آراء وتحليلات
الحماقة الإسرائيلية.. والقوة الرادعة
يونس عودة
يبدو أن المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين الموجود في "تل أبيب" يتريث في المجيء إلى لبنان ما لم يكن لديه تصور واضح يمكن أن يقتنع به اللبنانيون، فقد فهم أن حضوره سيكون من دون جدوى في ضوء التخادم الوظيفي بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، الذي عجز جيشه عن تحقيق أي من أهداف حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، وبالتالي القضاء على القضية الفلسطينية. أما التبريرات المساقة من العارفين الأميركيين في أجواء "المبعوث السام" والأرجح أنها حقيقية، فتعود إلى الإرباك الجديد في الإدارة الأميركية الناتج عن الخطاب الجوهري للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في ذكرى اغتيال القائدين الثوريين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وهو الخطاب الذي لا يمكن أن يلتبس على أي مخلوق بأنه: "إذا شنت "إسرائيل" الحرب على لبنان حينئذ سيكون قتالنا بلا سقوف، بلا حدود، بلا قواعد، بلا ضوابط".
طبعًا يمكن للمبعوث الأميركي أن يأتي ويحتسي القهوة قرب صخرة الروشة، مع أن الرئيس الأميركي استدعاه الأسبوع الماضي وطلب إليه أن يعالج الملف اللبناني مع العدو الإسرائيلي قائلا له ما حرفيته: "لا أريد بعد جولتك أن يبقى هذا الملف على طاولتي".
ممّا لا شك فيه أن أكثر المعنيين هما الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، ومن هنا يأتي الإرباك لا سيما أن تسديد الحساب في مسألة اغتيال القائد الفلسطيني صالح العاروري آتٍ لا محالة، وتكفي كلمات السيد الحاسمة بأن: "هذه الجريمة لن تبقى من دون رد وعقاب وبيننا وبينكم الميدان والأيام والليالي". والخلاصة أنه بلا امتلاك قوة، فإنّ كلّ القرارات الدولية والمنظمات الحقوقية والإنسانية المفصّلة على المقاييس التي تخدم الغرب الاستعماري، لا يمكن أن تنصف أو أن تكون إلى جانب الحق مهما كان جليًا.
بناء عليه، أي بناء على قوّة المقاومة في غزّة، بدأت تتحطم الأهداف الإسرائيلية المعلنة بشأن عملية الترانسفير للفلسطينيين بدءًا من سيناء وصولًا إلى الكونغو.
في هذا السياق، أعلن مسؤول إسرائيلي رفيع أن دعوات تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة التي أطلقها بداية رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو ووزراء مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، والأمن القومي إيتمار بن غفير هي "أوهام غير مرتبطة بالواقع". حتّى إنه أراد أن يبرر الإجرام الإسرائيلي بالقول إن: "إسرائيل" "لا تعمل على تهجير سكان غزّة وتوطينهم في أماكن أخرى من العالم"، وتابع :"لا مليون ولا خمسة آلاف"، و"حتّى لو أردنا ذلك، "إسرائيل" ليس لديها القدرة على دفع سكان غزّة إلى الهجرة إلى دولة أخرى"، في إشارة إلى القيود القانونية. ولا توجد أي دولة تستقبل الفلسطينيين. كما كتبت صحيفة “هآرتس” عن خطاب الترانسفير: "الإسرائيليون لا يسمعون أنفسهم، لكن في العالم يتعاملون مع هذه الأقوال بجدية"، في إشارة إلى الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا، وإلى التنديد بدعوات الترانسفير من جانب دول عدة عشية انعقاد محكمة لاهاي المقرر في 11 الجاري.
