آراء وتحليلات
قناة بن غوريون المائية بين تدمير غزة وهدف الوصول للمتوسط
د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي
على الدوام هدفت "إسرائيل" من وراء حروبها الدموية، الى التوسع والسيطرة تحقيقًا لنبوءتها التوراتية أولًا، وثانيًا للسطو على ثروات ومقدرات الدول والأراضي التي اغتصبتها مثل فلسطين والجولان، ومزارع شبعا، من مياه ونفط وسهول زراعية، أو لتنفيذ مشاريع اقتصادية عملاقة ترفع من مكانة الكيان الجيوستراتيجية، كقناة بن غوريون المائية. أخرجت حرب الابادة والتدمير الجارية في غزة، هذه المخطط الصهيوني القديم الى العلن من جديد، حيث بدأ يتداوله العديد من الخبراء ومراكز الفكر الغربية ـــ بالرغم من تجنب "اسرائيل" الحديث عنه حاليًا ـــ خصوصًا وأن انجازه، يتطلب إبادة وتهجير سكان غزة وتدميرها كليًا، وجعلها منطقة غير صالحة للعيش تمامًا كما تحاول أن تفعل "تل أبيب" في القطاع.
ما علاقة غزة بإنشاء قناة بن غوريون؟
في تموز 1993، رفعت السرية عن وثيقة كانت وضعتها وزارة الطاقة الأمريكية ومختبر لورانس ليفرمور الوطني، تضمنت خطة لاستخدام 520 تفجيرًا نوويًا تحت الأرض، للمساعدة في عملية الحفر عبر التلال في صحراء النقب.
اللافت، أن ما تحدثت عنه الوثيقة كان عبارة عن مشروع قناة بن غوريون الذي اعتبر بمثابة الحلم للقادة الصهاينة، كونها ستربط (بحسب المخطط) خليج العقبة، بالبحر الأبيض المتوسط، عدا عن أنه سينافس بقوة قناة السويس.
تبدأ القناة المقترحة من الطرف الجنوبي عند خليج العقبة، مروراً بمدينة إيلات الساحلية على الحدد الفلسطينية المحتلة ــ الأردنية، وصولًا الى وادي العربة لمسافة حوالي 100 كيلومتر بين جبال النقب، والمرتفعات الأردنية، ثم تنحرف غرباً قبل حوض البحر الميت الذي ينخفض عن مستوى سطح البحر 1412 قدماً، لتتجه عبر وادي في سلسلة جبال النقب، ومنه تمر شمالاً مرة أخرى، لتلتف حول قطاع غزة، وتتصل بالبحر الأبيض المتوسط.
ما أهمية قناة بن غوريون بالنسبة لـ"اسرائيل"؟
في الحقيقة، ستشكل قناة بن غوريون الإسرائيلية، وتقدّر تكلفتها بين 16 و55 مليار دولار، (في حال تحققت) تحولًا كبيرًا في ديناميكيات التجارة البحرية العالمية. فهي ستكون أوسع بكثير من قناة السويس، حيث يهدف تصميمها إلى الدخول في عصر جديد من التغلب على المصاعب البحرية وتطويعها لخدمة الاقتصاد، وذلك عبر استيعاب حجم متزايد من السفن، لأن بناءها سيتم على تضاريس أصعب من الرمال في السويس.
إضافة الى ذلك، سوف تسهل القناة حركة المرور للسفن وعبورها في الاتجاهين في وقت واحد. لذا، لا يمكن النظر الى هذا المشروع على أنه مجرد تعزيز لوجستي، بل هو تأكيد عميق على نية "إسرائيل" في أن تصبح نقطة ارتكاز للتجارة البحرية العالمية.
الأكثر أهمية هنا، أنه من شأن هذه القناة الأقرب إلى الحدود المصرية، أن تعطي "اسرائيل" مزايا عسكرية لا مثيل لها، حيث ستكون بمثابة عائق دفاعي لها، فضلًا عن أنها ستمكن الكيان من تحصين دفاعاته هناك، وبالتالي توفير منطقة عازلة ضد التهديدات المحتملة الآتية عليه من الجنوب. وتبعًا لذلك، فإن مثل هذه الميزة الاستراتيجية في منطقة مضطربة، يمكن أن تعيد تشكيل ميزان القوى لصالح الكيان الغاصب.
علاوة على ذلك، يعتبر المخطط المدعوم أمريكيا، والمدفوع أيضًا بالحاجة إلى كبح صعود القوة الاقتصادية للصين، وإفشال مشروعها المستمر "طريق الحرير" الهادف إلى بناء خط قطار يبدأ من مقاطعات الصين في الغرب باتجاه غرب آسيا وتأمين الطرق المائية حول العالم.
لذا تحاول الولايات المتحدة عرقلة طريق التجارة الصيني من خلال إنشاء طريق بديل للتنافس معه، مع الأخذ بعين الاعتبار، ان المرحلة الجديدة من الصراع ستشهد حرباً اقتصادية تتمحور حول السيطرة على الموانئ البحرية وطرق التجارة العالمية.
