طوفان الأقصى
الغرب يعسكر الجامعات ويحاضر بعفة الحرية والديمقراطية
عدت إلى أيام الدراسة الجامعية في ذاك المبنى الأثري قرب حديقة الصنائع الجميلة. المبنى الذي أنشئ مطلع القرن العشرين وعُدّ نموذجًا لفنّ العمارة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر، تحوّل لاحقًا عام 2017 إلى مكتبة وطنية بعدما نقلت منه كلية الحقوق إلى المجمع الجامعي في الحدث. هنا في المبنى العتيق قضينا أربع سنوات من ريعان شبابنا نتشرب التشريعات والقوانين وتاريخها وفلسفتها ومنهجيتها.. ومن هنا تخرج كبار المحامين والقضاة ورجال الدولة اللبنانية. كانت النصوص باللغة العربية لكنّها كانت في الوقت ذاته فسيفساء تعكس بقايا الاحتلال الفرنسي للبنان بتجميل الانتداب، لكن أحدًا من "دكاترة" الجامعة لم يفصح لنا عن ذلك، جلهم درس هناك في "موئل الحرية والديمقراطية"، وتأثر بالصورة النموذجية التي رسموها له.
يومها كنا طلاباً جامعيين متلهفين لننهل من العلوم الإنسانية وننال شهادة الحقوق، لم ننظر في خلفيات وبواطن ما نتلقاه ولم يكن يعنينا أصل وفصل هذا القانون أو ذاك، كان المحاضرون يشرحون لنا مبادئ القانون المدني والإداري والجنائي والدستوري وقوانين حقوق الإنسان وكنا على سجيتنا نعتقد أن تلك القوانين هي التي تحكم علاقة البشر، صوروا لنا الحرية أنها الهدف الأسمى وأن المنظمات الدولية هي ميزان الذهب العادل، عرّفوا الديمقراطية بأنها دول "الفرنج" وأنه هناك ينطبق حكم الشعب للشعب من أجل الشعب. حددوا لنا نقطة انطلاق التاريخ مع اندلاع الثورة الفرنسية، لكنّهم لم يخبرونا أنها ثورة لا تستحق كلّ هذا التمجيد كونها لم تدم سوى 10 سنوات فقط وانتهت بانقلاب نابليون بونابرت على رفاق دربه، كانت دساكرنا تمتلئ بنظريات منظري تلك الثورة دي مونتسكيو وجان لوك وجان جاك روسو وسواهم، رسموا لنا العالم، كما لو أنه لوحة جمالية تحكمها العقود الاجتماعية والمؤسسات وفصل السلطات والمنظومات القانونية المحلية والدولية، لكن أحدًا لم يخبرنا أن النفوس غير النصوص وأن الواقع لا يشبه ما تحويه مجلداتنا ولا مراجع جهابذة القانون.
لم يحدثنا أحد أن الديمقراطية بدعة دستورية، وأن أحد مؤسسي الثورة الفرنسية الفيلسوف الفرنسي كوندورسيه كان يقول بأنهم "ينتخبونني لأدلي برأيي لا بآرائهم، وهذه أكبر خدمة لهم"، وأن الانتخابات يُتلاعب بها بتفصيل أصحاب السلطة القوانين على مقاساتهم، ليصل نائب بمئة صوت وآخر يحتاج عشرات آلاف الأصوات ليعبر في دائرته. لم يخبرنا أحد أن السلطة قوية على المواطن الضعيف تفرض عليه القوانين والجزاءات العقابية، وأنها حامية وحاشية في جيب القوي صاحب النفوذ لا تقترب منه ولا تعكر صفو مزاجه. لم يفدنا القاضي الجزائي الذي أسهب بشرح مواد قانون العقوبات بأن هذا القانون وجد ليطبق على سارق الرغيف، وليس على ناهب أموال البلد ومهربها للخارج، ولا على مسؤول أفرغ خزينة الدولة في جيبه الخاص وجيوب أقربائه وطوب عقاراتها باسمه.
لم يطلعنا أحد أن القانون الدولي يحكمه الأقوى وأنه ومنظماته من تأسيس المنتصرين في الحرب العالمية الثانية للاقتصاص من النازيين المنهزمين، ولاحقًا الشيوعيين ومن بعدهم المسلمين بوصفهم "إرهابيين"، ولم يلفتنا أحد أن هناك دولًا وكيانات فوق القانون والمحاكم والمجالس ودولًا تحته. ما تعلمناه وفقهناه عن المساواة جعلنا نعتقد أن العالم مدينة فاضلة، لكننا استيقظنا لاحقًا على مفارقات عجيبة غريبة، رأينا تلك القوانين تطبق فقط على الضعفاء. رأيناها أداة بيد المستكبرين لإذلال المستضعفين في الأرض لم نجد شيئًا صادقًا مما تعلمنا. فكلّ مبادئ الحرية والحقوق ظهرت كأنها كذبة كبيرة وأحلام يقظة.
