موقع طوفان الأقصى الجبهة اللبنانية

خاص العهد

"الويمبي".. الشهيد علوان يهدي الرصاصات الأولى لحبيبته بيروت
26/09/2023

"الويمبي".. الشهيد علوان يهدي الرصاصات الأولى لحبيبته بيروت

يوسف الشيخ

تبدأ قصة بطلنا الشهيد خالد علوان يوم السادس من حزيران 1982 عندما قررت السلطات اللبنانية اعتقاله بتهمة تنفيذ عملية ضد إحدى البعثات الأجنبية في بيروت في 5-6-1982. وفيما كان خالد يخضع للاعتقال ويتململ في زنزانته متحرقاً للإشتباك مع العدو الحقيقي والفعلي للسجين والسجان، كانت وقائع بدايات الاجتياح تصله عبر جهاز ترانزستور يملكه أحد رفاق السجن. واستمر على هذا الحال حتى 14 حزيران حيث حصلت عملية فرار شاملة من السجن واستطاع خالد الالتحاق بصفوف المدافعين عن شرف بيروت الذي أراد المتواطئون تلويثه.
 
ومنذ ذلك اليوم، خرج الشهيد خالد إلى حيث قدّر له بعد أسابيع أن يكون صاحب شرف تسديد الطلقات الأولى إلى صدور جنود وضباط العدو في قلب بيروت، إلا أن تحرر الشهيد خالد من قيده سبقته وقائع وأحداث جسام، بين يوم اعتقاله في 6 حزيران 1982 ويوم تحرره في 14 حزيران 1982، فما هي تلك الوقائع التي كان يتلقاها خالد شفاهاً أو عبر الترانزيستور في سجنه؟

من الناقورة إلى تخوم بيروت

عند الساعة الخامسة من بعد ظهر يوم الأحد 6-6-1982 أعلنت حكومة العدو إسم عمليتها الهجومية على لبنان وأسمتها "عملية السلامة للجليل" وزعمت أنها ستحتل مساحة من لبنان بعمق 45 كيلومتراً لدرء خطر صواريخ الغراد والكاتيوشا عن المستوطنات الشمالية. كانت قوافل الدبابات والمدرعات الصهيونية بدأت بالتحرك على 4 محاور قبل 6 ساعات على اعلان اسم العملية وتبني الحكومة الصهيونية لها.

إنه الاجتياح الذي لن يتوقف هذه المرة على تخوم مدينة صور كما حصل عام 1978 بل سيندفع شمالاً إلى أبعد من 80 كيلومتراً باتجاه بيروت الهدف الرئيسي للعملية برمزيتها كعاصمة للمقاومة وأهميتها كعاصمة لدولة مؤسسة للجامعة العربية. لاقت القوة الغاشمة المندفعة التي بلغ عددها 150 الف جندياً مقاومة شرسة على طول الطريق الممتد من صور حتى صيدا فالدامور وخلدة، فكانت الكتل الحديدية المندفعة باتجاه بيروت تعمد إلى استراتيجية العزل والتطويق حيثما وجدت مقاومة وكانت الفرق المدرعة الأربعة تشق طريقها بسرعة عبر المحاور المحددة:
 
1- الخط الساحلي باتجاه بيروت بقيادة الجنرال يكتوئيل آدم الذي قتل بعملية مقاومة في الدامور.
2- الخط الداخلي من النبطية باتجاه اقليمي التفاح والشوف إلى بيروت (الغربية والشرقية حيث حقق القسم الأول التماس مع الضاحية الجنوبية واندفع القسم الثاني باتجاه المتن الجنوبي ليتخذ طريق الشويفات – الحدث - بعبدا –فرن الشباك – المتحف ليحقق التماس مع بيروت الغربي من تخوم منطقة سباق الخيل وصولاً إلى المرفأ).
3- الخط الشرقي الذي قاده الجنرال يوسي بيليد واجتاز به أطراف سلسلة لبنان الغربية وهو امتداد (نيحا – الباروك – طريق الشام) فضلاً عن منطقة البقاع الغربي والأوسط سالكاً خطي السهل من حاصبيا وصولاً إلى حدود جب جنين وخط السفح الغربي الممتد من أطراف شبعا والهبارية باتجاه عميق وينطا. وسعى هذا المحور لتحقيق التماس مع القوى السورية على امتداد طريق الشام من بحمدون وضهر البيدر حتى أطراف شتورة ولم يتحقق له كامل التماس وعانى من قتال ضار في أعالي الشوف في عين زحلتا وعلى أطراف خط بيروت دمشق في بحمدون والمديرج وصوفر وفي منطقة السلطان يعقوب حيث تم سحقه وإجباره على التوقف لفترة طويلة بعدما عانى في نقاط الاشتباك الأربع من خسائر كبيرة بالأرواح والعتاد.

