آراء وتحليلات
المقاومة.. جدوى مستمرة
أحمد فؤاد
تظل بعض الأحداث الكبرى فارقة في التاريخ الإنساني بشكل عام، تختلف بعدها مجريات الواقع وتنقلب موازينه وتتغير مواقع الفعل فيه، مثل بركان ينفجر بما فيه من حرارة وضغط هائلين تكونا على مدى زمني طويل، ثم بعد فورانه لا يترك الأرض التي عرفناها كما كانت قبله، يزيل عالمًا كاملًا ويمنح الفرصة لميلاد جديد على أنقاض القديم وأشلاء بقاياه وركامه.
حرب تموز أو النصر الإلهي الأعظم، يمثل فارقًا واضحًا وحدًا فاصلًا في حياة الأمة العربية، وسنوات وجود كيان العدو، ويضع خطًا يغلق الدائرة أمام إمكانات بقائه، والعودة إليها ضرورة لازمة لفهم كيف تطورت الأحداث في هذا الكيان الهش والضعيف حتى بات –اليوم- أمام مئات الانفجارات المتتابعة التي تمزق أحشاءه وتكشف ترهلاته وتعري أعصابه الحساسة، وتثبت مرة أخرى وجديدة أن وقفة الثلة المؤمنة قادرة على خلق طريق جديد لأمتها من ورائها، وافتتاح زمن جديد يلغي الماضي، بعجزه وفشله وبؤسه الشديد، وأن الإرادة الحرة –دائمًا- قادرة على قهر المستحيل.
في هذه الأيام تحديدًا، وعقب مرور 17 عامًا على انتصار تموز، بدأت أطراف أزمة المجتمع الصهيوني في اتخاذ مواقعها وتعزيز مواقفها الرافضة أو المؤيدة لما يعرف بـ "أزمة التعديلات الدستورية"، وبتنا أمام حقائق جديدة طفت إلى السطح وأصبحت عناوين رئيسة للصراع القائم، وصارت التسميات الاثنية هي المسيطرة على برامج التحليل للأزمة الناشبة، بين الاشكيناز والسفارديم، بين الأوروبيين وسواهم، بين العلمانيين والمتشددين، بين اليهود الأرثوذكس والإصلاحيين، بين الليبراليين والقوميين، وهي تطورات كلها جديدة على كيان كان يحرص أشد الحرص على تصدير صورة السبيكة المتماسكة لمجتمعه، في وجود يحاول أن يقهر بالتمنيات واقعة قيامه بالتضاد مع كل الحقائق الكبرى للجغرافيا والتاريخ.
الخط الواضح الذي يرسم الصورة ويكملها يكمن في "تموز"، حين انكسر لأول مرة الفعل الصهيوني، أو ما كان متصورًا من قدراته على الفعل، الخط الذي يربط بين ما جرى وبين ما يزال جاريًا متصلًا مع بعضه، تاركًا على أرضيته أمامنا مواقع الأقدام وآثارها واضحة تستلفت الأنظار والعقول، سواء حين كانت تخطو على الرمال والطين، أو حين كانت تتنقل في برك الدم والدمار.
يفضل الكثير من الباحثين والمؤرخين استخدام تعبير جيش قامت عليه وله "دولة"، لوصف الكيان السرطاني الصهيوني، ولحظة نشأته المثيرة للعجب في قلب العالم العربي وعلى أرض فلسطين، لكن الدقة تقتضي القول إن الكيان ما هو إلا عصابات مسلحة، قد هُيئت لها الظروف والعوامل والطرق لسرقة أرض عربية، وإقامة ما هو "كيان"، لم يرتفع يومًا ليكون دولة بالمعنى المعروف والمنطقي في عالمنا، تجاوبًا مع مصالح أمم غربية كبرى، هي أيضًا من خارج حدود عالمنا العربي.
كيان العدو هو "ثكنة عسكرية" يقوم فيها الجيش بدور المجتمع والمجتمع بدور الجيش، فأي فرد في الكيان هو جندي احتياط، منذ أن يكمل تعليمه وحتى سن الخمسين، وكل فرد تحت خدمة السلاح متى وقعت الحرب، والمجتمع كله يعتبر السلاح ضرورة بقاء بالمعنى الحرفي والمباشر للكلمة، في تقليد صارم للنظام العسكري الإسبرطي القديم.
هذا الوضع الشاذ أدى إلى نشوء جيش يتحكم بالواقع، دون قيود من محاسبة أو حدود من دستور مكتوب ومعروف، وهو ما أنتج مؤسسة عسكرية/ أمنية بالغة التضحم وواسعة الارتباط بالشأن العادي واليومي، من السيطرة على القرار السياسي إلى التوغل الواسع في الأنشطة الاقتصادية والصناعية والعمل المباشر في الأدوار الاجتماعية، كل ذلك ليس بمحاذاة دور الدولة، كما يفترض، وإنما خصمًا منها وغالبًا فوقها.
