آراء وتحليلات
إطلالة من موسكو
أحمد فؤاد
الحرب الروسية التي تجري في أوكرانيا تخبرنا أحداثها بطريقة جديدة، أراد الأميركي أن يكتب بها تاريخ العالم، طريقة أحدث من جعبة الساحر الشرير، لم يكتف فيها الأميركي بقدراته الهائلة على الوصول لكل بقعة في الكوكب، ونشر ما يريد أن ينشره على عقول البشر، لكنه كذلك وزيادة في النكاية والسخرية قرر أن يروي مئات الأكاذيب الملفقة، غير المرتبة، عن كل خطوة وكل قرار وكل واقعة جديدة، وهو في هذا ليس نسيانًا أو جهلًا، ولكن لأن العالم لا يجب أن يرى ذلك الصراع كما يجب أن يراه، صراع بين الشيطان الأكبر وبين كل دولة تسعى لضمان الحد الأدنى من استقلالها، الاستقلال الفعلي اقتصاديًا وسياسيًا بمخاصمة المدار الأميركي المرسوم.
يستغل الأميركي أية ثغرة، ولو ثقب إبرة، لكي يصدر للعالم قراءته وتفسيره لها، يقسم الأطراف فورًا إلى ملائكة أو شياطين، بالطبع ملائكتهم هم خزنة جهنم بالنسبة لنا وأي شخص يلمعه الإعلام الأميركي هو عميل أو مشروع عميل، وكي يحتل إعلامها "كل الفضاء" فإنها تردد قصصًا عديدة عن الواقعة الواحدة، كلها نيران أكاذيب تنطلق من نقطة واحدة، هي المصلحة الأميركية، وتستمر في نسج الأوهام وإسقاط العقول في شباكها، وتصبح بالتالي الأوهام هي الحقيقة الوحيدة الثابتة، وتنتهي الدعاية الأميركية إلى تثبيت رؤيتها ومنطقها وقيمها على الجميع.
تمرد قوات "فاغنر" الروسية كان آخر ما أخرجه الساحر الأميركي من جرابه، الذي لا ينفد، وبناء على حدث لا يملك أحد –اليوم على الأقل- الجزم بحقائقه أو أسبابه الكامنة وراء بوابات الكرملين الثقيلة، غمرتنا سيول التحليلات الأميركية عبر الشاشات وفي الصحف والإذاعات، لتحاول صناعة حقيقة تقول إن انهيار روسيا محتوم، اليوم أو غدًا، وأن هذا المصير هو نهاية طريق كل من يتحدى الولايات المتحدة ويرفض سطوتها وأوامرها، ويخرج من أسوار بيت الطاعة.
ما هو مهم بالنسبة لنا، هو أن الحرب الروسية في أوكرانيا ليست صراعًا عسكريًا بعيدًا، يجري في أرض غيرنا ويتحملون وحدهم تكاليفه وخسائره، ويدفع حاضرهم ومستقبلهم أثمانه، الصحيح هو أن الحرب القائمة صراعًا أكبر بين دولة –هي روسيا- والمشروع الأميركي الشيطاني للهيمنة، وهو فوق تأثيراتها المرعبة على شؤوننا، حتى على مستوى سعر رغيف الخبر وتكلفة الطاقة، فإن هذا الصراع سيكون بداية خروج من العصر الأميركي كله، ولحظة ميلاد زمن اندحارها وخروجها من طور السيطرة الكوكبية المستمرة منذ الحرب العالمية الثانية.
هذا ما يهمنا في الصراع الروسي - الأميركي، إننا مثل غيرنا من أمم الأرض وشعوبها نعاني وننزف دمًا بسبب الشيطان الأميركي، وفرصة كسر ذراعه تعد إضافة –ولو بالخصم- إلى معادلة الحياة كلها وشروطها، وخروجًا من ثوابتها الموروثة، الملعونة.
الثابت الأول في المعركة الروسية الحالية في أوكرانيا أن هذه الحرب مصيرية بالنسبة للولايات المتحدة، ومن ورائها الغرب كله، وهي وضعت ثقلها العسكري والاستخباراتي والعملياتي منذ اللحظة الأولى في الكفة الأوكرانية، والروس يواجهون آخر وأعقد ما أخرجته الترسانات العسكرية الغربية، ورغم هذا فإن السلاح الروسي تمكن من قهر هذا السلاح الغربي، وحطم أجنحة أساطيره التي كانت محلقة في علياء الغرور الخالص فوق رؤوس الجميع، فجأة تبدد رعب منظومات باتريوت الشهيرة للدفاع الجوي أمام الاستهداف الذكي بالصورايخ الفرط-صوتية، وأمام العيون تفحمت الوحوش الألماني "ليوبارد" في ساحات المعارك، بعد أن صوروها لنا كتنانين خارقة لا تقهر.