عند الساعة الخامسة من بعد ظهر الأربعاء 9-6-1982 حققت القوات الصهيونية المندفعة أول تماس لها على حدود الناعمة خلدة وخاضت معركة شرسة مع مجموعات من حزب الله وحركة أمل والقوى المشتركة اللبنانية الفلسطينية واللواء 85 من القوات السورية. ورغم المحاولات العديدة من البر والبحر للاقتراب من البقعة الصغيرة التي يتكون منها مثلث خلدة والتي كانت تعتبر آخر مانع أمام وصول القوات الغازية إلى مطار بيروت الدولي إلا أنها لم تنجح في اختراق ذاك المانع بسبب المقاومة الشرسة التي خبرتها إلا عصر يوم الأحد 13-6-1982 عندما استطاعت القوة المتقدمة في أعالي الشوف باتجاه ساحل المتن الجنوبي وبالتحديد عرمون الشويفات وتمكنت من الاشراف بالنار على القوى المدافعة عن مثلث خلدة حيث تباطأت هذه القوة ليومين عن استكمال هدفها وهو الانتشار في الحدث وبعبدا وتحقيق التماس عند الخط الفاصل بين الضاحية الجنوبية والضاحية الشرقية. ويمكن القول أن معركة بيروت أو بالتعبير الأدق حصارها بدأ في تلك اللحظة أي منذ سقوط مثلث خلدة وانكفاء القوى المدافعة عنها إلى الاوزاعي وأطراف المطار وحي السلم.

نتيجة للمقاومة التي لاقاها العدو على أطراف بيروت وعدم تحقيقه الهدف في البقاع الأوسط والشرقي وقسم كبير من المتن الأعلى نفذت الوحدات الغازية وقفة تعبوية أعادت فيها توزيع المهام وتم فصل معركة البقاع عن معركة بيروت التي تقرر أن يتم إخضاعها لحصار مطبق.

الشهيد خالد يعانق الزناد بعد تحرره من الاعتقال

في اليوم التالي لسقوط خلدة تحرر الشهيد خالد من سجنه وتولى قيادة فصيل من 15 عنصراً لتنظيم الدفاع عن منطقة (الايدن روك – اليونيسكو- وطى المصيطبة) تلقت أطراف تلك المنطقة أي حي الايدن روك القريب من البحر وأطراف وطى المصيطبة المتاخمة لمنطقة الفاكهاني بين 16-6-1982 و 14-7-1982 أعنف وأكثف الغارات واستهدفت بشكل مكثف بمدفعية الميدان التابعة للعدو الذي كان يسميها بمربع النار وهي المنطقة الممتدة من المدينة الرياضية جنوباً إلى كورنيش المزرعة شمالاً امتداداً إلى أطراف الرملة البيضاء غرباً والجامعة العربية الفاكهاني شرقاً. حيث تعرضت المنطقة لمئات الغارات وعشرات آلاف القذائف خلال فترة الاجتياح وحصار بيروت ومهمة الشهيد خالد ورفاقه كانت التعامل مع أي قوة صهيونية تنجح في الابرار البحري غرب منطقة مسؤوليته وكان معظم انتشار هذا الفصيل على شكل كمائن موضعية ممكن أن تنقلب إلى كمائن مستعجلة في حال تمكن العدو من الاختراق والنفاذ إلى منطقة مسؤولية الشهيد خالد وفصيله.

لم يطل المقام بالشهيد خالد وفصيله (الذي ازداد عدد المتطوعين فيه ليصل إلى 27 مقاتلاً) في مربع اليونيسكو أكثر من أسبوعين حيث قررت القيادة العسكرية للحزب القومي الاستفادة منه في القتال. وذلك بعدما توقف العدو عن محاولات الانزال على الشاطئ الممتد من مقام الاوزاعي إلى الحمام العسكري وتحوله إلى محاولات الاختراق البري من جهة الاوزاعي والمتحف ومنطقة سباق الخيل.