كان دور الجيش يتعدى بمراحل ما يتحمله أي مجتمع طبيعي، في أية ظروف، فالحركة الصهيونية منذ النكبة تعتبر المؤسسة العسكرية هي مصنع صهر وتوحيد الهوية، فيهود الشتات لا يجمع بينهم ثقافة واحدة أو انتماء واضح ولا ماض مشترك، كما يفترض في أي مجتمع، وبالتالي أوكلت إلى الجيش مهمة خلق هذه الهوية الوهمية، وصناعة وحدة وطنية ولائحة مصالح عليا لكيان يعيش وسط محيط من الأعداء، إضافة إلى دوره في حماية هذا الكيان النشاز وسط بحر عربي يرفضه ولا يرى مستقبلًا ممكنًا لهما سوية.
تكاليف الأمن لنبت غير طبيعي، أو حمل خارج الرحم، كانت تمثل في حالة الكيان أعباء فادحة وضرائب مستمرة، يدفعها من استقراره وتخصم من تحوله إلى حالة طبيعية، وكان الأميركي حاضرًا بشيء من المساندة وتغطية الحسابات دائمًا، لكن الواقع تغير جذريًا في "تموز"، حيث تحول الجيش من أداة بقاء إلى سبب استنزاف، حين عجز لأول مرة عن تغطية جبهة يرى سحب التهديدات تغطيها، وبعد تموز، فإن استمرار حزب الله بالوتيرة ذاتها من مراكمة عوامل الانتصار من تسلح وتدريب وامتلاك مفردات القوة المادية، وتعزيز ثقة البيئة في الجنوب أولًا وفي العالم العربي الواسع ثانيًا، حوّل التهديد إلى مكمن رعب، ولم تقدم أية حكومة للعدو على الدخول في مواجهة مع الحزب خوفًا من ثمن رهيب للحرب، ومع امتلاك الحزب لسلاح "الردع" ومع فشل الكيان في احتواء الخطر بأي شكل، فقد دخل الكيان مرحلة المأزق الوجودي، يرى الحقيقة أمامه ثم لا يملك قرار مواجهتها.
تغيرات أخرى كبرى أصابت ميزان القوى في العالم العربي كله، أولها وأهمها أن هناك جبهات أخرى قامت وتستعد، غزة بعد لبنان دخلت حسابات الحرب الشاملة، والجمهورية الإسلامية اليوم صارت حاضرة بثقلها الإنساني وتجربة ثورتها الملهمة، وسوريا بعد سنوات من الحرب الكونية عليها لم تتخلى عن راية المقاومة، والولايات المتحدة بانخراطها في صراع ساخن على جبهات متعددة مع روسيا ومع الصين، أصبحت في الواقع لا تملك رصيدًا من الهيبة تسند بها قاعدتها، والهيبة في حالة ضياعها من قبل قوة عظمى تعني أن كل خطوة لها ثمن كبير وعواقب مكلفة.
التحليل السليم للأحداث العاصفة في الكيان لا يقول إنها نشأت بسبب حكومة متطرفة أو رئيس وزراء مندفع، بل هي نتاج منطقي لتاريخ من التراكمات والنضالات، أثرت في قدرة هذا الكيان على تصدير مشاكله وسد شقوق تصدعاته على حسابنا، عبر حروب يشنها وانتصارات مجانية يحصدها، ودماء عربية تقنع الشارع هناك أنهم قادرون على البقاء وعلى المواجهة، الكيان لم يعد هو النمر الشرس في هذه البقعة من الأرض، بل تحول إلى نمر من ورق لا يستطيع إخافة أحد، أو بتعبير أشد دلالة وبلاغة، وأسبق وأصدق من كل وصف "أوهن من بيت العنكبوت".
كان كل شيء يسير كما يخطط له، أو هكذا كان يبدو في مطلع الألفية، كيانا شرسا مسلحا من القدم حتى الرأس بأفتك وأحدث ما أنتجت البشرية من أدوات تدمير، وحليف دولي يغرد منفردًا فوق قمة العالم، ورأي عام غربي في أوروبا يؤيد ويدعم، وعالم عربي ضعيف متردد، وخلافات بين الأشقاء تحولت بقليل من الجهد إلى حروب طويلة وعداوات ملتهبة ودائمة، وقبل كل شيء، انتشرت أخلاقية الهزيمة بشكل مروع بين الشعوب العربية، وهي تصرف يفترض سلفًا أننا مهزومون مهما حاولنا، وحتى قبل أن نحاول، فلا مفر ولا عيب في التسليم.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024