فتحت أحداث العالم من حولنا عيوننا بعيدًا عن الخطوط الجميلة والعبارات المنمقة بأرقامها، فأول سؤال تبادر إلى ذهننا أين حرية المعتقد؟ وأين حق التعبير عن الرأي؟ أين حق التظاهر والاحتجاج؟ باختصار أين حقوق الإنسان، ولمَ هي متاحة لذوي البشرة البيضاء في بلاد العم سام، ومحجوبة بل ممنوعة عن ذوي البشرة السمراء حتّى لو أفضى ذلك لسحلهم وسحقهم؟ أي عنصرية تلك؟ وكلّ المواثيق الدولية ودساتير الكرة الأرضية تحاربها، أين حق تقرير المصير لشعب فلسطين، البلد الوحيد في العالم الذي ما زال يرزح تحت نير الاحتلال، والذي يتوزع شعبه ما بين المعتقل ومخيمات، وقطاع وضفة محاصرين؟
أين الحرية ولمَ هي متاحة لتأييد "إسرائيل" في عدوانيتها ووحشيتها، بينما تتحول إلى "خطاب كراهية" و"معاداة للسامية" و"بؤر للتطرف وللإرهاب" قمعها واجب ومشروع إذا ما انتفضت جامعات أميركية وفرنسية دعمًا لأطفال غزّة الابرياء؟ كما حصل ويحصل هذه الأيام في العديد من الجامعات الغربية العريقة والرائدة مثل السوربون الفرنسية، وهارفارد الأميركية، وجورج واشنطن، ونيويورك، وييل، ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، وكارولينا الشمالية، وكولومبيا.. هذه الجامعات التي تبنى عليها الآمال كونها تخرج الكوادر الشابة، لم تشفع لها عراقتها وشهرتها، ولم تحل دون تحويلها معسكرات واقتحامها من قبل قوات الشرطة المدججة بالسلاح وترويع طلابها واعتقال الآلاف منهم رغم ممارستهم داخل حرم الجامعات لحقهم في الاحتجاج السلمي الذي تقره جميع الشرع والمواثيق الدولية لا سيما الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
عرّى قمع طلاب الجامعات في الدول الغربية أنظمتها الحاكمة، وكشف زيف شعاراتها التي طبلت لها وزمرت على مدى قرن ونيف من الزمن، وأظهر أن المعيار الوحيد الذي يحكم هو المصلحة، وكلّ ما عدا ذلك لا يمكن الركون إليه، والدليل أنه حينما كانت الاحتجاجات الشعبية في إيران عقب وفاة مهسا أميني بظروف مرضية، كانت تلك الدول نفسها التي تقمع طلاب جامعاتها اليوم تحاضر في العفة والحرية والديمقراطية وحقوق المرأة في إيران، وتحول وفاة طبيعية إلى "أيقونة حرية"، وقبلها بسنوات كانت هي نفسها تقود الحلم العربي أو ما أسمته "الربيع العربي" نحو حرية لم تنَلها الشعوب العربية، إنما كانت معبرًا لاستبدال طاغوت بآخر، وبعدها دمرت سورية وتحت عنوان "الديمقراطية والحرية" حولت المحافظات السورية إلى بؤر إرهابية، بينما هي اليوم تتدخل لقمع شبان وجامعيين يتعاطفون مع أطفال غزّة وتزجهم في غياهب السجون، كي لا تزعج خاطر ربيبتها "إسرائيل".
تمثال الحرية في نيويوك للنحات الفرنسي فريديريك أوغست بارتولدي، والذي أهدته فرنسا لأميركا حوله الغرب إلى رمز عالمي للحرية والديمقراطية وأيقونة لـ "الحرية التي تضيء العالم". لكن الوقائع والأحداث على مرّ القرن العشرين والواحد والعشرين، بيّنت أن تلك الأيقونة لا تعدو كونها تحفة فنية تخفي خلفها حقيقة الغرب الساطعة وشعاراته الزائفة، وتظهر أنه قامع الحريات وليس صانعها ولا موئلها، وأن النفس الاستعماري ما زال يتملكه منذ الأزل وأن كلّ من نظّر من فلاسفته حول الحرية والديمقراطية، كان يصطنع ديموغاجية غربية خادعة لشعوب الدول الأخرى للهيمنة على ثرواتها ومقدراتها عبر احتلال العقول بحلم "النموذج الغربي"، بدلًا عن احتلال الشعوب، وبالتالي لم يكن ذلك سوى وسيلة جديدة للاستعمار بعد فشل الاستعمار العسكري، أما كلّ ما يحكى عن حرية وديمقراطية وتقرير مصير الشعوب، فلا يعدو ذلك أكثر من أوهام والدليل أن ما من أحد ناصر غزّة وفلسطين إلا أصحاب الضمائر الحية في العالم بمن فيهم ذوي العقول النيرة والقلوب التي ما زالت على فطرتها الإنسانية، لم تلوثها درائن الغرب، ورغم ذلك لم تسلم من اضطهاد وقمع حكام بلادها.