مهمات في منطقة سباق الخيل

تم تكليف الشهيد خالد وفصيله المعزز بالدفاع عن منطقة سباق الخيل البربير قصقص والتي يعرفها الشهيد جيداً حيث أنه ولد وترعرع في تلك المنطقة ويعرف جغرافيتها ومسالكها ودروبها وزواريبها والمناطق التي يمكن المناورة فيها مع العدو بالحركة وبالنار.

فكان اختيار نقل الشهيد خالد إلى تلك المنطقة اختياراً ذكياً من الناحية العسكرية التكتيكية وبرهن خالد ورفاقه الذين قدموا شهداء وجرحى منهم الشهيد خالد شخصياً أنهم على قدر المسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقهم. فقد تحولت تلك المنطقة التي تكررت محاولات العدو الاختراق إلى بيروت منها إلى منطقة تماس واشتباك على مدار الساعة خبر فيها العدو الخوف والرعب الآتي من الغرب أي من جهة الشهيد خالد ورفاقه في فتح والمرابطون وحزب البعث (السوري) وجيش التحرير الفلسطيني. وتولى قيادة ذلك المحور عن القوات المشتركة العقيد الراحل أبو موسى القائد والمخطط العسكري الفذ في (فتح) حيث قاد بقواته معركتي المتحف وسباق الخيل وأذاق العدو الويل بقواته التي كان بينها مجموعة الشهيد خالد مع مجموعات أخرى من القوات المشتركة قاتلت على ميسرتها والتي وقع عليها عبء المعركة الأشرس خلال هجوم سباق الخيل. ويشهد من عاصروا هذه المعركة أن الاسفلت الذي كان يغطي الطرقات في منطقة المسؤولية بقي يحترق خلال المعركة لساعات وفي هذه المعركة التي استمرت 36 ساعة شارك الشهيد خالد مع اخوانه في ضرب الدبابات والمدرعات المتقدمة التي بلغ عدد ما ضرب منها بالألغام وقذائف ضد الدروع في ميدان سباق الخيل 17 دبابة ومدرعة وقتل وأحرق وجرح من القوات الصهيونية المهاجمة أكثر من مئة ضابط وجندي واعتمد خلال المعركة أسلوبًا مبتكرًا في الدفاع حيث بدأت المرحلة الافتتاحية بتفجير الألغام واستخدام القذائف المضادة للدروع والاشتباك مع من تبقى من جنود كانوا يفقدون احساسهم بالمكان على وقع الصدمة التي تسببت بها المرحلة الافتتاحية.

وتلت المرحلة الافتتاحية انسحاب سريع للقوات الصهيونية التي كانت تحاول التقدم فتقوم الطائرات والمدفعية الثقيلة الصهيونية بتنفيذ ضربات مكثفة للمواقع التي كان الصهاينة يقدرون أن أعداءهم ينتشرون بها. وكانت بعض تلك الضربات يتراوح زمنها بين 15 و45 دقيقة. ثم تعاود القوات الصهيونية محاولتها للاختراق عند ذلك كانت الأوامر باسم قائد المحور العقيد أبو موسى بأن تحول كل الطاقة النارية في بيروت من مدافع ثقيلة وميدان وصواريخ 107 (كاتيوشا) إلى بؤرة التقدم حيث كانت القوى المتقدمة تتعرض بسبب هذه الضربات المهلكة إلى ضياع وفوضى فتعيد انسحابها لتعيد تشكيل قواها. وفي هذا المجال كان بتصرف الشهيد خالد مدفعين متوسطين (82 ملم و 120 ملم) كانت هذه المدافع تشارك مع مئات مثلها أو أكبر عيار منها بالقصف الاستراتيجي كما كان بحوزة مجموعة الشهيد خالد مدفعين من عيار خفيف (60 ملم و49 ملم كوماندوس) استعملت عدة مرات لضرب مشاة العدو خلال محاولات تقدمها.

بيروت تحت الحصار الصهيوني - القواتي

كانت بيروت في ذلك الوقت تنوء تحت الحصار المطبق بأوامر مشدد من الكيرياه في "تل أبيب" وبمشاركة الحواجز العسكرية الصهيونية التي نصب منها العشرات على مداخل بيروت الغربية ولم يكن لينجح هذا الحصار ولو جزئياً لولا مشاركة عناصر "القوات اللبنانية" فيه.

