معركة أولي البأس

خاص العهد

2024 ليست 2006.. عناصر قوّة لبنان تتكامل
18/01/2024

2024 ليست 2006.. عناصر قوّة لبنان تتكامل

فاطمة سلامة

يُعيدنا الموقف الذي اتخذه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي خلال الجلسة الحكومية الأخيرة والذي ربط فيه التهدئة في لبنان بوقف إطلاق النار في غزة الى العام 2006. طبعًا، المنطق يفترض أن يُبدي أي رجل دولة الموقف ذاته الذي أبداه ميقاتي انطلاقًا من مصلحة لبنان، لكن يُسجّل للرئيس ميقاتي شجاعته في تظهير هذا الموقف "الطبيعي" في بلد عزّت فيه الكلمة الوطنية الحرة. وفي هذا السياق، تتسلّل الى الذاكرة محاضر المواقف التي سُرّبت إبان حرب تموز عن رئيس الحكومة آنذاك فؤاد السنيورة. بالتأكيد، لا وجه للمقارنة بين الموقفين. لكنّ استرجاع التاريخ يُفيد في التأكيد على نقاط القوة التي يمتلكها لبنان اليوم في وجه العدو الإسرائيلي. تلك النقاط ترسم المشهد الذي تتكامل فيه المواقف رسميًا وشعبيًا وعسكريًا (جيش وشعب ومقاومة)، ما يعني حُكمًا وحدة الكلمة اللبنانية، بغضّ النظر عن أصوات النشاز هنا وهناك والتي لا تُفسد في الوحدة قضيتها.

في حرب تموز 2006 حاربت المقاومة بصلابتها العدوّ وانتصرت عليه، لكنّها كانت بالتوازي تخوض حربين؛ أولى عسكرية على الجبهة، وثانية دبلوماسية كي لا يحصل العدوّ في السياسة على من لم يأخذه في الميدان، وهذا ما سعى إليه البعض في الداخل اللبناني. وفي هذا السياق، يسرد الوزير السابق علي حسن خليل في كتابه "صفحات مجهولة من حرب تموز"، محطات تلك الفترة، وكواليس العديد من النقاشات ــ كما يكشفها رئيس مجلس النواب نبيه بري ــ، فيتبيّن كمّ التخاذل والتصدُّع الذي ساد الموقف الرسمي، وتحديدًا الصادر من السراي الحكومي. على سبيل المثال، يروي خليل كيف بلغت الأمور في جلسة مجلس الوزراء، التي انعقدت مساء وعلى وقع الحرب الدائرة، حدًا قاسيًا بين الرئيس السنيورة وفريقه وبين وزراء حزب الله وحركة أمل حيث أصرّ السنيورة على إدراج نص "الحكومة ليست على علم بأسر الجنديّين الإسرائيليين ولا تتحمل المسؤولية"، وقِس على ذلك الكثير من المواقف التي كُشفت، والتي لم يمثّل فيها السنيورة مصلحة لبنان. الوزير السابق محمد فنيش يتحدّث أيضًا في إحدى مقابلاته الصحفية كيف استدعاه السنيورة وقت الحرب لإبلاغه بالنقاط الثمانية التي أملتها وزيرة خارجية الولايات المتحدة كوندوليزا رايس. وبدل أن ينتظر رد حزب الله عليها، ذهب السنيورة إلى روما وطرح ما عُرف وقتها بالنقاط السّبع والتي هي نسخة ملطّفة عن نقاط رايس. 

استرجاع تلك المواقف اليوم ليس من باب "نبش" الماضي، بل من باب التذكير بأنّ لبنان عام 2006 ليس لبنان عام 2024. المحلّل السياسي الدكتور وسيم بزي يلفت إلى أنّ هذه المعركة تتميّز بمجموعة من الخصوصيات تحكم مشهدها المعنوي والسياسي والشعبي والاستراتيجي. أولى هذه الخصوصيات أنّنا ننخرط في هذه الحرب إسنادًا لشعب فلسطين، وهذا أمر يُجمع عليه المسلمون بأكملهم، وقسم من المسيحيين يعترف بواقع مظلومية هذا الشعب في هذه المواجهة بغض النظر إذا كان يستسيغ الأسلوب الذي على أساسه تُدار المعركة. وعليه، يُمكن القول إنّ هناك تفهمًا ــ إلى حدّ كبير ــ للطريقة التي تخوض فيها المقاومة معركة إسناد فلسطين. 

