آراء وتحليلات
بانوراما 2023 | في وداع عام "سقوط الأقنعة" واستقبال "عام الضباب"
إيهاب شوقي
بعد عقود عديدة من صياغة مفاهيم السياسة الدولية وتدريسها بالأكاديميات السياسية، وتناولها صحفيًا وإعلاميًا وبحثيًا، بدا أن كثيرًا من هذه المفاهيم والتعريفات والمصطلحات بحاجة إلى تحديثات تتلاءم مع المستجدات والنتائج المترتبة على الخداع الكامن وراء صياغتها.
وربما كان هذا العام 2023 والذي يستعد للرحيل، عامًا كاشفًا لكثير من المفاهيم وكاسرًا للكثير من القواعد التي حكمت العالم طوال القرن الماضي وما زالت تحكمه كهيكل خاو من المضامين.
وبطبيعة الزمن، فإن العام الواحد كوحدة زمنية لا يمكن أن يصلح بدقة لقياس المتغيرات الفاصلة ولكن هناك أعوامًا تصبح مميزة بشهودها لبلورة التراكمات، ومنها هذا العام والذي تخللته أحداث كاشفة على رأسها الحرب الدائرة حاليًا بمنطقتنا والتي لم تعد قاصرة على غزة رغم تصدر غزة لجبهاتها المتناثرة.
ومن هذه المفاهيم، مفهوم النظام العالمي ومفهوم العلاقات الدولية ومفهوم القانون الدولي، وغيرها من مفاهيم سادت لضبط توازنات القوى لا لإقامة السلام ولتشريع النهب الدولي لا لرد الحقوق لأصحابها.
وقد ساد مفهوم النظام العالمي للتعبير عن صيغة اتفاق بين القوى الكبرى لإدارة العالم عبر مؤسسات ووفقًا لقوانين وعلاقات دولية تكفل ضبط توازنات القوى والاستعاضة عن الحروب العالمية العشوائية بتكتلات واصطفافات لتقاسم المغانم وضبط الصراعات.
ومن ثم فإن الهدف هو حماية الأقوياء وقطع الطريق على ثورة ومقاومة الضعفاء عبر تشريعات تخضع لمفارقة اخْتُصِرَت في أدبيات السياسة بمقولة شهيرة وهي: "العدل حلم الضعفاء والقانون يكتبه الأقوياء".
ومن ثم كان القانون الدولي خادمًا لهذا المفهوم، وتشكلت تعريفات وقواعد العلاقات الدولية بهذه الروح، وقد وافقت عليها الدول جميعها بما فيها الدول المستضعفة من منطلق إذعان وبمبدأ الحصول على اليسير أفضل من عدم الحصول على شيء.
ومع مرور الوقت حدثت تعديلات على تعريف العلاقات الدولية لتعترف ببروز ظواهر أخرى غير الدولة، فلم يعد المصطلح معبرًا عن العلاقات بين الدول السياسية، بل شمل الحركات والتنظيمات التي تنشق أو تعارض الدولة، أو أي تنظيمات يصبح لها تأثيرًا على المستوى الدولي مثل تنظيمات التحرر الوطني، وكذلك التكتلات والتحالفات العابرة للدول.
كما اعْتُرِف بأن أساس العلاقات الدولية هو الصراع وأن الهدف هو تنظيم الصراع وضبطه، وأن التعاون يكون لخفض درجات الصراع أو تعاون بين مجموعة في مواجهة وصراع مع مجموعة أخرى.
كل هذا التدرج بدأ يتصاعد وتتصاعد معه تراكماته، إلى أن وصل لذروته بعد سيطرة أمريكا على العالم بشكل أحادي القطبية، ثم في التعاطي الأمريكي مع الصعود الصيني وطرق مواجهته، وبشكل أكبر مع الصعود الروسي وبروز الروس عسكريًا رفضًا للحصار الخانق لأمن روسيا القومي، وطيلة الوقت في التعاطي الأمريكي مع القضية الفلسطينية ومع محور المقاومة عبر توظيف النظام العالمي ومؤسساته وقانونه الدولي وعلاقاته الدولية في حصاره وعزلته.
وبينما كان العالم ينكشف خطوة خطوة ويسقط قناعه تدريجيًا، فقد كان هذا العام شاهدًا على الإعلان عن وصول هذا النظام لكامل الانكشاف وسقوط القناع بشكل تام مع تعامل أمريكا والأمم المتحدة والغرب الرافع لشعار الديمقراطية مع جرائم العدو الصهيوني في غزة وما يمكن أن نطلق عليه دون مبالغات بالفضيحة الدولية وشريعة الغاب وغياب أي معايير لنظام أو قانون.
هذا يدفعنا للعام الجديد 2024، والذي يستقبله العالم بقلق بالغ بعد هذا الزلزال الذي خلخل شرعية النظام العالمي وكشف زيف قانونه وازدواجية معاييره بشكل غير مسبوق في التاريخ الحديث.
نعم قد تحاول القوى الكبرى الحفاظ على هيكل النظام بدلًا من الفوضى والحرب، وقد تحاول بعض الدول الضعيفة والمرتهنة أن تتشبث بقواعده حفاظًا على كينونتها، ولكن هل سيشكل هذا الحفاظ على الهيكل أمانًا حقيقيًا من الفوضى؟
هل سترضى القوى الحرة والتحررية بالاستسلام لقانون يفرض عليها التنازل عن الحقوق، وهل ستتعايش الشعوب مع أنظمة لا تستطيع حماية أمنها القومي وفاقدة لشرعيتها ولا تحكم إلا بالقمع.
وهل سيتمكن العالم من الاحتفاظ بضبط الصراعات تحت عنوان العلاقات الدولية أم ستسقط التوازنات بنظرية الدومينو في مختلف البؤر الجيوسياسية لنشهد علاقات دولية مختلفة تنتج من فوضى جيوسياسية ونشوء تكتلات وانشقاقات مستجدة؟
يمكننا هنا أن نطلق على العام الذي يودعنا عام السقوط الكامل للأقنعة، بينما يبقى العام الجديد ضبابيًا وبانتظار حسم الصراعات الراهنة وعلى رأسها الصراع في المحيط الروسي، وربما الأكثر أهمية، هو الصراع في منطقتنا، ليستحق العام الجديد بحق لقب عام الضباب.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024