آراء وتحليلات
محاور أساسية رسخّها رئيسي خلال ولايته القصيرة.. نهج متجدّد في السياسة الخارجية
يتساءل كثيرون خارج إيران عمّا إذا كان غياب رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بصورة مفاجئة، سيؤثر على انخراط إيران في دورها النشط والفاعل إقليميًا ودوليًا؟ بلحاظ أن المدة الفاصلة عن انتخاب رئيس جديد، وما سيليها من تشكيل حكومة جديدة والحصول على ثقة مجلس الشورى، ستستغرق وقتًا غير بسيط (ربما شهرين على أقل تقدير، مع الأخذ بالحسبان احتمال عدم حسم نتيجة الانتخابات من الجولة الأولى) في هذه المرحلة الزمنية الحافلة بالتحديات التي تشهدها المنطقة، وفي مقدمها العدوان الصهيوني على قطاع غزّة. كما جاء هذا الغياب في ظلّ ما ذُكر عن اتّصالات غير مباشرة بين إيران والولايات المتحدة في مسقط، في إطار ما اعتُبِر محاولة لمحاصرة التصعيد الجاري على وقع العدوان على غزّة.
لا شك أن الخطوة التي اتّخذها مجلس الحكومة الإيرانية بتعيين مساعد وزير الخارجية علي باقري وزيرًا للخارجية بالوكالة خلفًا للوزير الراحل حسين أمير عبداللّهيان الذي قضى نحبه إلى جانب السيد رئيسي، تمثلُ خطوة من مجموعة خطوات قد اتّخذت لملء الفراغ الذي حدث باستشهاد الرئيس ووزير الخارجية (يُعتبر من يقضي نحبه في أثناء الخدمة العامة في إيران "شهيد الخدمة"، ما يُرسي مفهومًا جديدًا في العمل العام). ومن ضمن هذه الخطوات تحديد موعد للانتخابات الرئاسية قبل نهاية حزيران/يونيو المقبل، في وقت يتولى نائب الرئيس محمد مخبر مهام الرئيس بالوكالة إلى حين انتخاب رئيس جديد. وترافق ذلك مع تأكيد المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجية (وهو خلية تفكير وهيئة استشارية لمؤسسة القيادة يرأسها وزير الخارجية السابق الدكتور كمال خرازي) أن مسار السياسة الخارجية الإيرانية سيستمر بكلّ قوة وبتوجيهات من قائد الثورة الإسلامية آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي.
* الثبات والاستمرارية
كرّست إيران في عهد الثورة نهجًا ثابتًا بإجراء الانتخابات لملء أي فراغ ينشأ في هيكل النظام السياسي لأي سبب كان، وقد عرفت البلاد فقد قيادات أساسية نتيجة اغتيالات وأعمال إرهابية قامت بها جماعات مناهضة للثورة بدعم من قوى الاستكبار العالمي، وفي إحداها استشهد رئيس الجمهورية محمد علي رجائي ورئيس الوزراء محمد جواد باهنر بتفجير استهدف مقرًا حكوميًا في العام 1981. وكان ذلك في ذروة الحرب التي شنها نظام صدام حسين على إيران، لكن الجمهورية الإسلامية أكملت الطريق وأجرت انتخابات رئاسية في ظلّ الحرب والاغتيالات.
ويشير ذلك إلى أن الحكم في إيران استمرارية، حيث تقوم مؤسسات راسخة بدورها في التعامل مع أية حوادث طارئة استنادًا إلى مواد الدستور وارتباط النظام بمبادئ إسلامية عامة وقيادة الولي الفقيه.
وبناءً على ذلك، من الواضح أن السياسة الخارجية لإيران لن تتغير في المرحلة القريبة المقبلة أو تنكفئ إلى الداخل لترتيب الأوضاع الطارئة على حساب الاضطلاع بدورها في المنطقة. فهذه الأوضاع ليست جديدة، وإن تغيرت طبيعتها بين مرحلة وأخرى. وليس سرًا أن القيادة في إيران ترى أن قوة إيران في الخارج تنبع من قوتها في الداخل، وأن حضورها في الخارج هو عنصر ضروري من عناصر قوتها الأساسية. وعلى حدّ ما كان يعبّر بعض القادة في إيران، فإن الدفاع عن الجمهورية الإسلامية يبدأ من خارج الحدود وينتهي في الداخل، بالنظر إلى الترابط الوثيق بين الأمن القوميّ للبلاد والأمن الإقليمي والدولي. وهذا ما حرصت على تأكيده حكومةُ الرئيس السيد إبراهيم رئيسي، إلى جانب التعامل مع مشاغلها الاقتصادية والاجتماعية الكثيرة.
