آراء وتحليلات
راجح الروسي
د. علي أكرم زعيتر
ثمانية انقلابات شهدتها أفريقيا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لفرنسا النصيب الأكبر من تداعياتها السلبية، ولروسيا والصين حصة الأسد منها.
ماذا يجري في أفريقيا؟ السؤال الأكثر شيوعاً في أروقة السياسة الدولية. هل هي التفافة روسية صينية من البوابة الخلفية لأوروبا؟ هل سئمت الشعوب الأفريقية إرثَ فرنسا المر فقررت الإطاحة بكل مواريث الاستعمار؟
أميركا نددت بانقلاب النيجر، وقبله بتمرد حميدتي في السودان، وبعدهما بانقلاب الغابون، وكذلك فعل الاتحاد الأوروبي.
الجميع متفق على أن الروس هم المستفيد الأكبر من تلك الانقلابات، والدليل أنه ما إن تحط رحال انقلاب ما في بلد ما حتى تلملم فرنسا أشياءها وترحل.
وقع انقلاب النيجر قبل شهر ونيف من اليوم فسارعت ”إيكواس“ المنظمة الأفريقية المعروفة بولائها للغرب إلى إدانة الانقلاب، وهددت بتدخل عسكري حاسم ما لم يُعِدْ قادة الانقلاب العسكري الحكمَ للرئيس المخلوع ”بازوم“، الأمر الذي أثار استياء كل من مالي وبوركينا فاسو اللتين هددتا بالدخول في حرب مع إيكواس في حال نفذت تهديدها في النيجر.
مالي وبوركينا فاسو هما الأخريان شهدتا انقلاباً قبل مدة، حيث نجح بعض الجنرالات في كلتا الدولتين بالانقلاب على رئيسَي البلدين، في وقت متفاوت. حينها تحدثت الأوساط الغربية عن يد روسية خفية تحرك الأحداث في ذَيْنِكَ البلدين. لسنا معنيين كثيراً بما تتناقله الأوساط الغربية فـ ”راجح“ الروسي حاضر بقوة في أوهام الغربيين. يحسبون كل صيحة في العالم عليهم، وغالباً ما يتم اتهام روسيا بأي صيحة تخرج من أو هناك.
الروس ليسوا وليدي اليوم في عالم السياسة، لا سيما في ما يتعلق بتدبير الانقلابات العسكرية. تاريخهم يشهد على أنهم أبرع من يجيد اللعب في هذا المضمار، وما تجارب الاتحاد السوفياتي في أفريقيا وآسيا وحتى أوروبا الشرقية عنا ببعيدة. لطالما عبث الروس السوفيات في الحدائق الخلفية للغرب، فما الذي يمنع الروس الاتحاديين من العبث مجدداً في تلك الحدائق؟
لا ينقص بوتين شيء على هذا الصعيد، فهو ربيب الاتحاد السوفياتي من جهة، وقد ورث عنه نقمته على سياسات الغرب الاستعمارية، ومن جهة أخرى فإن أميركا وأوروبا لم تتركاه بحاله، فهما تعملان منذ سنوات طويلة على التوسع في حدائقه الخلفية، ليس آخرها محاولة تطويقه من الخاصرة الأوكرانية.
الحرب الأوكرانية الروسية، والدعم العسكري الذي تتلقاه أوكرانيا من الغرب جعل الروس يتفلَّتون من كل عقال. باتوا يبررون لأنفسهم الضرب في كل مكان. ما عاد يعنيهم الكثير من الخطوط الحمراء ولا قواعد الاشتباك المثبتة مع الغرب سابقاً. الأمر يبدو كأن أحداً ما أطلق المارد الروسي من القمقم فبدأ يضرب يمنةً ويساراً دون تمييز. على أي حال، هذا ما ينبغي أن يفعله الروس، فالساسة الغربيون لا يرتدعون إلا إذا شعروا بأن مصالحهم مهددة.
انقلاب الغابون ليس واضح المعالم، فهناك من يتحدث عن أنه انقلاب فرنسي استباقي، لا سيما وأن الانقلابيين الجدد لم ينبسوا ببنت شفة حيال فرنسا. الغابون بلد ثري بالمعادن والنفط، وعدد سكانه منخفض نسبياً، بحدود المليونين ونصف المليون نسمة، ما يجعل متوسط الدخل السنوي للفرد مرتفعاً مقارنةً ببقية الأقطار الأفريقية.
لفرنسا حصة الأسد من كل ثروات البلاد الخام، فشركات التعدين هناك كلها فرنسية تقريباً، كذلك الحال بالنسبة للشركات النفطية، ما يعني أن المتضرر الأكبر من أي انقلاب لا بد من أن يكون فرنسا. ولكن حتى الساعة ليس هذا ما يبدو، فقد تكون هي صاحبة المبادرة، كما سلف وذكرنا.
