آراء وتحليلات
تطور العلاقات الإيرانية ــ الأذربيجانية.. صفعة جديدة في وجه الغرب الجماعي
حيّان نيّوف
لم يكن أشد المتفائلين في السياسة يتوقع أن تشهد العلاقات الإيرانية ــ الأذربيجانية هذا التحسّن المتسارع خلال الأشهر القليلة الفائتة بعد ما يقارب سنتين من التوترات المتصاعدة بين الجانبين، والتي كادت أن تصل إلى حدّ المواجهة العسكرية بينهما.
يمكن القول إنّ قيادتي البلدين اتخذتا قرارًا حكيمًا بالتلاقي انطلاقًا مما يجمعهما تاريخيًا كدولتين جارتين في واحدة من أهم الأقاليم الجغرافية في العالم، والتي تمتد من المحيط الهندي والخليج في الجنوب وصولًا إلى القوقاز وقزوين، وامتدادًا من وسط آسيا وجنوبها إلى غرب آسيا وشرق أوروبا.
وضمن الحدود الجغرافية المترامية الأطراف تتقاطع المصالح الكثيرة والكبيرة، حيث مصادر الطاقة وطرق النقل البري والبحري، وحيث مشاريع الممرات الجديدة وخطوط نقل الطاقة، والتي يعوّل عليها العالم أجمع، وتداخلات ذلك كله مع ما يشهده العالم من تنافس وصراعات تشكل مخاضًا لولادة النظام العالمي الجديد.
منسوب التوتر في العلاقات بين البلدين كان قد ارتفع منذ حرب كارباخ في العام 2020 بين اذربيجان وأرمينيا، حيث سيطرت اذربيجان في حينها على اراضي واسعة من الإقليم بدعم من تركيا، وهو ما شكل امتعاضًا لدى طهران التي تتمتع بعلاقات جيدة مع أرمينيا التي نظرت إليها طهران كممر استراتيجي يربطها مع حليفتها روسيا لا يمكن السماح تحت أي ظرف بإغلاقه. هذا الأمر عبّر عنه كبار القادة والمسؤولين الإيرانيين من خلال تصريحاتهم التي أكدوا فيها بأن الحدود التاريخية في المنطقة تشكل خطا أحمرا لا يجوز المساس به خاصة أن باكو وأنقرة كانتا تخططان لإنشاء ممر "زانغزور" الذي يربط أذربيجان بإقليم "نخشيفان" عبر الاراضي الأرمنية، وهو ما تنظر له طهران على أنه يشكل خطرًا على تواصلها البري مع موسكو عبر ارمينيا، ويضاف إلى ذلك القلق لدى طهران من التقارب بين أذربيجان و"اسرائيل". كل ذلك إذا ما أضيف إليه ما جرى من تدريبات عسكرية لكلا البلدين في المناطق الحدودية المتقابلة بينهما، فقد ساهم في زيادة منسوب التوتر إلى الحد الذي ظن معه العالم بأن حربًا بينهما كانت على وشك الإندلاع، وهو ما كنت كل من تل أبيب وواشنطن وحتى انقرة وعواصم أوروبية واقليمية عدة تسعى إلى تغذيته وتنتظر حدوثه.
دفعت الأطراف الغربية وعلى الأخص واشنطن وباريس و"تل ابيب" التي كانت تمني النفس بحصول الصدام بين طهران وباكو وسعت إليه وفي محاولة منها لاقتناص الفرصة وعدم تضييعها، باتجاه حرب جديدة في القوقاز عبر اللوبي الأرميني في الخارج الذي بات ومنذ مدة يمتلك تأثيرا واسعا على الحكومة الأرمينية برئاسة باشينيان الذي أظهر بدافع من الغرب مواقف عدائية تجاه موسكو تمهيدا للإنسلاخ من التحالف معها والإلتحاق بالمعسكر الغربي. وكانت خطة الغرب الجماعي تهدف من خلال ذلك إلى خلق توتر في العلاقات المتنامية بين طهران وموسكو، بالإضافة إلى الدفع باتجاه صدام بين طهران وباكو، ولاحقًا بين طهران وأنقرة، وإعادة خلط الأوراق وتشكيل معادلات جديدة للنفوذ في منطقة القوقاز لصالح الغرب الجماعي تشكل عائقًا وسدًا في وجه أخطر مشروعين يهددان الهيمنة الغربية على المنطقة والعالم، وهما طريق الحرير الصيني، وممر شمال ــــ جنوب الذي يربط الهند وايران بروسيا، وكلا المشروعين يمران عبر القوقاز.