ماذا عن التحديات التي تواجه القناة؟
في الواقع يواجه مشروع القناة عددًا من التحديات والصعوبات التي تعيق ولادته حتى الآن ويمكن تلخيصها بالآتي:
أولًا: معارضة الدول العربية وعلى رأسها مصر التي تقدر إيراداتها من قناة السويس بحوالي 9 مليارات دولار. وبمجرد تفعيل بن غوريون، ستنخفض إلى 4 مليارات دولار.
ثانيًا: يرجح الخبراء أن يستغرق بناء قناة بن غوريون عدة سنوات، بمشاركة حوالي 300 ألف مهندس وفني سيتم تجنيدهم من جميع أنحاء العالم.
ثالثًا: مرور القناة، عبر مجموعة متنوعة من التضاريس كالصحراء والجبل وحوض البحر الميت الذي يقع تحت مستوى سطح البحر.
رابعًا: من المرجح أن تحظى التفجيرات النووية تحت الأرض والتي ستقوم بها "اسرائيل"، بالمعارضة نظرا للأخطار التي ستجلبها على الدول المحاذية لها.
خامسًا: قد تقرر مصر توسيع قناة السويس بثلث التكلفة التي تقترحها "إسرائيل".
سادسًا والأهم: وجود غزة التي تعد حلقة وصل أساسية للوصول الى البحر الأبيض المتوسط، كعقبة رئيسية أمام نجاح المشروع. وبالتالي فإن الكلمة الأخيرة ستكون للمقاومة الفلسطينية والتي سيقضي صمودها ومن بعدها انتصارها (كما هو متوقع) على تطلعات "تل ابيب"، وينسفها من أساسها، ويجعلها مجرد أحلام يقظة يغذي بها قادتها النازيون مخيلتهم المتعطشة للدماء دائمًا.
وماذا عن المخططات الإسرائيلية الموازية كميناء حيفا؟
من المعروف، أن التجارة بين الهند وأوروبا، اعتمدت بشكل كبير على قناة السويس. لكن بعد الاستحواذ على ميناء حيفا، ثاني أكبر ميناء في "إسرائيل"، من قبل كونسورتيوم بقيادة "مجموعة أداني" الهندية، سيتم تحويله إلى منشأة عالمية المستوى يمكن أن تكون طريقا بديلًا، إلى جانب تحدي بصمة الصين المتنامية في المنطقة. وتعقيبًا على ذلك، يقول رون مالكا، مبعوث "إسرائيل" السابق إلى الهند، والرئيس التنفيذي لشركة ميناء حيفا، إن "الهدف هو تطوير ميناء حيفا كبوابة حقيقية تربط الشرق بالغرب".
لماذا تُعدّ مصر المتضرر الأول من قناة بن غوريون؟
في الحقيقة، إن الهدف الرئيس من بناء قناة بن غوريون (وفق رؤية المخططون الصهاينة والامريكيين) هو أنها ستمنح "إسرائيل" على وجه الخصوص، فضلًا عن الدول الصديقة الأخرى، فرصة للتحرر مما يعتبرونه الابتزاز الناتج عن الوصول إلى قناة السويس.
وبما أن الدول العربية قد تستخدم البحر الأحمر، كورقة للضغط على "إسرائيل"، قررت "تل ابيب" الردّ على ذلك، ومحاولة التوسع والمزيد من السيطرة على البحر الأحمر.
زد على ذلك، أن إحدى أهم الفوائد العسكرية الرئيسية لـ"إسرائيل"، من القناة، هي أنها ستوفر لها المزيد من الخيارات الإستراتيجية، حيث أن قناة بن غوريون ستزيل تمامًا أهمية السويس بالنسبة للجيش الأمريكي إذا لزم الأمر عند مبادرته لمساعدة "إسرائيل" كما يحصل الان في حرب غزة.
علاوة ذلك، ثمة هدفا اسرائيليا آخر، يتمثل بحشر مصر أكثر في الزاوية من خلال شطب قناة السويس عن القائمة كواحدة من اهم ممرات التجارة والطاقة العالمية، وهذا سيحوّل قناة بن غوريون إلى مركز عالمي للوجستيات التجارة والطاقة، لا سيما انها، ستحظى بدعم قوي من الغرب.
في المحصلة، منذ نشأته وضع الكيان الغاصب العديد من المشاريع والمخططات السياسية والاقتصادية والتوسعية، نجح في بعضها وفشل بأخرى مثل سرقة مياه الليطاني غداة اجتياح 1982، ولاحقا محاولة وضع يده على ثرواته الغازية في السنوات الاخيرة، وكل ذلك كان بفضل قوة المقاومة في لبنان وصلابتها وثباتها، وهذا ما سيتحقق أيضا بغزة.
لكن المريب في الأمر، وما لا يمكن فهمه، هو الصمت بل الحياد المصري (حتى لا نقول اكثر) تجاه ما يجري من حرب إبادة بغزة، بالرغم من علم قادتها، أنه اذا نجح مخطط "اسرائيل" ستكون القاهرة الخاسر والمتضرر الأكبر استنادا للدليل الاتي:
ففي تقرير بمناسبة استرداد مصر لأرض العريش المصرية، كأكبر مدينة في سيناء، في 25 مايو 1979، كان نص خطاب السفارة البريطانية في تل أبيب دقيقًا، وجاء فيه أن "أهمية سيناء بالنسبة لإسرائيل كانت ولا تزال استراتيجية".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024