بأوامر مباشرة من بشير الجميل نصب القواتيون حواجز تفتيش على معابر بيروت الغربية. على هذه الحواجز القواتية المستقلة والتي كانت لا تبعد أمتاراً قليلة عن معظم الحواجز الاسرائيلية قاموا بمصادرة ومنع دخول واحراق أي شيء يؤكل أو يشرب إلى بيروت الغربية، وكانوا حسب تعليق أحد كبار الصحفيين الأجانب (الراحل روبرت فيسك) ملكيين أكثر من الصهاينة وشكى فيسك أنهم حاولوا مصادرة مواد غذائية كان قد اشتراها لحاجته الشخصية وعندما احتج عليهم وعلا صراخ الطرفين تدخل ضابط اسرائيلي وأمر قائد الحاجز القواتي بالسماح لفيسك بأخذ أغراضه. ومن المهمات القذرة التي تولاها القواتيون خلال حصار بيروت كانت مهمة قطع الماء والكهرباء عن بيروت الغربية والضاحية الجنوبية.

ابن بيروت ومرارة الشتات الفلسطيني الجديد

كان على الشهيد خالد علوان والآلاف من المقاومين أن يعانوا قبل ذلك مرارة استسلام بيروت البطيء. ففي بدايات آب 1982 بدأت المفاوضات الدولية مع منظمة التحرير الفلسطينية تتقدم وتتخذ صفة القبول ببعض الشروط التي فرضها الطرفين الصهيوني والفلسطيني ومن هذه الشروط إنهاء معظم الوجود العسكري الفلسطيني في بيروت والانسحاب منها إلى خارج لبنان.

"الويمبي".. الشهيد علوان يهدي الرصاصات الأولى لحبيبته بيروت

كان على المقاومة اللبنانية التي لم تكن قد تشكلت بعد أن تشغل الفراغ الكبير الناجم عن خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وأن تتولى بقواها الذاتية المتواضعة وتسليحها المحدود معركة تحرير لبنان من العدو.

انسحبت منظمة التحرير الفلسطينية عبر البر والبحر إلى الشتات بدا للشهيد خالد وكأن العام 1948 يعيد نفسه في بيروت ولشد ما آلمه ذلك كان يعبر عنه بشفافية الثوري بالغضب والدموع، رغم أنه كان على يقين أن بيروته التي يعرفها ستكون بداية طريق العودة إلى فلسطين، تردد أكثر من مرة إلى جبانة الشهداء الكائنة قرب منزله في قصقص والتي انتقم منها العدو شر انتقام خلال مواجهات سباق الخيل والمتحف قاصداً المشعل الذي أضاء بنفسه خلال طفولته عشق فلسطين.

كان ابن الـ 21 عاماً يزور قبر الشهيد خليل عزالدين الجمل ابن الـ 17 عاماً بطل معركة تل الأربعين على الحدود الاردنية الفلسطينية والذي حمل وسام أول شهيد لبناني في المقاومة الفلسطينية. من قبر ذاك الشاب البيروتي الذي هب لمسح آثار نكسة الـ 1967 والذي أصبح أسطورة وقدوة للشباب المقاوم حمل الشهيد خالد علوان شعلته التي ستضعه بعد أيام في سجل المجد موقعاً بمسدسه أنه صاحب الطلقات الأولى في مقاومة طويلة وشرسة وجادة لمدة 18 عاماً.

المقاوم حبيب الشرتوني ينسف أهم أهداف اجتياح لبنان

عاش الشهيد خالد علوان حصار بيروت واستسلامها البطيء متمنياً القصاص من الصهاينة أولاً ومن خدامهم القواتيين ثانياً رغم أنه لا فرق في وعي الشهيد خالد بين العميل وسيده الصهيوني الأصيل. وهذا ما جعله يصفق ويطرب بعد أيام لعملية رفيقه حبيب الشرتوني التفجيرية ضد بشير الجميل والتي شفى فيها حبيب صدور المقاومين وثكالى وأطفال بيروت ولبنان.