* سياسة خارجية نشطة
اتّبعت حكومة الرئيس الشهيد رئيسي سياسة خارجية نشطة، بالرغم من توقعات في بداية عهده بأنه سيولي الأوضاع الداخلية، ولا سيما الاقتصادية، عناية خاصة في ظلّ ظروف الحصار الغربي وأثرها على العملة المحلية والوضع المعيشي. وقد ساعده في هذه المهمّة تحقّق انسجام في الهيكل القيادي للدولة بين المؤسسات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية تُرجم بلقاءات تنسيق دورية بين رؤسائها، ما وفّر عامل قوة في السياسة الخارجية، كما الداخلية.
ويمكن التوقف عند محاور أساسية على الصعيد الخارجي:
1 - قضية فلسطين والمقاومة: قامت الجمهورية الإسلامية بجهد دؤوب لمساندة القضية الفلسطينية في المحافل والمنتديات الدولية، وأضحت الصوت المعبّر عن حقوق شعب فلسطين أينما حلَّ مسؤولوها. وخلال العدوان الصهيوني على قطاع غزّة عقب عملية "طوفان الأقصى"، كثفت إيران تحركاتها على المستويين الإقليمي والدولي من أجل توفير المساندة للشعب الفلسطيني ومقاومته، وكذلك وقف العدوان عليه. وزار وزير الخارجية الشهيد حسين أمير عبداللهيان قطر وتركيا والسعودية وعواصم أخرى، كما التقى الرئيس المصري في بغداد ووزير خارجيته في الرياض، وحثّ المنظمات الإقليمية والدولية على رفع صوتها من أجل الدفاع عن فلسطين. كما عمل على تعزيز دور محور المقاومة في مواجهة هذا العدوان خلال زيارات إلى بغداد ودمشق وبيروت. وكانت الدبلوماسية بالنسبة للقيادة الإيرانية امتدادًا لجهود المقاومة في الميدان. وما ميّز موقف إيران، طوال الأشهر الماضية، هو أنها دافعت علنًا وبلا تحفظ عن عملية "طوفان الأقصى" كونها حقًا أصيلًا لشعب فلسطين وردًّا على تعسف الصهاينة، في وقت كان الغرب يستجوب علنًا قادة وممثلي دول العالم الإسلامي ويطلب إليهم إدانة ما فعلته المقاومة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
وأطلق الرئيس الشهيد إبراهيم رئيسي في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي سلسلة مواقف، قائلًا: "قضية غزّة اليوم هي قضية مواجهة محورين: محور الشرف ضدّ محور الشر. واليوم يجب على الجميع أن يحددوا في أي صف هم: في صف المجاهدين کأنهم بنیانٌ مرصوص، أم في صف ألدّ الخصام وهالكي الحرث والنسل". وأكد أن: "التجربة أثبتت أنه لا حل سوى المقاومة لرد المحتل. ولهذا السبب، فإننا نقبّل يد وذراع حماس البطلة وجميع فصائل المقاومة الباسلة التي هي فخر للعالم الإسلامي، ونحيّي الإرادة الفولاذية لشعب غزّة المقاوم". وشدّد على أن: "الحل المستدام الذي اقترحه الإمام الخامنئي، وسُجّل اليوم في الأمم المتحدة، هو إقامة دولة فلسطينية واحدة من البحر إلى النهر على أساس المبدأ الديمقراطي القائل: "لكل فلسطيني صوت واحد، سواء كان مسلمًا أم مسيحيًا أم يهوديًا. والجمهورية الإسلامية سوف تدعم هذه الرؤية بقوة".
