تكنولوجيا وأمن معلومات
التنبؤ بالسلوك البشري باستخدام الذكاء الاصطناعي
في السنوات الأخيرة، شهد مجال الذكاء الاصطناعي تطوّرات هائلة، ليس فقط في قدرته على معالجة وتحليل كميات هائلة من البيانات، بل وفي استخدام هذه البيانات للتنبؤ بسلوكيات الأفراد والمجتمعات. هذا التقدم يفتح أبوابًا جديدة للفهم العميق للطبيعة البشرية والاجتماعية، ولكنه يثير أيضًا مجموعة من التحديات الأخلاقية والعملية.
قبل الخوض في تفاصيل استخدام الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالسلوك، من المهم توضيح بعض المصطلحات الأساسية:
السلوك: يشير إلى أفعال وردود أفعال الأفراد أو المجموعات في مختلف السياقات. يشمل السلوك كلًّا من الأفعال الظاهرية والقرارات الداخلية التي تؤثر على كيفية تفاعل الشخص مع العالم المحيط.
تحليل السلوك: هو دراسة الأفعال وردود الأفعال لفهم أنماط السلوك وأسبابه. في سياق الذكاء الاصطناعي، يشير إلى استخدام تقنيات التعلم الآلي والتحليل الإحصائي لفهم وتفسير البيانات المتعلّقة بالسلوك البشري.
التنبؤ بالسلوك: هو استخدام المعلومات المستخلصة من تحليل السلوك لتوقع الأفعال أو القرارات المستقبلية للأفراد أو المجموعات. هذا يشمل كلّ شيء من توقع احتمالية شراء منتج معين إلى تقدير احتمالات ارتكاب جريمة.
الذكاء الاصطناعي يمكنه اليوم تحليل سلوكيات الأفراد من خلال مراقبة تفاعلاتهم على الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، استخداماتهم للتطبيقات، حركة اتصالاتهم، دائرة معارفهم، تنقلاتهم وحتّى عبر كاميرات المراقبة العامة. أحد التطبيقات البارزة في هذا المجال هو "التنبؤ بالسلوك الجرمي"، حيث يستخدم الذكاء الاصطناعي لتقييم احتمالية قيام الأفراد بأفعال معينة استنادًا إلى سلوكيات سابقة ومعطيات ديموغرافية محيطة.
يحلل الذكاء الاصطناعي السلوك ويتنبأ به عبر المرور بعدة خطوات، في الخطوة الأولى يتم جمع البيانات من مصادر متنوعة مثل الكاميرات، السجلات الإلكترونية، والأجهزة الاستشعارية والمصادر المفتوحة ثمّ معالجة هذه البيانات حيث تُنظف وتُعالج لإزالة الأخطاء والتكرارات ثمّ يتم تحليل البيانات حيث يستخدم الذكاء الاصطناعي تقنيات مثل التعلم العميق لتحديد الأنماط والارتباطات داخل البيانات وصولًا لبناء نموذج التنبؤ بالسلوك بناء على الأنماط المكتشفة، حيث يقوم النظام بتوقع السلوكيات المستقبلية.
ومن الأمثلة والحالات العملية على ذلك هو عملية التنبؤ بالجريمة، إذ إنه في بعض المدن، تستخدم أقسام الشرطة برامج مثل "PredPol الذي يتم استخدامه في بعض المدن الأميركية والذي يقوم بتحليل بيانات الجرائم التاريخية والجغرافية لتوقع أنماط الجريمة. يستخدم النظام خوارزميات تعلم الآلة لتحديد الأنماط والعوامل التي قد تؤدي إلى وقوع جريمة معينة ويقترح الأوقات والمواقع التي يجب على الشرطة تركيز مواردها عليها، وكذلك تطبيقات تحليل السلوك الاستهلاكي حيث تستخدم الشركات الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوك المستهلكين وتوقع الاتّجاهات، مما يسمح بتوجيه الإعلانات والعروض بشكل فعال.
وفي مجال الرعاية الصحية والنفسية توجد مجموعة تطبيقات مثل "Woebot" التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتقديم الدعم النفسي، حيث تحلل الردود والسلوكيات لتقديم ردود تتسم بالتعاطف والفعالية. وفي سنغافورة، يستخدم الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالحوادث والإدارة العامة للسلامة وذلك عبر التنبؤ بمواقع حوادث المرور وتوقيتها. النظام يحلل بيانات من كاميرات المراقبة، حساسات الطرق، وتقارير الحوادث السابقة لتوقع أين ومتى قد تحدث حوادث. هذه المعلومات تمكّن السلطات من تحسين توجيه حركة المرور ونشر الموارد الطبية والإسعافية بكفاءة أكبر. وفي اليابان، تستخدم الحكومة الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات من الأقمار الاصطناعية والاستشعار عن بعد لتوقع الفيضانات والزلازل. النظام يمكنه التنبؤ بالمناطق الأكثر عرضة للكوارث ويساعد في توجيه الجهود الإنقاذية والإغاثية.