"الويمبي".. الشهيد علوان يهدي الرصاصات الأولى لحبيبته بيروت

الصهاينة يربطون الحبل على رقبتهم ويستبيحون بيروت

استغل المجرم آرييل شارون إعدام بشير الجميل ليحقق هدفين في آن واحد:

الأول: حث القواتيين على الثأر لزعيمهم من الفلسطينيين الباقين في بيروت وهو ما استجابت له أداة التوحش القواتية بسرعة رغم اعتقال حبيب الشرتوني واعترافه بفخر بتصفية الجميل وظهور حقيقة أن لا علاقة للمدنيين والعزل الفلسطينيين الذين أبقتهم منظمة التحرير في بيروت بعد تعهد دولي بعدم السماح بالمس بهم. وكان شارون يقصد من تحريض القواتيين على التخلص من هذا الشرط الذي وضعته الدول الكبرى على عاتقها بعدم المساس بالفلسطينيين.

الثاني: تحقيق حلمه باحتلال بيروت ثاني عاصمة عربية بعد القدس والتي كانت تعرف بعاصمة المقاومة.
كان تحقيق هذين الحلمين أغبى ما ارتكبته آلة الاجرام الصهيونية في تاريخها ففي ثلاثة أيام بين (16-17-18 أيلول 1982) وتحت أنوار جيش العدو الكاشفة وقنابله المضيئة التي أحالت الليل نهاراً والتي استعملها العدو لأول مرة حيث كانت تلك القذائف تضيء لمدة 15 دقيقة فكانت عشرات القنابل التي رميت لتجعل آلة القتل القواتية عاملة على مدى 24/24 ساعة. كانت المجزرة مروعة وتبين أنها لم تطل الفلسطينيين فقط الذين فاق عدد قتلاهم الـ 4000 بل طالت أيضاً 800 لبنانياً معظمهم من آل المقداد الكرام وعوائل بيروتية أخرى.

وفور انكشاف المجزرة بدأ الأطراف المتورطون بها (القوات – حراس الارز – جماعة سعد حداد – جيش العدو) يتدافعون التهمة وكل كان يرمي باللائمة على الآخرين.

بيروت تقول كلمتها بفوهات البنادق

تقرر سريعاً تنفيذ قتال تعطيلي ضد القوات الصهيونية الغازية والانتقال إلى مرحلة المقاومة والى نموذجي حرب العصابات في المدن والأرياف. كان هذا الحل الذكي بالاعتماد على الحرب اللامتماثلة الدواء الأمثل للسرطان الصهيوني الذي كان يتمدد في الجنوب وأجزاء من البقاع والعاصمة بيروت.

تعلم الصهاينة الدرس باكراً أن بيروت الوادعة عاصمة الثقافة والأناقة وحب الحياة هي في الحقيقة منبع الرجال ومسقط رأس الشهيد خليل عز الدين الجمل أول شهيد لبناني في المقاومة الفلسطينية هي بيروت الطريق الجديدة وقصقص حيث دب الشهيد خالد علوان أولى خطواته وهو طفل، بيروت هي مسجد جمال عبد الناصر وصوت الاستاذ رفيق نصر الله وهو يصدح من إذاعة صوت لبنان العربي آخر عبارات التحدي والصمود قبل دخول الصهاينة إليها وقطع بثها مصحوبة بصدى انشودة خلي السلاح صاحي.
بيروت هي تجمع العلماء المسلمين الذين سيّروا أولى مظاهرات التحدي للاحتلال والذين تجمعوا مع الآلاف في عيد الأضحى في ملعب بيروت البلدي ليصغوا إلى الخطبة النارية التي جعلها المفتي الشيخ الشهيد حسن خالد نذيراً للعدو بأن عاصفة طرده قد هبت. وبيروت هي مسجد الصفا في العاملية التي شهدت الأنفاس العيسوية لمؤسس ثقافة وممارسة مقاومة الاحتلال منذ الستينات الامام السيد موسى الصدر (أعاده الله). بيروت كانت البيان الأول لـ"جمول" الذي أعاد توجيه البوصلة للذين أضاعهم خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت.

اشتعلت بيروت بالعمليات ضد العدو وانخرط الشيوعي والقومي والاسلامي وكل أطياف المجتمع اللبناني وعلى امتداد نصف مساحة لبنان ليلتحم مع عاصمته من رأس الناقورة إلى شبعا ومن المديرج إلى بيروت. تكبد العدو فيها بالأيام الأولى 13 قتيلاً 5 منهم في بيروت وأخذ العداد يتصاعد إلى اليوم الذي خرج فيه فتى بيروت الثائر خالد علوان  ورفيقيه بمسدساتهم ورفعوا عداد القتلى في يوم واحد إلى 4 قتلى من وحدة المظليين في لواء الناحال بينهم ضابط وقد كشف العدو عن ثلاثة جرحى في حالة الخطر وعن قتيل واحد في العملية فقط هو الرقيب شراغا كاتس 22 عاماً من سرية العمليات الخاصة في وحدة المظليين التابعة للواء الناحال والذي يظهر ملفه أنه شارك مع رفاق له بالوحدة الخاصة في الناحال عام 1980 بإحدى العمليات السرية مع وحدة الكوماندوس البحري الشييطيت 13 لم يكشف النقاب عنها.

