خاص العهد
"العهد" يلتقي ناجين من مجازر الكمأة في بادية دير الزور
بات ذكر الكمأة، في البادية السورية، مقترنًا بالمجازر المتنقلة التي يرتكبها تنظيم "داعش" التكفيري بحق الأهالي الذين يسعون خلف لقمة عيالهم، من خلال البحث عن هذا النوع من الفطر المنتشر على امتداد البادية السورية في ظلّ تأزم الوضع المعيشي وقلة فرص العمل.
موقع "العهد" الإخباري التقى بعدد من الناجين بأعجوبة من مذابح الكمأة في بادية دير الزور، حيث فاجأهم التنظيم المجرم من دون سابق إنذار بالاعتداء عليهم.
كمأة بطعم الدم
ضاق محمد بشعان ذرعًا بالبطالة التي يعيشها في هذا الظرف الاقتصادي الصعب. ومع إدراكه لخطورة الأمر على حياته، لم يجد بدًّا من حمل كيس كبير وأداة للحفر تساعده في إخراج فطر الكمأة من البادية ليعتاش من وراء بيعه، سيّما وأنه مرغوب كثيرًا نتيجة مذاقه الطيب وسعره مرتفع.
يؤكد محمد في حديثه لموقع "العهد" الإخباري أنه لم يكن متحمسًا في البداية على الدخول بعمق إلى أطراف البادية بحثًا عن الكماة لكنّه اضطرّ لذلك نتيجة نفاذ الكماة في المناطق القريبة والتأكد من وجودها بكثرة داخل البادية. وأضاف أنه في أثناء العمل أطلق رشاش مجهّز على سيارة النار عليهم، وراحت السيارة تقترب منهم أكثر وأكثر فيما يواصل قناص ملثّم إطلاق النار عليهم، مشيرًا إلى هروبه مع عدد من الأشخاص تاركين وراءهم جثامين شهداء وأكياس الكمأة الملطخة بدماء أصحابها.
من جانبه، يؤكد علي النوري، وهو ناجٍ آخر من المجزرة، أن جامعي الكمأة هربوا بعدما أصيب الكثيرون منهم من دون أن يتمكّنوا من إسعاف الجرحى أو نقل جثامين الشهداء، فيما راحت سيارة "الدواعش" المزودة برشاش ٢٣ تقترب منهم على مسافة قريبة جدًّا وهي تطلق النار، مشيرًا إلى أن: "مشهد الفاجعة اكتمل بعد أن انفجر لغم بالسيارة التي أقلتهم من دير الزور وعادت لإنقاذهم الأمر الذي أدى إلى استشهاد طاقمها المكون من خمسة أشخاص". وقال النوري إنهم بقيوا يركضون في البادية لمدة ساعتين باتّجاه المنطقة التي خرجوا منها حتّى التقوا بقوات الجيش العربي السوري التي خرجت للمؤازرة قبل أن يتلاشى أثر "الدواعش" في الصحراء.
الدعم القادم من التنف
مصدر أمني في دير الزور أكد في حديثه الخاص لموقع "العهد" الإخباري أنه في المدة الأخيرة ازدادت تلك الاستهدافات وكثرت المجازر المتعددة والمتنقلة التي أدت إلى ارتقاء عشرات الشهداء. وأضاف أن الجهات المختصة في دير الزور والمنطقة الشرقية عمومًا أوعزت بتوخي الأهالي الحذر وطالبتهم بعدم الابتعاد إلى نقاط معينة حفاظًا على أمنهم وسلامتهم. وأشار إلى أن المساحات الواسعة للبادية وتوقع وجود الكماة بكميات كبيرة غالبًا ما تغري المواطنين بالدخول أكثر إلى عمق البادية متجاوزين التحذيرات التي يطلقها الجيش في هذا السياق.
