آراء وتحليلات
هل تحمي "ترسانة القرارات الدولية" لبنان؟
علي عوباني
لا يضير ممتهني الشحاذة على أعتاب مجالس الأمم، بيع سيادة لبنان، ولو تطلّبت تأدية الدور إراقة ماء وجوههم، وسيلان دموعهم استجداءً لقرارات، يتبجحون بأنها تحمي لبنان، بديلاً عن "كورنيت" حزب الله وقوة الرضوان.
يجاهر منظرو وفلاسفة عصرهم بابتكار استراتيجيات دفاعية محكمة، يطالعك بعضهم بـ"استراتيجية النادور"، وآخر بـ"نشر الأبراج"، ويهلل آخرون للمجتمع الدولي مدججين بترسانة قرارات دولية، يطبّلون ويزمرون، أنها الحامي الأوحد للبنان ودرعه الحصينة، وأنها سترعب العدو بعيارات أرقامها الثقيلة وتدفع دباباته بعيدًا عن استباحة سنتيمتر واحد من حدود لبنان، وتصدّ طائراته وتمنعها من انتهاك أجوائه. فهل الوصاية الدولية كفيلة فعلاً بحماية لبنان، وكف الاعتداءات وردع العدوان الإسرائيلي عنه؟!. وكيف ذلك بظل تجاوز انتهاكات الاحتلال المتواصلة منذ 75 عامًا، الـ35 ألف خرق للقرار 1701 وحده؟! ثم كيف لمجتمع دولي لا يجرؤ على إدانة جرائم الإبادة الاسرائيلية في غزة بكلمة أو حرف أن يحمي دولاً وشعوبًا؟.
إذا كان البعض لا يعتبر من غزة الشهيدة والشاهدة على عقم مجالس الأمم العربية والدولية، لربما جردة تاريخية سريعة تنعش ذاكرته. استعراض بسيط لمسلسل القرارات الدولية الصادرة بالمئات (الخاصة بفلسطين ولبنان) عن مجلس الأمن منذ 1948 حتى اليوم، يفيد أنها بأكملها لم تنفذ وبقيت حبرًا على ورق، بسبب تعنت الكيان المحتل وأطماعه التوسعية في لبنان. وأول تلك الاجراءات الدولية كان هدنة 1949؟.
هدنة 1949 وإسقاطها من قبل العدو
في آذار 1949 وقّع ضباط لبنانيون وصهاينة هدنة 1949 تنفيذًا لقراري مجلس الأمن 61 و62 الصادرين في تشرين الثاني/أكتوبر 1948، فحددت عدد العتاد والقوات المسموح بها لكلا الطرفين على جانبي الحدود، ونصت على منعهما من اتخاذ أي أعمال عدائية. لكن الهدنة لم تعمر طويلاً، بعدما داست "اسرائيل" عليها وواصلت اعتداءتها على قرى جنوب لبنان وقتل المدنيين (اشتباك مع الجيش اللبناني في العام 1960 - شن غارات على منابع الحاصباني والوزاني واحتلال حولا وميس الجبل في تشرين الأول/أكتوبر 1965).
بقيت الهدنة الشرعة الدولية الناظمة للحرب بين لبنان وكيان الاحتلال، دون التزام الأخير بها حتى أتت حرب حزيران 1967 مع مصر وسوريا. وعلى الرغم من أن لبنان لم يشارك بها ولا بأي حرب سابقة أو لاحقة، اجتاحت "اسرائيل" مزارع شبعا في جبل الشيخ واحتلتها، لتعود وتقوم في 28 كانون الأول/ديسمبر 1968، بإنزال فرقة "كوماندوس" في مطار بيروت وتنسف 13 طائرة مدنية.