عملية الويمبي: خالد علوان يطلق الرصاصات الأولى والأخيرة
 
 

"الويمبي".. الشهيد علوان يهدي الرصاصات الأولى لحبيبته بيروت
أحد قتلى عملية "الويمبي" يضحك قبل أيام من العملية في أحد مقرات الاحتلال في بيروت

عند الساعة 11:20 من ظهر يوم الجمعة 24-9-1982، حضر جيب ويليس تابع للواء الناحال الصهيوني إلى شارع الحمراء منطقة "الكافيهات" وهما مقهى المودكا وهو مقهى للمثقفين والفنانين اللبنانيين يتردد عليه تقريباً كل من يعمل في المجال الثقافي والفني ومقهى الويمبي الذي يتردد عليه أيضاً شعراء ومثقفون إلا أنه مكان تردد لأبناء المجتمع الثري في بيروت. وجد الصهاينة مقهى المودكا مملؤاً عن آخره ووجد عدة طاولات على رصيف مقهى الويمبي وفي ظل عدم استحسان صاحب وندلاء المقهى دخول الصهاينة، طلب الصهاينة الأربعة قهوة وقناني جعة. عندها بدأ بعض رواد المقهى يخلونه استياء من حالة الاسترخاء والعنجهية التي يمارسها الضيوف الثقال على طاولة الرصيف. نقل عنصر الاستطلاع المستعجل تقريره للشهيد خالد علوان ورفيقه في مركز تسلية قريب اعتمده المنفذون يدعى المونتي كارلو. أبلغ عنصر الاستطلاع المستعجل علوان ورفيقه بأن هناك ثلاث جنود وضابط يجلسون الآن على طاولة خارج مقهى الويمبي وشرح لهم طريقة جلوسه ووضعية "الجيب ويليس"  الذي بحوزتهم فأشار الشهيد خالد إلى عنصر الالتقاط إشارة يعرفونها بأن يخرج ويتجهز ثم اقترب منه وخرج معه ليستطلع مكان التنفيذ فوجد الوضع كما شرحه عنصر الاستطلاع. إلا أنه لاحظ بأن رشاش الماغ المتوسط المنصوب على الجيب بوضع الاقفال. فنزل سريعاً إلى صالة المونتي كارلو وهمس بأذن رفيقيه شيئاً جعلهما يبتسمان ابتسامة عريضة ثم يتعنقون جميعاً ثم حدد خالد الأدوار له ولأخويه وخرجوا إلى الموت الزؤام لأعدائهم.

كان خالد علوان في هذه اللحظة يرفع عند الساعة 11:30 من ظهيرة يوم الجمعة 24- 9-1982 اللون الداكن عن كل نهاراته بعد 15 أيلول عندما دخل العدو إلى بيروت متوقعاً أنه ذاهب إلى نزهة ترفيهية يستحقها بعد حرب استمرت حوالي 100 يوم. كان فتى بيروت يتقدم ورفاقه وهم يتحولون إلى كتل غضب. لحظات وشهروا مسدساتهم مطلقين إلى صدور المظليين الثلاثة رصاصاتها من النقطة صفر. كان التوقيع الأول والأخير في العملية لخالد، ففي معمعة التنفيذ خرج جندي صهيوني رابع كان في الحمام يحمل رشاشه "الغاليل" الذي كان يحمله معه حتى في الحمام ولم يستطع استخدامه من هول المفاجأة. إلا أن الشهيد خالد وقع على نحر ورأس وصدر عدوّه رصاصته الخالدة وخرجت كل بيروت تهلل لخالد علوان والمقاومة.