فهم الموقف الروسي، ثانيًا، يعد هدفًا لكسر سلسلة الأكاذيب الأميركية المنتشرة حولنا، حد الحصار، وفي هذا يجب أن يبتعد الإنسان عما تبثه أبواق الدعاية الأميركية أولًا، ولنحاول أن نفسر الواقع عبر إطلالة من قلب موسكو ذاتها، عبر خطاب ألقاه غينادي زوغانوف، رئيس اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي، ثاني أكثر الأحزاب تمثيلًا في الدوما بعد الحزب الحاكم روسيا الموحدة.
فور وقوع الحرب، ومع الطلقة الروسية الأولى في أوكرانيا، وانكشاف حقيقة الموقف الأميركي الذي أرادها منذ البداية حرب تكسير عظام ضد الروس، لا تنفع معها جرعات التهدئة ولا تخفف وتيرتها تراجعات بسيطة، طالب زوغانوف أمام الدوما بضرورة سحب روسيا لتوقيعها على اتفاقية صندوق النقد الدولي –واشنطن 1992- لأن الحرب مع الولايات المتحدة لا تحتمل الاستمرار في التماهي مع أذرعها، وللحق كان الموقف مبدئيًا وذكيًا، رغم أنه لم يجد الإرادة الكافية لتنفيذه، في ظل وجود نخبة بموسكو لديها مصالح مالية هائلة عابرة للدولة، وبالطبع مغايرة لأماني شعبها وتطلعاته.
وفي بدايات الشهر الحالي، حزيران، عاد زوغانوف للتحذير من مغبة الاستمرار في سياسات نصف خطوة، أمام التحديات الهائلة التي يحملها التدخل الأميركي الكامل في الحرب، قرارًا وقيادة وتسليحًا، وأمام الدوما قال إن الحرب التي تخوضها روسيا "حرب حقيقية وكاملة وكبرى"، وقدم السياسي المعارض احترامه وأشاد ببطولات جيش بلاده والفخر بما قدمه جنوده على خطوط النار، في مواجهة الفاشيين المسلحين بأحدث إبداعات الغرب في مجال التسلح.
ووصل زوغانوف إلى الخلاصة المرة لخطابه، وقطع بمشرط جراح ماهر قشرة الجلد الخارجي ليصل إلى أصل الداء في الواقع الروسي اليوم، بقوله: إن "الرئيس بوتن تحدث عن توصيفها سابقًا، لكن العديد من المحيطين به لا يزالون على قناعة بأنها عملية خاصة، رغم الهجوم القوي على العاصمة موسكو بالمسيّرات"، وأوضح أن الإعلام "صنع طابورًا خامسًا داخل البلاد"، واستشهد بفيلم "بومبا- القنبلة" الذي يسخر من عالم الفيزياء النووية وأبو البرنامج السوفييتي إيجور كورتشاتوف ومن ستالين، متابعًا: "كورتشاتوف حصل على وسام بطل الاتحاد السوفييتي مرات عديدة، وهو المواطن الوحيد الذي حصل على لقب المواطن الفخري، لقد منع بعلمه وجهده البشرية من الانزلاق إلى حرب نووية جديدة".
أضاف إن "الشعب لكي ينتصر في حربه يجب أن يتم 3 مهمات لازمة وضرورية، حشد كل الموارد وراء الأهداف العليا، تأميم وسائل الإنتاج التي لا تزال بحوزة الأوليغارشية الروسية، وهم مستمرون بنهبها وتهريبها إلى الخارج، ودعم المؤسسات الشعبية"، وهي خلطة مثالية لتحقيق النصر، في أي بلد وأمام أي عدو.
وختم زوغانوف خطابه، أمام الدوما، بكلمات تشبه نبوءة تحققت واقعًا قائمًا: "اليوم حان الوقت الذي إن لم نتخذ فيه قرارات شاملة، سيبدأ التفكك الاجتماعي، وهذا ما لا يمكن التسامح فيه في زمن الحرب".
في الحقيقة فإن روسيا أخطأت حين قبلت بقواعد توزيع الأدوار والأوراق الأميركية، أجرمت حتى حين جلست إلى المائدة مع الأميركي، ومع استمرار النزيف المرعب في الدماء والتكاليف والأعباء فإن مسألة الانفجار تبدو محسومة الوقوع، فإن أصحاب المصلحة في الوطن حين لا يجدون لهم مكانًا على لائحة اهتماماته سيسقطون، ولن يتقدم لملء أماكنهم الجبناء ورجال المال الحرام والأعمال المشبوهة، وهو درس تاريخي متكرر، جاء في نهاية كل قصة حضارة سادت، ثم ضرب الفساد أسسها وبنيتها، ولم تجد حين وقعت الواقعة ملجأ ولا مفرًا، وهي ذاتها معضلة التحدي القائمة أمام موسكو، إما المواجهة وإما الفناء.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024