إن الصمود الأسطوري لغزّة لم يُفشل فقط خطة الترحيل في ظل الإبادة المستمرّة، بل أسقط كلّ الأهداف التي حلمت قيادات الكيان بتحقيقها وصولًا إلى التهجير. وقد أقر غالبية المحللين الإسرائيليين بأن: "ليس بإمكان "إسرائيل" تحقيق أهدافها بالحرب على غزّة والقضاء على حركة حماس وتحرير المحتجزين، وأن تصريحات القيادة السياسية خصوصًا غير واقعية".
ما توصل إليه المحللون يمكن أن يجاهر به أكثر ممثلي الدول التي طالما ساندت المجازر التي ارتكبها جيش العصابات الإسرائيلية. يندر أن تحاور سياسيًا حقيقيًا، أو دبلوماسيًا ذا خبرة واسعة، سواء أكانت بلاده غير خجولة من المجاهرة في دعم حرب الإبادة على غزّة- بالرغم من الحراك الشعبي المناهض بشدة لسياسة الطبقة الحاكمة فيها- أو من بلاد لم تعد قادرة أن تكون شيطانًا أخرسَ، وشاهد زور، إلا وتصل إلى نتيجة واحدة، أن الأهداف التي وضعتها حكومة بنيامين نتنياهو، غير قابلة للتحقق أبدًا ما يعني استحالة هزيمة المقاومة الفلسطينية.
أحد الدبلوماسيين المخضرمين لا يتردّد بأن يستشهد بما توصل إليه محللون إسرائيليون، طالما كانوا من المساهمين في صنع القرار السياسي الإسرائيلي، ومن هؤلاء المحلل السياسي في صحيفة "يديعوت أحرونوت" ناحوم برنياع الذي جزم بأنه: "ممّا لا شك فيه الآن بأن الأهداف التي وضعها المستوى السياسي أمام الجيش كانت غير قابلة للتحقيق. وهذا كان واضحًا للجميع منذ اليوم الأول للحرب. التصفية، التدمير، الحسم، هي أمنيات وليست استراتيجية. ولا جدوى من تسويق انتصار غير موجود للجمهور".
إذا كانت بعض النخب "الإسرائيلية" المؤثرة ترى ذلك، وهي تعكس بصورة ما رأي النخب العسكرية والأمنية، وهؤلاء تجرعوا مرارة الانكسار غير المسبوق في الميدان، فلما المكابرة إذا؟ ولماذا تصرّ الولايات المتحدة على التمادي في القتل الجماعي، ومدّ هذا الكيان بكل وسائل القتل والإبادة؟
الجواب واضح تمام الوضوح، فالإدارة الأميركية باتت متيقنة بأن المغامرة التي ترعاها هي السبيل الوحيد "كرهان" يمكن أن يغير النتائج السياسية، أي بمعنى أوضح أن المقاومة ستضطر إلى التراجع تحت وطأة المجازر والتجويع والتعطيش ونضوب الأدوية، وعدم القدرة على الاستشفاء، لكن يغيب عن ذهنها أن الشعب الفلسطيني برمته بات أكثر إصرارًا على التضحية أكثر بكثير مما عاناه طوال 75 عامًا، وزاده إصرارًا على المواجهة والتضحية، بعد تجربة الاتفاقات المذلة، والتي فاقمت معاناته على كلّ المستويات التي واكبتها شعارات قادة الاحتلال وتوجيهاتهم إلى الجنود: "اقتلوا، انهبوا، اهدموا"؛ هكذا يسوّقون التوراة للجنود. وهكذا يسوّقون الحرب لهم.
إن موقف الإدارة الأميركية التي أنشأت جسرًا جويًا غير مسبوق أيضًا لتزويد الاحتلال بكل وسائل الإجرام، وتقول إنها بالمقابل تريد وصول مساعدات إنسانية إلى الغزاويين وترفض أي وقف حقيقي لإطلاق النار، ليس إلا من ضمن محاولات التوغل أكثر في تشويه الحقيقة الساطعة التي بدأت تتكشف أمام الرأي العام الدولي، ولذلك فإن كلّ المطروح على المستوى السياسي والدبلوماسي، وما يُسمى بالمبادرات، يتمحور حول حل أزمات الكيان الذي يواصل الهروب إلى الأمام، وليس حل القضية، حيث إن أي مقاربة حقيقية لا يمكن أن تكون مجزّأة، أي لا يمكن أن تقدم للمعتدي منذ 75 عامًا جائزة سياسية لم يتمكّن من فرض شروطها في الميدان.