كانت عملية الويمبي التي نفذها الشهيد خالد علوان ورفيقيه بهذا الشكل المدوي والعلني وفي وضح النهار تسعى إلى تحقيق عدة أهداف في وقت واحد:

1- لن يرتاح الصهاينة في وكر الدبابير وسيدفعون ثمن احتلالهم لبيروت واسترخاءهم فيها ثمناً باهظاً.
2- يمكن تحطيم صورة الجيش الذي لا يقهر وإذلاله بسهولة وهذه العملية دليل على ذلك.
3- جعل شجاعة تنفيذ عملية فدائية بالعلن وفي وضح النهار في شارع رئيسي مزدحم في بيروت تحفيزاً للشباب البيروتي واللبناني للقيام وحمل السلاح ضد العدو.
4- تهديد العدو بأن التطبيع مع اللبنانيين عموماً والبيروتيين خصوصاً سيكلفهم غالياً بالأرواح.
5- التأكيد الصاخب على انطلاق عمليات المقاومة ضد الاحتلال وإمضاء عملي على ما ورد في البيان الأول لـ "جمول".

أما عن التكتيك الذي اعتمد في تطبيق العملية، فيظهر الاحترافية العالية للمنفذين وذلك للأسباب التالية:

1- الاستطلاع العملياتي الدقيق الذي حدد قبل يومين مكان تردد الهدف المراد من خلال تنفيذ العملية ضده توجيه الرسالة المعنوية للناس.
2- نقطة المكمن كانت ستاراً جيداً لثلاثة مقاومين يحملون مسدسات في منطقة مزدحمة كشارع الحمراء، والتي يوجد فيها مجموعة أسباب لإعاقة وافشال العملية أهمها احتمال وجود عملاء أو متعاونين مع العدو في مكان تنفيذ العملية.
3- بعدما تم تأكيد محيط تردد الهدف تم تشغيل عناصر استطلاع مستعجلة للتثبّت من وجود الهدف لحظة التنفيذ.  
4- في هكذا عمليات يصبح الاعتماد على الاستطلاع المستعجل والدقيق من عنصر خبير حيوياً، لأنه يؤكد للمنفذ المعلومة القتالية الفورية ولا يربكه عند التنفيذ.
5- تكتيك الاقتراب من الهدف كان ذكياً حيث اعتمد على عنصرين منفذين وعنصر تأمين وعنصر اخلاء يقف بسيارته في مكان قريب.
6- تكتيك التنفيذ كان بالوصول إلى النقطة صفر من الهدف وشله أو قتله فوراً برصاصات قاتلة.
7- نجاح عنصر التأمين بالسيطرة سريعاً على الوضع بعدما تعطل مسدس المنفذ عند الطلقة الخامسة وتمكن عنصر التأمين من تحييد عنصر إضافي دخل على المشهد من الحمام أو من الخارج وقتله بسرعة دون السماح له بأخذ أي مبادرة.
8- استخدام المسدسات في هذه العملية يهدف إلى تركيز بؤرة اطلاق النار وعدم التشتيت الذي كان سيتسبب بإصابة مدنيين فيما لو استعمل المنفذ رشاشاً، كما أن طلقات المسدس تتسبب بقتل المستهدف فوراً نتيجة لعيار طلقة المسدس (9 ملم).
9- تكتيك الانسحاب كان مرتجلاً ولكنه احترافي حيث انسحب الذي تعطل مسدسه أولاً باتجاه عنصر الاخلاء وتراجع إلى خارج منطقة العملية. ثم انسحب عنصر التنفيذ الثاني من داخل مقهى الويمبي وأصبح خارج المكان المغلق مما أمّن رفيقه عنصر التأمين الذي تدخل بعد تعطل مسدس المنفذ الأول، فأصبح عنصر التأمين هو العنصر الرئيسي في العملية. انسحاب المنفذ الثاني من داخل الويمبي جاء لتأمين العنصر المتبقي في العملية، فسمح بانسحابه ورفيقه إلى مجال آمن خارج بقعة تهديد العملية.

في عز النهار نزع الشهيد خالد علوان العتمة عن وجه بيروت وأعاد هيبتها عاصمة للمقاومة عندما صرخ برصاصاته معيداً توجيه البوصلة إلى الأرض السليبة، جميلة الجميلات، فلسطين من البحر إلى النهر، ولسان حاله وترحاله حتى استشهاده غيلة في 5 أيلول/ سبتمبر 1984 على يد عملاء العدو وهو يردد النشيد المشهور:
بالحراب ذللي كل الصعاب
لا تهابي
أنا أعطيك شبابي
لعلاك يابلادي.

إقرأ المزيد في: خاص العهد