمختومة!" لكتابة التاريخ، بل صار عنصر الوعي العاطفي والوجداني، الذي يمكن أن نطلق عليه اسم الذاكرة، أو "الرأسمال الرمزي" جزءًا لا يتجزأ من تركيبة المعرفة للواقع.

من الأمور التي قد يصطدم بها العقل التقليدي في دراسة الأحداث أن الدولة التي تقوم على العمل المؤسساتي لا تعتني بالأشخاص إلا اعتناءً عابرًا، بمعنى أن المؤسسة إذا كانت هي المولّدة للسلطات وتداولها، فالواقع عندئذ يتم تسجيله بناء على عملها الرياضي الرقمي، ولا معنى للتعلق بالأشخاص في عمل المؤسسات، وبالتالي لا معنى لعنصر "الوجدان الشعبي العميق" في مجال العمل المؤسساتي، نعم، هذه العاطفة قرينة العمل غير المؤسساتي: نظير العاطفة المغلّفة تجاه ديكتاتوريي العصر الحديث، من صدام حسين وغيره.

ولكن يبقى المحلل الأسير للنمط القديم في التحليل – الذي استعرضنا لمحة منه - أمام حيرة تركّب العنصر المؤسساتي مع الوجدان العاطفي في مثل ما نراه في إيران اليوم: رجل دولة، رحل في حادث مؤسف، وفي نفس اليوم أعلن قائدها أن الأمور لن تتضرر مهما جرى، ثم تقوم المؤسسات بوتيرة سريعة بتعيين القائم بالأعمال وتحدد في اليوم التالي قبل الدفن موعدًا لانتخابات جديدة، في عين هذا العمل المؤسساتي، تظهر العاطفة المتنقلة بين الشعب من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، فكيف يُفسّر حضور المؤسسات بهذا الشكل الكبير مع تعلق العاطفة العميقة بالأشخاص؟

في الحقيقة، إن الإجابة عن هذا التساؤل تتطلب الكثير من التحليل واستخراج العناصر المكوّنة للبنية المؤسساتية والشعبية والقيادية للشعب الإيراني، ولكن المحتوم هو أنه وفق العقل الحداثي التقليدي لا يمكن تفسير هذه الظاهرة بأكثر من اختراع أوهام " العواطف المزيفة" أو "رهاب الديكاتوترية الدينية"، ولكن في المقابل نجد أن الشعب الإيراني راكم رأسَمال رمزيًا وذاكرة مشحونة جدًا بالعواطف تجاه الأشخاص، ابتداءً من السيد بهشتي ومرورًا بالحاج قاسم سليماني ووصولًا إلى السيد الشهيد رئيسي. هذه العاطفة عند التحليل تُظهر أنها عاطفة "المثُل" وعاطفة "الأيقونات" لشعب يدخل في صميم تكوينه البعد العرفاني. حتى إني سمعت أن بعض المزارعين جروا على عادة قراءة أشعار حافظ الشيرازي العرفانية عند حصادهم لمحاصيلهم، هذا التكوين المندمج في الشخصية الإيرانية يجعلها ميّالة إلى استخراج المثُل من الأشخاص، والكليات من الجزئيات، فبالحق نجد أن الشهيد سليماني اليوم أشبه ما يكون بمثال في عالم مثل هذا الشعب، والظاهر أن السيد رئيسي بشهادته انتقل إلى هذه المرحلة، والظاهر أيضًا أننا سنشهد تخليدًا له بحيث سيكون معيارًا لرؤساء لاحقين ومسؤولي البلاد القادمين.

 

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف