آراء وتحليلات
القرار الأولي للمحكمة الدولية: سقوط نهائي للمزاعم الإسرائيلية
عبد الحسين شبيب
لقي قرار محكمة العدل الدولية الأولي في الدعوى المرفوعة من دولة جنوب افريقيا ضد "إسرائيل" اهتمامًا دوليًا غير مسبوق نظرًا لأهمية الموضوع وارتباطه بمسار ومصير العدوان الإسرائيلي المفتوح على الفلسطينيين في قطاع غزّة. ورغم أن القرار لم يلبي جميع مطالب جنوب افريقيا الاجرائية في المرحلة الأولى من الدعوى إلا أنه تضمن نتائج هامة جدًّا يمكن ايرادها على الشكل التالي:
١ - دق القرار الأولي المسمار الأخير في نعش الرواية الإسرائيلية التي سوقها العدوّ مع حلفائه الغربيين في بداية عدوانه على غزّة بزعم الدفاع عن النفس وتبرير وحشيته. صورة "المظلومية الإسرائيلية" سقطت نهائيًا.
٢ - شبه الإجماع لدى أعضاء المحكمة على البنود واقتصار الاعتراض على قاض أو اثنين على الأكثر من أصل 17 يؤكد أن شيئًا فظيعًا ترتكبه "إسرائيل" ضدّ الفلسطينيين، بمعزل إذا كان سيتم تثبيت جريمة الإبادة الجماعية في وقت لاحق في ختام النظر بالدعوى واصدار القرار النهائي.
٣ - يفترض أن تكبل الإجراءات المقررة يد الجيش الإسرائيلي وتضع قيودًا عليه، لأن أي مخالفة للبنود الواردة في القرار يمكن أن تستخدم كدليل اضافي على النية المسبقة لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وستشكل أيضًا دليلًا ماديًا اضافيًا على الإصرار على ارتكاب الجريمة بعد تحذير المحكمة من مواصلة القتل والتدمير والحصار.
٤ - قوض القرار مقولة "الدفاع عن النفس" بالمعنى القانوني التي تذرعت بها "إسرائيل" لتبرير اجرامها، وأصبحت فاقدة لهذا المبرر الذي حرمتها منه المحكمة كما قال بنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدو.
٥ - المساعدات العسكرية والمادية التي تقدمها أي دولة أو طرف إلى "إسرائيل" أو أي مواقف سياسية أو اعلامية داعمة لعمليتها في غزّة ستثير شبهات قضائية جنائية حول شراكة تلك الأطراف في جريمة الإبادة الجماعية أو الحض عليها، وبالتالي ستكون كلّ الأطراف الصديقة لـ"اسرائيل" معنية بعد القرار بدارسة الجوانب القانونية للمساعدات أو بيع الأسلحة المستخدمة في ارتكاب الجرائم، أو تبني المواقف السياسية أو الاعلامية. ولعل ما أشيع أمس عن اتفاق تسليح للكيان بطائرات أف ٣٥ واف ١٥ ومروحيات اباتشي وأسلحة وذخائر أخرى قبل صدور القرار هو استباق له حتّى لا jكون له تبعات على واشنطن باعتباره أبرم قبل قرار المحكمة الدولية.
٦ - السياق الذي استدلت به المحكمة في قرارها بالاستناد على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة وتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة والمقرر الخاص لمجلس حقوق الإنسان المعني بفلسطين وتقارير منظمة الصحة العالمية ووكالة غوث اللاجئين الأونروا يشير إلى ما يشبه الاجماع في مؤسسات الأمم المتحدة على إدانة ما تقوم به "إسرائيل" ضدّ الفلسطينيين من قتل وحصار وتجويع.
٧ - انتقاء أغلب النصوص من متن دعوى جنوب افريقيا دليل على وجاهة ما ورد فيها من اثباتات وترجيح للدعوى الجنوب افريقية على الدفوعات الإسرائيلية، ودليل اضافي على تهاوي المبنى القانوني للدفاع الإسرائيلي في وجه الاتهامات الجنوب افريقية.
