آراء وتحليلات
سوريا في الصين
عبير بسام
في شباط/ فبراير من العام 2012، استخدمت كل من روسيا والصين حق النقض "الفيتو"، في مجلس الأمن لإحباط مشروع قرار يدين "القمع" في سوريا. حينها كانت معارك حي باب عمرو في حمص حامية الوطيس، ومعركة تحرير المدينة من الإرهابيين تتوالى على قدم وساق. في ذلك العام توجه وفد من الجيش العربي السوري لشراء السلاح من الصين. وبحسب ما كشفه مصدر لـ"العهد" بعد عقد من الزمن من الحرب على سوريا، يتضح أن القصة ليست في شراء السلاح الصيني فقط، ولكن في الموقف الصيني الذي تم الاتفاق عليه منذ ذلك الوقت.
دخلت الحرب على سوريا سنتها العاشرة، وبدأت بعض المعطيات والحقائق تنكشف، وأهمها مواقف دول وحكومات، إضافة إلى توجهات الحكومة السورية بالذات. توجه السوري نحو الصين لشراء السلاح خلال حقبة معارك باب عمرو، وسواء كان السبب سياسياً أم تسويقياً، فلا بد أنّ حركة الوفد كانت مسبوقة بمحادثات سياسية معمقة، واتفاقيات لصالح سوريا والصين. ومسار ما حدث يشرح وجهة المعركة الدبلوماسية التي قادتها سوريا في الأمم المتحدة فيما بعد.
ابتدأت سوريا المعركة الدبلوسية في الأمم المتحدة مع ظهور السلاح في العام 2011، وبرز الدور الصيني والروسي في مجلس الأمن، وذلك بالتصويت ضد جميع القرارات التي حاولت التناول من سوريا واستقرارها، وشن الحرب عليها وعرقلة تمرير المساعدات الإنسانية دون إشراف الحكومة السورية المباشر. ومُنع التحالف الغربي من التدخل في سوريا على غرار ما حدث في ليبيا.
هدف الفيتو يومها لمنع تهريب السلاح إلى داخل الأراضي السورية لدعم المجموعات الإرهابية المحاصرة في باب عمرو، باسم المساعدات الإنسانية الأميركية- التركية- السعودية- القطرية على حد سواء. اذ تعلمت كلّ من روسيا والصين درساً قاسياً في ليبيا، تداركتاه بحزم من خلال "الفيتو" الحازم، والذي أعلنت عبره الصين عن موقف مبدئي مما يحدث في سوريا، اذ استخدمت الصين الفيتو خلال وجودها في الأمم المتحدة 13 مرة، منها ست مرات خلال الأعوام 2011- 2017 دعماً لسوريا ضد تدخل التحالف الغربي وأمريكا. ولذا لا يمكننا أن نقلل من أهمية الفيتو الصيني والذي كان يرتكز على استراتيجية هامة مفادها أنّه بالوقوف إلى جانب الحكومة السورية فإنّ الصين تشكل قوة مع روسيا لحماية مصالحهما في منطقة البحر المتوسط. ومما أكده مصدر العهد:" إن المسؤولين قالوا إن توجيهات الحكومه الصينية هي بدعم الحكومه السوريه بكل ما تحتاجه للصمود في وجه الشيطان. وفتحت مستودعات السلاح أمام سوريا للشراء".
تشكل الدولة السورية وإمكاناتها قوة صغيرة مقارنة بالصين، ولكن السياسة الإستراتيجية التي قامت عليها الصين بالتوجه نحو التكامل والتنمية العالميين تقدر أهمية الدور الذي تلعبه سوريا عبر خط الحرير الجديد، وهي سياسات انتهجتها دول شرق آسيا، وخاصة في الصين واليابان وأندونيسيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي حدت من هجرة العقول إلى الدول الغربية. وضمن هذا المفهوم ولد مشروع الصين "طريق الحرير الجديد" أو "طريق واحد حزام واحد".
بالطبع لم تحضر سوريا في الصين عبر اتفاقية استيراد السلاح فقط، ولكنها بالتأكيد حضرت من خلال المشاورات التي أجريت بين القوى السياسية، حتى تم توقيع الاتفاق. وهنا لا بد من إعادة إحياء الكلام عن المشروع الأساس الذي قام بناء عليه "طريق الحرير الجديد" والذي يعد خطة موسعة لإستراتيجية طرحها الرئيس السوري بشار الأسد في العام 2004، ألا وهي "استراتيجية البحار الخمسة".