في ظل هذا الواقع يستهجن دبلوماسي أوروبي، كيف يكرر بعض اللبنانيين من دون كلل ضرورة التفريط بأوراق القوّة اللبنانية الرادعة لـ"إسرائيل"، أي محاولة إلقاء اللوم على المقاومة، والزعم أن "إسرائيل" لم تعتدِ على لبنان، وكأنهم يقدمون أوراق اعتماد أو تجديد أوراق اعتماد لعدو بلدهم، ويذكّر دبلوماسي غربي بما جرى في العام 1968، وبالتحديد في مساء 28 كانون الأول، حين انطلقت قوة إسرائيلية خاصة على متن مروحيات إلى مطار بيروت الدولي، ونفذت عملية دمرت أسطول الطيران المدني اللبناني المؤلف من 13 طائرة ركاب كانت جاثمة على أرض المطار تعود للشركة الوطنية "طيران الشرق الأوسط". وكان وقتها الأسطول اللبناني يعدّ الأكبر في المنطقة، وحينها لم يكن حزب الله قد ولد بعد من رحم المعاناة. ولم يكن لبنان منخرطًا أصلًا في الحادثة التي تلطت خلفها "إسرائيل" للانتقام "ردًا على اختطاف مجموعة فدائية فلسطينية تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في 22 تموز 1968 طائرة إسرائيلية، كانت متوجهة من روما إلى تل أبيب، وتوجهوا بها إلى الجزائر".
قوبلت تلك العملية العدوانية الإسرائيلية الكبيرة بانتقادات دولية حادة، حتّى أن الرئيس الفرنسي وقتذاك شارل ديغول أوقف صفقة تسليم "إسرائيل" خمس مقاتلات ميراج 5، بخلاف ما يفعله الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون الذي توعّد بتشكيل تحالف دولي للقضاء على المقاومة الفلسطينية، ويغض الطرف عن المجازر الإسرائيلية في غزّة والضفّة، ويهدّد اللبنانيين بالويل وبعظائم الأمور ما لم يتماهوا مع رغبات "إسرائيل" المجرمة.
ولبنان بلد "العين لا تقاوم المخرز" في تلك الحقبة، كان يفتقد لمقومات الرد على العدوان السافر تحت أعين الأمم المتحدة. في موازاة ذلك، صدر بيان عن مجلس الأمن الدولي رأى أن العملية الإسرائيلية التي دمرت نحو نصف أسطول النقل الجوي المدني اللبناني تتعارض مع القانون الدولي، فحذر "إسرائيل" من أنه سينظر في اتخاذ المزيد من الخطوات في حال تكرار مثل هذه الحوادث، وانتهى الأمر في ذلك الوقت عند هذا الحد.
اليوم لا يشبه العام 1968.. اليوم؛ تحسب "إسرائيل" أن في لبنان قوة رادعة اسمها المقاومة، لن تسمح لها باستباحة ما يحلو لها وباستعراض عضلاتها، وأن الرطل يقابله رطل ونصف، وكل المعايير التي تحاول المقاومة أن تلحظها بسبب الأوضاع اللبنانية التي يراهن مقدمو أوراق الاعتماد بأنها يمكن أن تستمر، تسقطها المقاومة في اللحظة التي تمس المصلحة الوطنية، ولا يشكك أحد في عبقرية قيادة المقاومة في كيفية استخدام ما تملك من قوة في الزمان والمكان المناسبين.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024