مالي، النيجر، بوركينا فاسو، الغابون، غينيا، تشاد، السودان، سبع دول وقعت فيها ٩ انقلابات. هناك دولتان وقع فيهما انقلابان متتاليان، أي انقلاب على الانقلاب.
أربعة من هذه الانقلابات، كانت بمثابة صفعة سددت إلى وجه أوروبا وأميركا، هي: انقلاب مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، والسودان.
هناك من يرفض إطلاق وصف ”انقلاب“ على ما جرى في السودان مشدداً على وصفه بالتمرد. لا بأس بذلك. حقاً، قد لا يرقى تمرد حميدتي في السودان إلى مستوى انقلاب، ولكنه يندرج بنحو أو بآخر ضمن المتغيرات السياسية والعسكرية التي تنبئ بقرب أفول نجم أوروبا وأميركا من أفريقيا، مقابل تمدد روسي واضح.
حميدتي شخصياً، كانت تجمعه علاقات قوية بزعيم جماعة فاغنر الذي قُتل مؤخراً ”بريغوجين“، ما يعني أن تمرده على البرهان قد يخدم توجهات روسيا في المنطقة.
مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر الفارق الزمني بين الانقلابات الثلاثة قصير جداً بمقاييس عالم السياسة. والنقمة الشعبية هناك، لا تقتصر على الجانب الاقتصادي والسياسي، بل تتعدى ذلك إلى حدود الثقافة. مواطنو البلدان الثلاثة ناقمون على كل شيء يتعلق بفرنسا، ليس على القواعد العسكرية الفرنسية المتمركزة هناك فحسب، بل حتى على اللغة الفرنسية. المواطنون هناك سئموا من كونهم أفارقة ناطقين بالفرنسية. باتوا يحلمون بإعادة تشكيل هوياتهم الوطنية المستقلة والنابعة من عمق الموروث المحلي. ما شأنهم وثقافة الرجل الأبيض الذي جاءهم من خلف المحيطات مستعمراً ومحتلاً؟!
خيرات أفريقيا لأفريقيا، وعطور باريس للباريسيين. لا يريدون استبدال الماركات الفرنسية الفارهة التي تفقد قيمتها عند أول منعطف سياسي، أو خضة اقتصادية بالذهب والماس.
Bonjour، وBien، وMerci، وďaccord لم تعد تجدي نفعاً في الوقت الحاضر. فيما مضى كان بعض المصابين بعقد النقص ينظرون إلى من يتلفظ بهذه المفردات على أنه إنسان متحضر ومتمدن. اليوم لم تعد هذه المفردات تحمل الجاذبية والبريق ذاته.
يبدو أن مواطني هذه البلدان قد استفاقوا لهوياتهم القومية والوطنية أخيراً.
لم تعِ فرنسا كل هذه المتغيرات، ما يفسر سبب إصرار سفرائها على مقاربة الشؤون الداخلية لتلك البلدان، كما لو أنهم مندوبون ساميون. إليكم هذا المثال.
تعصف ببوركينا فاسو أزمة داخلية عنيفة منذ مدة، فخُيّل للسفير الفرنسي هناك ”لوك هاليد“ أن بمقدوره أن يتصرف كما كان يتصرف أسلافه المفوضون الساميون، والحكام العسكريون، فسمح لنفسه على حين غرة أن يندد بالوضع الأمني الهش في البلاد، ما استدعى رداً مباشراً من قادة الانقلاب هناك، حيث أصدروا على الفور قراراً جردوه فيه من صفته الدبلوماسية. غاب عن بال “هاليد“ هذا أن ما كان يصح قبل دخول روسيا والصين إلى أفريقيا، لم يعد يصح الآن.
الروس والصينيون يتمددون بصمت في القارة السمراء. ما عادت أفريقيا قارة فرنسية خالصة. بات لفرنسا شركاء جدد، وبات بوسع الأفارقة الطامحين إلى التحرر من نير التبعية الفرنسية أن يراهنوا على اللاعبين الجدد. الأمر الذي يفسر لنا سر جرأة العديد من الضباط الشباب في مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر على التمرد والوقوف في وجه البعبع الفرنسي. ما كان يخشى هؤلاء قوله قبل زمن، ولا يجرؤون على البوح به لأقرب المقربين باتوا اليوم يقولونه بملء الأفواه.
التمدد الروسي الصيني لم يعد خافياً على أحد. الروس يتمددون عسكرياً وسياسياً عبر دعم الانقلابات، والصينيون يتمددون اقتصادياً عبر تلزيم المشاريع الاستثمارية لشركاتهم. وعلى المقلب الآخر يجهد السفراء والدبلوماسيون الفرنسيون في حزم أمتعتهم وشد حقائبهم والحجز على أقرب موعد لرحلة العودة إلى بلادهم.
