آراء وتحليلات
آخر الحروب هو اليوم التالي للحرب
تردّدت عبارة اليوم التالي للحرب كثيرًا على مسامع الناس في كلّ مكان وكلّ وقت، في الإعلام والندوات ومراكز البحوث والشارع، وحتّى هذه اللحظة لا يوجد تصوّر نهائي لذلك اليوم، بل حتّى ولا تصوّر ابتدائي له، وكلّ ما يقال وكلّ ما يُبحث مجرد تخرصات، تستند في غالبها إلى أمنيات لا وقائع أو حيثيات، خصوصًا أنّ اللاهثين خلف تلك العبارة هم أطراف العدوان على غزّة.
هؤلاء يبنون فرضياتهم لذلك اليوم على هزيمة حماس وفصائل المقاومة وإركاع غزّة. ويبدو أنّ هذه الفرضية بدأت تتآكل شيئًا فشيئًا مع تكدس الأخبار الآتية من الميدان، عن عثرات عصابات القتل الممنهج ومجاميع القتلة الصهاينة المسماة بالجيش، لذلك بدأت تختلف التصورات المفترضة عن ذلك اليوم.
العالقون في شباك أوهامهم، يحاولون استبدال أسلحتهم أو مزامنتها واستخدامها دفعةً واحدة، علّهم يدركون ما فاتهم من سبلٍ للخروج من المأزق المميت في غزّة، حيث وقْف العدوان اليوم هزيمة، كما أنّ استمراره هزيمة أشدّ وأنكى، لذا يستخدمون التجويع والفوضى تزامنًا مع القتل والتدمير والإبادة، أو يلجؤون لأدواتهم في المنطقة للضغط على المقاومة تزامنًا مع التلويح ببدائل محلية.
وكل تلك المحاولات باءت بالفشل على مدار أيام الحرب وشهورها الستة، وتمنح الولايات المتحدة نفسها المهل تلو المهل، علها تستطيع الحصول على نهايةٍ للحرب بأقل الخسائر على وجود الكيان برمته، وكذلك على وجودها في المنطقة، ولكن هذه المهل لم تعد تجدي نفعًا في ظلّ الاستعصاء الهائل، الذي تمثله المقاومة بأدائها العسكري المبهر، ويمثله أيضًا صمود الناس وإصرارهم على البقاء تحت مقصلة الجلادين في سبيل كرامتهم وحريتهم.
وما نراه اليوم من خلافات أميركية"إسرائيلية" لا يبتعد كثيرًا عن تكتيك اليوم التالي للحرب، للخروج بأقل الخسائر الممكنة، حيث إنّ عادة الإمبراطورية الأميركية هي أنّ الغُنم لها في حال الربح، والغُرم على أدواتها في حال الخسارة، ومع الكيان باعتباره حالة خاصة من الأدوات، تصبح محاولة تجنيبه كلّ الغرم أمرًا واردًا، فيتم الإيحاء بأنّ الكيان كان قادرًا على تحقيق النصر لولا أن غلّت أميركا يده، وقد يتم التضحية بنتنياهو، باعتباره المهزوم منفردًا لا الكيان بجيشه وكلّ مؤسساته الأمنية.
وبغضّ النظر عن نهاية الحرب المفترضة وزمانها وطبيعتها، فإنّ الحقيقة الوحيدة والثابتة هي فشل الكيان وفشل الولايات المتحدة، وبالتالي انتصار غزّة شعبًا ومقاومةً وقضية، ودون استبطان هذه الحقيقة الراسخة في سيناريوهات اليوم التالي للحرب، هي مجرد تكهنات خارج الزمان والمكان، وأصحابها مجرد عالقين في زمن الهزائم وزمن الأحادية القطبية.
وعليه فإنّ الجيش الذي سيُهزم في غزّة، غزّة المحاصرة صغيرة المساحة فقيرة التضاريس كثيرة الخواصر الرخوة عسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا وسياسيًا، سيخرج منها مهلهلًا مهشمًا على المستويين المعنوي والمادي. وإذّ نستذكر المجهود الهائل الذي بذله ذلك الجيش عبر عشرات المناورات، في محاولة سدّ الثغرات التي أدّت لهزيمته في لبنان عام 2006، وفشل فشلًا ذريعًا في كلّ تلك الجهود وكلّ تلك المناورات، فما عساه يفعل لهزيمته الفاضحة في غزّة؟
والسؤال الأهم، هل يستطيع ذلك الجيش المهشم في جغرافيا غزّة بكلّ ما فيها من نقاط ضعف، أن يخوض حربًا ثانية على جبهةٍ أخرى، ولنفترض أنّها الجبهة اللبنانية، بكلّ ما فيها من جغرافيا معقّدة ومتنوعة، وبوجود مقاومة كحزب الله، التي يُقرّ العدوّ نفسه بأنّ قدراته التسليحية والعملياتية لا تُقاس بالمقاومة الفلسطينية في غزّة، لو كان يستطيع ذلك قبل طوفان الأقصى لما تردّد لحظةً واحدة، أمّا بعد الطوفان فستكون مغامرة أخيرة دونها الزوال.
ومن مفارقات التاريخ هنا، كانت توصف المقاومة بأنها مغامرة، وكان المقاومون يوصفون بالمجانين، أصبحنا اليوم في زمنٍ توصف تحركات جيش الكيان بالمغامرات.
ونستذكر هنا أحد خطابات السيد نصر الله الذي قال فيه "قد لا نحتاج حربًا لزوال الكيان المؤقت، وما على الفلسطينيين سوى ركوب الحافلات للعودة"، وليس من المستبعد أن تكون معركة طوفان الأقصى هي حرب الكيان الأخيرة التي يستطيع خوضها، لأنّ غزّة إذا كانت بحاجة لعشر سنوات لإعادة إعمارها، فإنّ جيش العدوّ بحاجة لأكثر من ذلك لإعادة تأهيله، والكيان لا يملك كلّ ذلك الترف في الوقت لبقائه.
وهذه هي طبيعة اليوم التالي للحرب، جيشٌ مهزوم ومهشم ومهلهل، ولا يمتلك خارطة طريق لاستعادة أنفاسه، ولا يملك القدرة إطلاقًا على خوض حربٍ كبرى في ساحةٍ أخرى. وقد نقل موقع “والا" العبري عن مسؤولين كبار أنّ "رئيس الأركان سيعلن استقالته نهاية هذا العام، وسيقدم توصيات للمستوى السياسي بإعادة بناء الجيش، ما سيؤدي لتقاعد جماعي للمسؤولين عن فشل السابع من أكتوبر"، وهذا الخبر بحدّ ذاته يستبطن الهزيمة، كما يستبطن عدم القدرة على استدراكها بالعدوان القائم.
إذًا قد يستلهم الكيان المؤقت مقولة حسني مبارك، بأنّ حرب أكتوبر 1973 هي آخر الحروب، فيعيدها أحد كبارهم “أنّ حرب أكتوبر 2023 هي آخر الحروب"، وبناءً على ذلك نستطيع رسم السيناريوهات لليوم التالي للحرب.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024