٨ - يمهد اقتباس قرار المحكمة لتصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين التي تحرض على القتل والتدمير والإبادة والكراهية وإدانة هذه التصريحات إلى التأسيس لمحاكمة هؤلاء بصفة فردية كمسؤولين عن ارتكاب جريمة الإبادة أو الحض عليها ويعرضهم للملاحقة امام محاكم خارجية لديها صلاحية الاختصاص العالمي، وبالتالي يمكن أن يؤثر على حركتهم في السفر خارج الكيان خوفًا من الاعتقال.
٩ - إن موافقة المحكمة على صلاحيتها في النظر في القضية وتوافر أسباب موضوعية لذلك يشكل انتكاسة للدفوعات الإسرائيلية بعدم اختصاص المحكمة أو عدم توافر شروط القضية أو انحياز جنوب افريقيا إلى جانب الفلسطينيين، وبالتالي تعتبر "إسرائيل" حاليًا مكشوفة قانونيًا لسقوط حججها وأدلتها، وباتت تحت الرقابة القضائية الدولية وبالتالي يفترض أن تتقيد أعمالها العسكرية في أثناء حربها على غزّة.
١٠ - أن عدم التزام "إسرائيل" بموجبات قرار المحكمة وعدم تقديم تقرير في مهلة شهر واستخفافها بقرار المحكمة سيجعلها دولة مارقة وخارجة على الشرعية القضائية الدولية، وبالتالي يسهل استخدام توصيف مثل "دولة الاجرام الإسرائيلي" على سبيل المثال، حيث سيكون مصطلحًا واقعيًا وحقيقيًا وليس دعائيًا، وهذا المصطلح يمكن أن يصبح ساري المفعول بعد انقضاء مهلة الشهر لالتزام "إسرائيل" بمندرجات القرار.
١١ - صحيح أن قرار المحكمة شابه النقص بعدم الدعوة الفورية إلى وقف إطلاق النار، وهي أبرز نقاط ضعف القرار، لكن مجموع الإجراءات المطلوبة من "إسرائيل" تعني بالمفهوم القانوني اقتصار العمليات العسكرية على أهداف عسكرية وتجنيب المدنيين أي مخاطر حربية أو غذائية أو طبية أو حتّى نفسية.
١٢ - سبق لمحكمة العدل الدولية نفسها أن أصدرت قرارًا استشاريًا اعتبرت فيه جدار الفصل العنصري حول قطاع غزّة عملًا غير مشروع بتاتًا ومدان ويجب ازالته، ولكن "إسرائيل" لم تكترث لقرار المحكمة وواصلت بناءه وهو نفس الجدار الذي اجتازه مقاتلو المقاومة الفلسطينية في ٧ اكتوبر في طوفان الاقصى؛ وبالتالي بقدر الافادة من قرار المحكمة الجديد فإن الاشكالية تبقى في أن "إسرائيل" كانت دائمًا خارج المساءلة الدولية ومحمية من الملاحقة الجنائية ومن عقوبات مجلس الأمن.
كما أن المسار الزمني الطويل للنظر في الدعوى يتناقض مع حالة الإلحاح - العجلة التي أقرتها المحكمة في الدعوى الحالية، والتي تقتضي أن تسرع في إنجاز القرار النهائي واختصار المسار الزمني حتّى لا تبقى "إسرائيل" طليقة اليد، وإلا اعتبرت المحكمة مقصرة في حماية الفلسطينيين رغم اقرارها بخطورة ما يتعرضون له حاليًا من إجراءات إبادة جماعية.
١٣ - الصراخ الإسرائيلي في وجه المحكمة والانتقادات القاسية التي وجهت لها وللقرار تظهر حجم الانزعاج الإسرائيلي منه وحجم الضرر الممكن أن يلحق بها في هذا المجال القضائي الدولي والذي يمكن أن يتكامل مع مسار مماثل في المحكمة الجنائية الدولية تقوم حاليًا مجموعة كبيرة من المحامين بمتابعته شرط أن تسير الأمور دون تدخلات سياسية وضغوط دولية.
باختصار ومع ما تقدم يعتبر هذا القرار وفرص استكماله حتّى النهاية بما يضع حدًا للإجرام الإسرائيلي، اختبارًا جديدًا للعدالة الدولية يمكن أن يثبت خيار الرهان عليها أو يسقطها بالضربة السياسية القاضية من قوى الهيمنة العالمية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024