بعد حرب 1967 وصدور قراري مجلس الأمن 233 و234 سارعت "اسرائيل" الى إسقاط الهدنة واعتبارها لاغية، متذرعة بأن لبنان أعلن الحرب عليها مع الدول العربية. لكن ذرائع العدو الواهية لنسف الهدنة لم تصمد طويلاً، فسرعان ما تكشفت الأسباب الحقيقية خلفها، وبرزت في الأطماع الصهيونية من خلال الاجتياحات المتكررة للأراضي اللبنانية؛ ففي العام 1970 اقتحم جيش الاحتلال قرى العرقوب ومرجعيون وبنت جبيل، أعقب ذلك إصدار مجلس الأمن الدولي القرارين 279 و280 اللذين طالبا بالانسحاب من الأراضي اللبنانية، ثم أعاد الكرّة في العام 1971، ليصدر بعدها القرار 295، وتتالت الاعتداءات بشكل شبه يومي (قصف جسر الليطاني في أيلول/سبتمبر 1972 - مهاجمة مخيمي البداوي ونهر البارد في شباط/فبراير 1973 – قصف رادار الباروك واستشهاد تسعة عسكريين في نيسان/أبريل 1973- اقتحام عيتا الشعب وقصف صور 1975 - احتلال مرتفع النبي عويضة المطل على بلدة الطيبة في آب/أغسطس 1976 - ارتكاب مجزرة بنت جبيل وسقوط 23 شهيدًا و30 جريحًا في 21 تشرين الأول/أكتوبر 1976..) دون أن يأبه العدو بكل القرارات الدولية، ضاربًا بها عرض الحائط، في منتصف آذار/مارس 1978 ومنفذًا اجتياحًا جديدًا أسماه "عملية الليطاني"، بهدف إقامة ما وصفه بـ"حزام أمني" على طول الحدود اللبنانية.
القرار 425: عشرات الأعوام دون تنفيذ
عقب هذا الاجتياح عام 1978 صدر القرار 425 ونص على وجوب الانسحاب الإسرائيلي من كل الأراضي اللبنانية حتى الحدود المعترف بها دوليًّا، تبعه سلسلة قرارات تؤكد على مضمونه (426/1978 – 436/1978 - 467/1980 - 498/1981 و490/1981)، ورغم ذلك لم تنفذ "اسرائيل" أيًّا من تلك القرارات وبقيت محتلة للأراضي اللبنانية، وما زالت تحتل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبلدة الغجر حتى يومنا هذا.
سبق القرار 425 صدور عدد كبير من القرارات الدولية قبل العام 1978 (القرارات: 279 و285/1970 – 313 و316/1972 - 332/1973 - 347/1974) وطالبت جميعها "اسرائيل" بالانسحاب الفوري من الأراضي اللبنانية والتوقف عن أي عمليات عسكرية ضد لبنان، وأدانت انتهاكها لوحدة وسيادة أراضيه، لكن العدو لم يذعن أيضًا لأي منها، فلا هو سحب قواته من الاراضي اللبنانية، ولا وجد أن القرار 425 وتوابعه يقف حائلاً دون اجتياحه مجددًا للبنان، وصولاً الى بيروت في العام 1982، لتصدر في إثر ذلك رزمة قرارات دولية جديدة ( 501 و508 و509 و512 و513 و515 و516 و518 و520 للعام 1982 و542/1983 و587/1986 و1052/1996)، أكدت بمعظمها على ضمان انسحاب قوات الاحتلال من لبنان واحترام سيادته وسلامة أراضيه ووحدته واستقلاله السياسي، دون أن تنفذ "اسرائيل" أيًّا من تلك القرارات.
عداد القرارات الدولية منذ نشأة الكيان الصهيوني عام 1948 حتى اليوم بلغ الآلاف، منها ما يتجاوز الـ75 قرارًا يخص لبنان (متعلقة بجنوب لبنان)، بمعدل قرار واحد كل عام، ورغم هذا الكم الهائل بقيت القرارات عقيمة وعديمة الجدوى والفعالية، ولم ينفذ جيش الاحتلال أيًّا منها. فلو كانت ترسانة القرارات الدولية تلك قادرة على تحرير لبنان لحررته منذ العام 1978 يوم صدر القرار 425، ولو كانت تحمي لبنان لحمته منذ اتفاق الهدنة في العام 1949، ومنعت الاعتداءات والانتهاكات الصهيونية التي تجاوزت عشرات الآلاف من الخروق للقرار 1701 فقط، ولو كان همها فعلاً لبنان لا أمن "اسرائيل"، لكانت أوقفت العدوان على غزة فورًا، ولكانت نفذت القرار 194 الصادر منذ 1948 وأعادت اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم، ولما أبقتهم في مخيمات الشتات حتى اللحظة.
في الخلاصة، فإن عقم المنظومة الدولية وعدم فعالية قراراتها بعياراتها المتنوعة، وانحيازها الدائم لصالح كيان الاحتلال، ثبّت بما لا يدع مجالاً للشك أن القرار الوحيد الفاعل والمجدي والذي قدم تجربة مضيئة هو قرار المقاومة الوطنية التي حررت الأرض اللبنانية المحتلة في العام 2000، والأسرى، وحمت لبنان ليشهد بعد التحرير ربع قرن من الأمن والأمان لم يشهد مثيلاً له منذ 75 عامًا.. فـ"خلي السلاح صاحي".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024