2 - العلاقات مع دول الجوار: عملت حكومة الشهيد رئيسي على تخفيف التوّتر مع دول الجوار في مسعى لتضييق فجوة الخلافات حول قضايا مختلفة، الأمر الذي توظّفه الولايات المتحدة لمحاصرة إيران وعزلها سياسيًا واقتصاديًا. وكان من أبرز الخطوات التي تم التوصل إليها في هذا المجال الاتفاق مع السعودية بوساطة صينية في 10 آذار/ مارس 2023 لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد سبع سنوات من القطيعة، وفتحت هذه الخطوة التي مُهّد لها بلقاءات عدّة في بغداد ومسقط أفقًا جديدًا لاستعادة العلاقات مع دول أخرى مثل البحرين ومصر والأردن. وقد بنتْ حكومة رئيسي مساعيها على حصيلة جهود قامت بها الحكومات السابقة في عهود الرؤساء رفسنجاني وخاتمي وأحمدي نجاد وروحاني. وفي عهد الأخير، طرحت طهران على دول مجلس التعاون الخليجي مبادرة هرمز للسلام في كانون الأول/ ديسمبر 2019، بهدف توطيد روح التعاون بين ضفتي الخليج.
وأسهمت الظروف الدولية في التوصل إلى هذه النتيجة، ومن جملتها اتّجاه دول الخليج العربية إلى ترتيب علاقاتها مع إيران بملاحظة تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة والعالم وبروز أقطاب دوليين منافسين للولايات المتحدة مثل الصين وروسيا، إضافة إلى التوجّه نحو إعطاء أولوية للخطط الاقتصادية الطموحة مثل رؤية السعودية 20 - 30، ما يستلزم توفير أجواء استقرار إقليمية. ومن جهتها، تستفيد إيران من تطبيع العلاقات مع السعودية والدول العربية المتحالفة معها من أجل تهدئة الاستقطاب الإقليمي وإطلاق مسار من التعاون في قضايا عدة، إضافة إلى تبريد المناخ المذهبي الذي تفشّى في العقود القليلة الماضية في محاولة لقطع الطريق على الصحوة الإسلامية. وقد عبّر الرئيس الراحل عن هذا التوجّه في المؤتمر الدولي الـ 37 للوحدة الإسلامية في طهران العام الفائت بالقول إن: "الوحدة اليوم لا تعنى وحدة الأديان أو الجغرافيا، بل تعنى التآزر والتضامن لحماية مصالح الأمة الإسلامية".
وأرخى الاتفاق الإيراني - السعودي أجواء ارتياح في عموم العالم الإسلامي، لما للبلدين من وزن سياسي وديني عام، كما أسهم في أخذ الرياض مسافة من المشاريع الأميركية في المنطقة ومن بينها التحالف العسكري الأميركي - البريطاني في البحر الأحمر، في وقت تسجّل هدنة اليمن صمودًا يُؤمَل أن يعبّد الطريق أمام تسوية سياسية في هذا البلد. لكن التحدّي أمام الاتفاق الإيراني - السعودي قد يكمن في مشروع للتطبيع تسعى الإدارة الأميركية لتحقيقه بين السعودية والكيان الصهيوني وتُسوّقه على أنه موجّه لعزل إيران، وهو ما قد يبطئ الانطلاقة الجديدة في العلاقات بين طهران والرياض.
إلى جانب ذلك، واصلت الجمهورية الإسلامية تمتين علاقاتها مع قوى محور المقاومة، بالرغم من مرارة سياسات التطويق والحصار المفروضة من الإدارة الأميركية.
3 - العلاقات الدولية: اتّخذت حكومة الرئيس رئيسي توجهًا حاسمًا نحو إيجاد مكانة لإيران بالإفادة من تعدّد الأقطاب على الساحة الدولية في ما عُرف باستراتيجية "التوجّه شرقًا"، والتي بدأت في عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد (2005 - 2013) ثمّ تباطأت بعد ذلك. وبعدما كان الأمل منصبًّا في السابق على حل المشكلات الاقتصادية بالعودة إلى الاتفاق النووي ورفع الحصار عن إيران، مضت حكومة رئيسي في شقّ طرائق بديلة عبر تنويع علاقاتها الدولية، من دون إقفال طريق العودة للمفاوضات النووية. وهذا التغير في النهج السياسي يشير إلى مسار جديد سلكته إيران وقراءة جديدة للتوازنات الدولية.