كذلك الحكومات تستفيد من أدوات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالسلوك في مجموعة واسعة من التطبيقات، من تحسين الأمان العام والصحة إلى تحسين الخدمات الحكومية والتخطيط المدني حيث يتم استخدام هذه التكنولوجيا لتحليل البيانات الكبيرة والمعقّدة بطرق لا يمكن للبشر القيام بها بشكل فعال أو في الوقت المناسب.
علماء النفس يبدون قلقًا حول التأثيرات المحتملة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالسلوك. إحدى القضايا الرئيسية هي خطر "التنبؤ الذاتي التحقق"، حيث قد يؤدي التنبؤ بسلوك معين إلى تدخلات تجعل هذا السلوك أكثر احتمالًا. علاوة على ذلك، هناك مخاوف تتعلق بالخصوصية والحكم الذاتي، إذ يمكن أن يؤدي التحليل الدقيق للبيانات الشخصية إلى تعديات على حقوق الفرد.
بعدما عرفنا ماهية السلوك وكيف يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ بالسلوك البشري نأتي للسؤال الأهم وهو كيف يمكن للأفراد أو المجتمعات التقليل من فاعلية التحليل والتنبؤ بسلوكهم. فمع تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالسلوك، يصبح من المهم للأفراد والمجتمعات اتّخاذ خطوات لحماية خصوصيتهم والحد من التحليل غير المرغوب فيه لسلوكياتهم وذلك من خلال:
الوعي بأهمية بالبيانات: يجب على الأفراد أن يكونوا على دراية بالبيانات التي يشاركونها عبر الانترنت وفي الأماكن العامة وأن يكونوا على اطلاع على ما يجمع عنهم من بيانات بأشكال مختلفة وبالتالي تجنب مشاركة المعلومات الحساسة وحتّى العادية منها دون التأكد من وجود حماية كافية يمكن أن تقلل من فرص الوصول غير المصرح به إلى هذه البيانات.
استخدام تقنيات الخصوصية: تطبيقات التخفي مثل الشبكات الخاصة الافتراضية (VPNs)، برامج منع التعقب، والمتصفحات الموجهة نحو الخصوصية يمكن أن تساعد في حماية الهوية الرقمية والحد من جمع البيانات.
المطالبة بالشفافية والتنظيم: يمكن للمجتمعات المطالبة بقوانين وتنظيمات أقوى لضمان شفافية الشركات والحكومات في كيفية جمع واستخدام البيانات وبالتالي دعم القوانين التي تفرض إجراءات أمان صارمة وتوفر خيارات للأفراد للسيطرة على بياناتهم يمكن أن يساهم بشكل كبير في حماية الخصوصية.
التعليم والتوعية: تعزيز الوعي بمخاطر وفوائد التكنولوجيا يمكن أن يساعد الأفراد على اتّخاذ قرارات مستنيرة بشأن مشاركة بياناتهم وذلك من خلال الورش التعليمية، الندوات، والمواد التعليمية التي يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في رفع مستوى الوعي العام.
باتباع هذه الإجراءات، يمكن للأفراد والمجتمعات تعزيز سيطرتهم على بياناتهم والحد من التأثيرات السلبية المحتملة لتحليل والتنبؤ بالسلوك باستخدام الذكاء الاصطناعي.
التطورات في الذكاء الاصطناعي تتطلب إطارًا تنظيميًا قويًا لضمان استخدامه بشكل مسؤول. من المهم وضع قوانين تحمي الأفراد من الاستغلال وتضمن الشفافية في كيفية جمع البيانات واستخدامها. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون هناك حوار مستمر بين المطورين، المستخدمين، والجهات التنظيمية لاستكشاف التأثيرات العميقة لهذه التكنولوجيا.
في الختام، الذكاء الاصطناعي يقدم إمكانيات هائلة لفهم وتوقع السلوك البشري، ولكن استخدامه يتطلب نهجًا متوازنًا يحترم القيم الأخلاقية ويحمي حقوق الأفراد. النقاش حول هذه القضايا مهم لضمان أن نتّجه نحو مستقبل يستفيد من هذه التكنولوجيا بشكل إيجابي ومسؤول.