لم يكن مفاجئًا للمتابعين والمهتمين بالشأن الإيراني، ما أظهرته القيادة الإيرانية من حكمة في التعاطي مع كل تلك التعقيدات والمناورات الغربية، وعلى غرار الحكمة التي تعاطت بها طهران في إعادة علاقاتها مع السعودية كجزء من استراتيجيتها الجديدة للإنفتاح على جيرانها، كان التوجه الحكيم للقيادة الإيرانية باتجاه احتواء الخلاف والتصعيد مع أذربيجان وتفويت الفرصة على الغرب الجماعي. هذه الحكمة بدت واضحة من خلال الموقف الإيراني من نقض أرمينيا لاتفاق وقف إطلاق النار في كارباخ الصيف الماضي بدافع وتشجيع من الغرب وما نتج عنه من سيطرة باكو على على الإقليم، ليتبع ذلك الموقف زيارة وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان إلى العاصمة الاذرية باكو ولقائه من الرئيس علييف. هذه الزيارة شكلت منعطفًا تاريخيًا في العلاقات بين البلدين. واللقاء بين الرئيسين الإيراني ابراهيم رئيسي والاذربيجاني إلهام علييف في العاصمة الاوزبكية "طشقند" شكل مرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي بين البلدين وأحداث نقلة تاريخية في العلاقات الثنائية التي ستنعكس على التعاون بينهما في المجالات التي أتينا على ذكرها، وخاصة ممر شمال ــــ جنوب، والممر الذي سيربط باكو بإقليم "ناختشيفان" والذي اقترحت طهران ان يمر عبر أراضيها بعد أن رفضت ارمينيا أن يمر عبرها بضغط غربي، مع العلم ان العلاقات التجارية بين البلدين لم تنقطع مطلقا وبلغ حجم التبادل التجاري بينهما في العام الفائت ما يقارب 700 مليون دولار.
لا شك بأن العلاقات الطيبة والمستجدة والمتنامية بين طهران وباكو، ستكون بمثابة قنبلة جيوسياسية ستنعكس إيجابًا ليس على البلدين فحسب، ولا على دول اسيا الوسطى وغرب اسيا والقوقاز فقط، بل على معظم دول آسيا وشرق اوروبا، لكنها في ذات الوقت تشكل صدمة كبرى للغرب الجماعي على اعتبار أنها ستغلق أحد أهم مناطق النفوذ في وجهه، وتفسح المجال لمزيد من التشبيك بين خصومه.
لم يخف الغرب الجماعي الإمتعاض والصدمة من هذا التقارب الإيراني الاذربيجاني الذي جاء على عكس مخططاته، والمؤكد بأنه لن يقف مكتوف الأيدي، وسيبذل ما في وسعه ويعيد محاولاته ويجدد خططه في محاولة منه للتخريب.
وفي هذا الإطار يمكن لفت الإنتباه إلى حدثين مهمين: الأول متعلق بمحاولات الغرب للتسلل إلى والإختراق عبر ارمينيا من خلال التواجد العسكري فيها ومحاولات تزويده بالسلاح، ومؤخرا كان هناك مناورات عسكرية امريكية في هذا البلد، وتوجه فرنسي لتزويده بالسلاح، وأما الحدث الثاني فتمثل باستدعاء الخارجية الأذربيجانية لسفراء الولايات المتحدة وفرنسا والمانيا وتسليمهم احتجاجات رسمية على تدخلاتهم في الشأن الداخلي الأذربيجاني من خلال تحويلات مالية لمنظمات غير حكومية.
المؤكد بأن الفشل سيكون مصير تلك المحاولات الغربية البالية، خاصة في ظل ما يشهده العالم من تحولات كبرى وفي ظل تراجع الهيمنة الغربية، واتساع رقعة تفلت الدول من تلك الهيمنة، خاصة أن الكثير من دول العالم باتت تبحث عن مصالحها وترفع الصوت في وجه الغرب الجماعي وهيمنته.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024