ولفت المصدر الأمني في حديثه لموقعنا إلى أن الجيش السوري عمد إلى تسيير بعض الدوريات ذهابًا وإيابًا بين النقاط العسكرية المترامية الأطراف حيث تبعد النقطة الواحدة عن الأخرى من 15 إلى 20 كم والغاية هي حماية الناس الذين يخاطرون بحياتهم في سبيل البحث عن رزق عيالهم. وأوضح أن أساس هذه المناطق رعوية، ويوجد فيها كميات كبيرة من الأغنام والمراعي الخصبة ويتوجه إليها الرعاة في هذا الفصل من العام وتحديدًا في الربيع، ويتعرضون هم كذلك لمجازر وحشية من التنظيمات الإرهابية, ومنذ مدة قريبة قتل الإرهابيون نحو ٧ آلاف رأس من غنم العواس الذي تختص به المنطقة الشرقية ودير الزور على وجه الخصوص، وهي فصيل مهم جدًّا في مجال الأغنام ولطالما درّ تصديره العملة الصعبة على خزينة الدولة السورية، وقتل "الدواعش" له هي عملية مقصودة وجزء من سعي هؤلاء لضرب الاقتصاد الوطني السوري.
وبحسب المصدر، فإن موسم الكماة يبدأ في فصل الربيع وتحديدًا من منتصف الشهر الثاني وصولًا لمنتصف الشهر الرابع. وتمتد جغرافيا جمع الكمأة على امتداد البادية السورية. وفي ما يخص دير الزور فهي تمتد على مساحة الباديتين الجنوبية الشرقية والجنوبية الغربية. ففي البادية الجنوبية الشرقية تمتد من منطقة الشولا وصولًا إلى منطقة السخنة جنوبًا وتمتد شرقًا إلى الحدود العراقية ومنطقة التنف. أما البادية الجنوبية الغربية فتمتد من منطقة غباجب في سلسلة جبال البشري وما حولها إلى حدود الرقة الإدارية.
لقد دأب أهالي دير الزور، منذ مئات السنين، على جمع الكماة في مثل هذا الوقت من العام وتقديمه مع اللحم الضأن. وفي أثناء الأزمة؛ انقطع البحث عن الكماة من ٢٠١٢ إلى ٢٠٢٠ بسبب وجود المجموعات الإرهابية من "داعش" وغيرها في البادية وصعوبة الوصول إلى هذه المناطق. وبعد تحرير المدينة؛ بدأ الأهالي بالبحث عن الكماة في المناطق القريبة نوعًا ما خوفًا من تسلل للمجموعات الإرهابية، ولا سيما جيوب تنظيم "داعش" القريبة من منطقة التنف. ومع الشعور النسبي بالأمان؛ بدأ الأهالي بدخول هذه المناطق بعمق أكبر، ما زرع عند خلايا التنظيم فكرة استهداف الأهالي لإحداث فوضى في هذه المناطق بغية اشغال الجيش السوري هناك، حيث تتوزع نقاطه على مسافات في البادية، لكن الأهالي يبتعدون في العمق بحثًا عن الكمأة فيقوم التنظيم التكفيري بزرع الألغام في هذه المناطق التي تكون تربتها ناعمة ولا يوجد فيها صخور وتتشقق تربتها بعد المطر أو الندى حيث يكثر وجود الكمأة.
ولفت المصدر الأمني إلى أن "الدواعش" يتلقون الإخباربات عن أماكن وجود الباحثين عن الكمأة من آلية الرصد التي توجد في قاعدة التنف؛ لأن قوات الجيش السوري بدعم من الطيران الروسي تقوم منذ ثلاثة أعوام تقريبًا بتمشيط دوري لهذه المناطق. وهذا ما يؤكد بأن هذه القوات تكون محمولة جوًّا عن طريق حوامات تقوم بوضعهم في أماكن معينة بعد نصب كمين للأهالي الذين يجري رصدهم سلفًا من الطيران المسيّر أو الأقمار الصناعية الأميركية الموجود في قاعدة التنف.