في الموضوع الشعبي، يلفت بزي إلى أنّ الشعب اللبناني نادرًا ما تخلّف عن ركب هكذا نوع من المواجهات التي لها طابع وطني وعربي وإسلامي. هذه قوة وتعزيز لنوعية المعركة التي تُخاض الآن، لكن الأهم بهذه المواقف ــ من وجهة نظر بزي ــ هو الموقف الرسمي، الذي تُمثَّل فيه حقيقة الدولة بالسلطات الأساسية التي تتعاطى بمسؤولية عالية مع هذه المرحلة. هذا الأمر مجسّد في الخطاب السياسي، واللقاءات مع القوى الدولية، وفي مواجهة الضغوط التي تُسلط، ولعبة التهويل و"الإرعاب" التي تحاول أن تنال من وحدة الموقف اللبناني وثقته بنفسه. وفق بزي، الموقف الرسمي ممثّل بشكل أساسي في السلطتين التنفيذية والتشريعية. صحيح أن هناك شغورًا رئاسيًا، ولكن هذا الشغور لا يمثل ثغرة استراتيجية في إطار هذا الأمر. 

وفي هذا السياق، يُعرب بزي عن تقديره للدور الكبير الذي يؤديه ميقاتي على رأس الحكومة خلال الـ104 أيام، حيث عبّر عن فعل إيمان حقيقي في التضامن مع الشعب الفلسطيني ومظلوميته، ووضع العدوّ في موقع المعتدي على لبنان، والمقاومة في موقع المتصدّي لهذه الاعتداءات، وحتّى عندما تهاجم المقاومة، كان يضع منطق الهجوم في موقع الإسناد لفلسطين. كما يسجّل لميقاتي رفضه أي بحث بمعالجات للواقع الموجود في منطقة المواجهة عند الحدود بمعزل عن إيقاف النار في غزّة، وهذا ــ بحسب بزي ــ تطوّر كبير في الموقف الرسمي اللبناني تجاوز كلّ المحطات الماضية التي عشناها في المواجهات التي كان فيها نزعات انطوائية للداخل اللبناني ورفض التفاعل مع قضايا الأمة أو مظلومية شعب. 

والأهم من ذلك، يقول بزي، إذا كان رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري مثّل دورًا إيجابيًا في مرحلة تفاهم نيسان عام 1996، فإنّ ميقاتي اليوم يخوض معركة ديلوماسية كبيرة جدًا يُحيط فيها بكل عناصر القوّة اللبنانية ويوظّفها على الطاولة، ويدير عملية وصل بين المقاومة والقوى المتضامنة معها في الداخل والعالم الخارجي من خلال الإضاءة على مشروعية هذا الموقف التكاملي غير المسبوق بين الدولة والمقاومة، وهذه أكبر عملية توظيف إيجابي لواقع المعركة التي تخاض ــ ولبنان معني بها ــ خاصة أن العالم كله ينظر إلى الجبهة اللبنانية العسكرية كإحدى أهم وأخطر الجبهات تهديدًا لكيان العدو، فيما يُساهم الدور الرسمي باستمرار فعالية هذه القوّة على كيان العدوّ ما يُثقل عليه حساباته وواقعه الاستراتيجي، ويقفل الطريق داخليًا على أي شقاق يسمح بإضعاف الورقة القوية، ولا يزال يعطيها الدفع والحيوية لتؤدي دورها التهديدي للعدو والمساند لفلسطين. 

يُذكّر بزي أنّه في عام 2006 خيضت الحرب على قاعدة الانقسام، أما اليوم فتُخاض على قاعدة الوحدة على الأقل بين المقاومة والموقف الرسمي، بعيدًا عن بعض الأصوات في الداخل والتي لا قيمة لها. هذا الفارق بين الأمس واليوم، يمثّل حالة نوعية لا زالت حتّى هذه اللحظة، ونحن في قلب الحرب والمخاطر، وعلى إيقاع جهد يُبذل لضرب هذه الوحدة الرسمية. وفق بزي، بدا هذا الأمر جليًا من خلال الانزعاج الأميركي من الموقف الرسمي، ورسائل التهديد التي تتوالى على لبنان ومحاولة إرعابنا، لكن رباطة جأش وتماسك الموقف اللبناني الرسمي شكّلا حائط صدّ استراتيجي لمنع رسائل الإرهاب من أن تؤتي أكلها ومفاعيلها. وهذا ليس مرتبطًا فقط بأن المسؤولين جديرون بأن لا يأكلوا هذا الطعم، بل مرتبط بإيمان المسؤولين بقوة المقاومة وحكمة سيدها. وفق بزي، ثمّة إيمان رسمي بحكمة الإدارة العسكرية السياسية التي يُدير فيها الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله هذه المعركة التي تُراعي أولوية المساندة لغزّة، وبالتوازي أولوية حماية لبنان. لذلك أدير مسرح العمليات بطريقة تحفظ الأولويتين معًا، وإن كان هذا الأمر أدى إلى سقوط شهداء. 

وفي الختام، يؤمن بزي بأننا أمام فرصة تاريخية يجب أن لا نضيعها لأن ثمارها أينعت وقطافها قد بدأ. علينا أن ندع اللبنانيين يدركون ولو لمرة واحدة أن وحدتهم أفضل للبلد من أي انقسام داخلي، والأجندة الوطنية هي التي تحكم الخيارات وليست الأجندة الخارجية التي تحرّك بعض المشغّلين الصغار في الداخل.
 

إقرأ المزيد في: خاص العهد