حتى الإيرانيون لم يخفوا رغبتهم في ملء الفراغ الذي أحدثه طرد فرنسا من بعض نواحي أفريقيا. قبل أيام، قال الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي خلال مؤتمر صحفي مشترك مع وزيرة خارجية بوركينا فاسو ”أوليا رومبا“، إن بلاده بصدد تفعيل اللجنة الاقتصادية المشتركة مع بوركينا فاسو، معرباً عن اعتزازه بالتجربة الأفريقية في مناهضة الاستعمار وكسر حلقات الهيمنة الغربية، فيما أكدت “رومبا“ أن بلادها وبلدانًا أفريقية عديدة تستلهم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية دروس المواجهة والتصدي للهيمنة الغربية، واصفةً إياها بالدولة الصديقة والشقيقة.
يبدو أن قادة طهران بدؤوا يُمنّون النفس برد الصاع لأميركا والغرب من الخاصرة الأفريقية، وما ذلك ببعيد عن تلامذة الإمام الخميني(قدس). فالإمام الذي لطالما تفنن في أذية أميركا والغرب، ها هم تلامذته يجترحون المستحيل بحثاً عن مكامن ضعف غريمهم.
الوضع في غينيا مختلف بعض الشيء عن بوركينا فاسو وشقيقاتها المتمردات، فالحديث هناك يدور عن انقلاب فرنسي مدبر. أي نعم، انقلاب فرنسي، ففرنسا بارعة أيضاً في تدبير الانقلابات. بعض المؤرخين يتحدثون عن عشرات الانقلابات الدموية التي دبرتها وقادتها فرنسا في أفريقيا خدمةً لمصالحها (يحكى عن ٢٢ عملية اغتيال أو إطاحة برؤساء أفارقة قامت بها فرنسا على مدى العقود الماضية).
تمتلك غينيا أحد أكبر مناجم الحديد في العالم، المعروف باسم ”سيماندو“، ولما كانت المعادن مهوى أفئدة الدول الصناعية، فقد استرعى سيماندو انتباه الصين، ما حدا بها إلى الدخول في مناقصات بغرض الحصول على فرصة للاستثمار فيه. وبالفعل، كان لها ما أرادت، حيث منحها الرئيس الغيني آنذاك ألفا كوندي حق الاستثمار، الأمر الذي أثار حفيظة فرنسا، فراحت عبر أذرعها الأمنية الضاربة في الإدارات الرسمية الغينية تؤلب الضباط على الرئيس البالغ من العمر ٨٥ عاماً، إلى أن نجح أحد المقربين منه في الإطاحة به.
لفرنسا صولات وجولات وتجارب عديدة في دنيا الانقلابات وليس آخرها انقلاب غينيا، ولمنافسيها الجدد: روسيا، الصين، إيران، ويقال تركيا أيضاً، باع طويل في هذا المجال، ما يعني أن الصراع سيحتدم في القارة السمراء، والمنافسة ستكون على أشدها خلال السنوات المقبلة.
أوروبا بالمجمل، بات حالها يشبه حال الرجل العجوز، ولعل إحدى أبرز علامات شيخوختها وضعفها ما يحصل في أفريقيا اليوم، فهل ينجح منافسوها الجدد في الإجهاز عليها، أم أنها ستتمكن من النهوض مجدداً، رغم كل ما يعتريها من وهن، ورغم كل ما يتمتع به منافسوها من حيوية وهمة؟
أول من أمس، انتقد قائد انقلاب الغابون ”أنغيما“ ما وصفه بنفاق الغرب الذي يسارع إلى إدانة الانقلابات العسكرية في أفريقيا، بينما لا ينبس ببنت شفة حيال تزوير الانتخابات هناك، فهل يعني ذلك أن رياح الغابون هي الأخرى تجري بما لا تشتهي سفن فرنسا، أم أن ما سبق وذكرناه حول انقلاب فرنسي استباقي هو الصحيح؟
حتى الساعة، ما زالت الأوضاع في الغابون مفتوحة على جميع الاحتمالات، ما يعقد المسألة ويجعل من إمكانية الوقوف على حقيقة ما يجري هناك ضرباً من ضروب التنجيم.
وإلى أن تتكشف خيوط الحقيقة في الغابون وسواها من شقيقاتها السمراوات، يحق أن لنا نسأل: هل لراجح الروسي دخل في ما يجري، كما يروج الغربيون أم أن المسألة برمَّتها لا تعدو أن تكون انتفاضة أفريقية عارمة للفكاك من لازمة الاستعمار الغربي؟
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024