تقوم الإستراتيجية على التشبيك الاقتصادي والتجاري لمنطقة البحار الخمسة التي تتوسطها سوريا، وتستفيد منها جميع الدول التي تقع على هذه البحار وهي: البحر الأبيض المتوسط، الخليج العربي، بحر قزوين، البحر الأسود والبحر الأحمر. وهي تتضمن تشبيك التجارة العالمية ونقل البضائع وبناء شبكة من خطوط أنابيب النفط والغاز والكهرباء. وانطلقت ابتداء من "إستراتيجية البحار الخمسة" العديد من النظريات "المشرقية" اذا جاز التعبير. ضمن هذه الإستراتيجية شهدت سوريا انفتاحاً جديد المنحى في العام 2009، وخاصة مع تركيا. وهذا ما أثار قلق الإدارة الأميركية و"اسرائيل"، اذ شهدت سوريا وقتها صعوداً اقتصادياً هاماً. ولا يعد الربيع "العبري" سوى خطوة أولى نحو تقويض استراتيجية البحار الخمسة.
لا بد أنّ طرح الرئيس الأسد، والذي جاء بعد احتلالهم للعراق بعام واحد، قد أغضب الأميركيين لأن ذلك يعد منظوراً متقدماً لمواجهة النفوذ الأميركي في المنطقة، في وقت كانت تتلقى فيه سوريا رسائل تحذيرية من أجل التعاون مع الأميركيين ضد حركات المقاومة. وقدمت الإستراتيجية الأسدية خطة التفاف واختراق متطورة للطرق البرية والممرات البحرية التي تسيطر عليها أمريكا، وهذا ما يبرر السرعة التي وقع بها باراك أوباما اتفاقيات التعاون التجاري مع الصين وحول العالم. لقد كانت سوريا فعلياً في موقع الفعل، وليس رد الفعل.
فكرة الرئيس الأسد أسست لفكرة طريق الحرير الجديد التي ابتدأتها الصين. فأول مرة طرح فيها المشروع الصيني كان في 7 أيلول/ سبتمبر من العام 2013، خلال زيارة الرئيس الصيني الحالي تشي جين بينغ لأندونسيا. ولا ننسى أن الخطة تقع ضمن نطاق الخطط الخمسية التي تنتهجها الصين.
الانفتاح الإستراتيجي على الصين في العام 2012 لم يكن الأول. فبحسب مصدر العهد، عندما قررت سوريا شراء السلاح في العام 2009، درست عروضا لشراء السلاح من كل من تركيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وروسيا. واتجهت التوصية نحو شراء سلاح الاتصالات من تركيا، لأنه مناسب من حيث الأداء والسعر. إلّا أنّ الرئيس الأسد رفض الفكرة تماماً: "صحيح أن تركيا بلد جار، ولكن بحسب التحالفات التي يقيمها يمكن في أيّة لحظه أن ينقلب ليصبح عدوًا، ولا يمكن أن تكون لدى سوريا أجهزة الاتصال نفسها. أي أن الانفتاح على تركيا كان مدروساً وحذراً ولم يكن أعمى. فبينما درس الوفد الشاري الأمر عسكرياً، قلبها الرئيس الأسد عسكريّاً وتاريخيّاً وسياسيّاً. واتجهت سوريا نحو شراء السلاح الصيني" بحسب المصدر.
استراتيجية البحار الخمسة، كما وصفها الرئيس الأسد خلال مقابلة معه أجرتها قناة الوصال وصحيفة ادينليك التركيتان في 6 نيسان/ ابريل من العام 2013، عندما سأل عن مشروع الوحدة السياسية والاقتصادية للبحار الخمسة، شرح الأسد يومها أنّه لم يقصد بها بناء امبراطورية! ولكن التوحد في المصالح هو ما سيأتي بالرخاء للمنطقة ويحصنها ضد التدخل الخارجي، وهي مشاريع متكاملة. وأكد أنه: "يجب أن يبقى المشروع موجوداً في أذهاننا جميعاً لأن مستقبل هذه المنطقة هو في المشاريع الكبرى، وإذا بقينا محصورين في داخل حدودنا الوطنية، حتى لو كانت تركيا على سبيل المثال أو إيران أو غيرهما تُعتبر دولاً كبيرة بالمقياس العالمي، نحن دول صغيرة لا يمكن أن نشعر بالقوة إلا إذا أقمنا هذا النوع من المشاريع الاستراتيجية العابرة للحدود". ويبدو أنها استراتيجية أسالت لعاب الكثيرين.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024