وقد أصبحت إيران بالفعل عضوًا كاملًا في منظمة شنغهاي للتعاون، في تموز العام 2023 (تضم المنظمة حتّى الآن 9 أعضاء كاملي العضوية)، تلاها انضمامها إلى مجموعة بريكس بداية العام الجاري (توازي المنظمة مجموعة الدول السبع الكبرى التي تمثل القوى الغربية المهيمنة بقيادة الولايات المتحدة).
وقد وقّعت إيران اتفاقية مشاريع ضخمة مع الصين تمتدّ لـ 25 عامًا، كما وقّعت اتفاقية تعاون شامل مع روسيا لمدة 20 عامًا، وعملت على توسيع آفاق التعاون مع الهند، وشرعت في تفعيل ممر الشمال - الجنوب للنقل من روسيا إلى الهند مرورًا بإيران ويبلغ طوله 7200 كلم، وهو طريق يختصر زمنيًا الطريق الذي يمر عبر قناة السويس. ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرئيس الإيراني الراحل بأنه: "سياسي بارز كرس حياته كلها لخدمة وطنه، وقدّم مساهمة شخصية لا تقدّر بثمن في تطوير علاقات حسن الجوار بين بلدينا، وبذل جهودًا كبيرة للارتقاء بها إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية".
وقام رئيسي بزيارات إلى روسيا والصين ودول في آسيا الوسطى وأميركا اللاتينية وطرق أبواب إفريقيا (كينيا وأوغندا وزيمبابوي)، من أجل توسيع العلاقات الاقتصادية مع هذه البلدان، ما أسهم في زيادة حجم التجارة الخارجية غير النفطية لإيران إلى 100 مليار دولار لأول مرة.
4 - المفاوضات النووية: عملت حكومة الشهيد الرئيس إبراهيم رئيسي على استنفاد الجهود لإعادة إحياء الاتفاق الموقَّع مع الدول الست في العام 2015، والذي عطّله الرئيس الأميركي ترامب من جانب واحد في العام 2018. لكن إيران التي تأخذ بمبادئ "العزة الإسلامية والحكمة والمصلحة" في علاقاتها الدولية لم تقبل العودة إلى الاتفاق من دون ضمانات جدية للالتزام به من الأطراف الغربية التي تقودها الولايات المتحدة؛ حيث تكون هناك التزامات متبادلة من الجانبين. وفي وقت كانت إدارة الرئيس الأميركي بايدن تحث الخطى نحو الاتفاق بما ينسجم مع وعوده الانتخابية، فإنها عادت وعقّدت مناخ التفاوض، من خلال خضوعها لضغوط اللوبي الصهيوني في الكونغرس وإضافة شروط جديدة مثل وقف تعاون إيران مع روسيا في المجال العسكري. وصنعت إيران أوراق قوة لإرغام الولايات المتحدة على العودة إلى الاتفاق، وتمثلت في تخصيب اليورانيوم بمستوى 60 بالمئة، ردًا على تخلي الدول الغربية عن التزاماتها بموجب الاتفاق النووي. واعترفت الولايات المتحدة في النتيجة بأن خروج إدارة ترامب من الاتفاق كان خيارًا "سيئًا"، على ما قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن.
تقودنا حصيلة ما سبق إلى أن الرئيس الشهيد إبراهيم رئيسي أرسى نهجًا متجددًا في السياسة الخارجية، سيتحتم على من سيخلفه أن يتابعه اعتمادًا على أن الحكم استمرارية ويبني على الإنجازات التي تحققت والالتفاف الشعبي الكبير حول النظام الذي تولّد من فاجعة سقوط الطائرة الرئاسية. صحيح أن غياب الرئيس الراحل هو خسارة لإيران على غير صعيد، إلا أن فقدان القادة والرموز لا يعيقها عن استكمال الطريق، بل إنه يعمّق جذورها، وهذا ما ثبت مرارًا من تجربة الجمهورية الإسلامية في العقود الماضية، ومن أبرز مصاديقها رحيل مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني (رضوان الله عليه) وبقاء الثورة والجمهورية من بعده على المبادئ التي أرساها.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024