معركة أولي البأس

خطاب القائد

خطاب الإمام الخامنئي خلال لقائه مسؤولي البلاد وسفراء الدول الإسلاميّة بمناسبة ذكرى المبعث النبوي الشريف
12/02/2024

خطاب الإمام الخامنئي خلال لقائه مسؤولي البلاد وسفراء الدول الإسلاميّة بمناسبة ذكرى المبعث النبوي الشريف

ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي النصّ الكامل لكلمة الإمام الخامنئي بتاريخ 8/2/2024 خلال لقاء مع مسؤولي البلاد وسفراء الدول الإسلاميّة بمناسبة ذكرى المبعث النبوي الشريف في حسينيّة الإمام الخميني (قده). وتحدّث الإمام الخامنئي عن البعثة النبويّة الشريفة قائلًا إنّ البشريّة اليوم ودائمًا هي المخاطَب لتعليم نبي الإسلام (ص)، وأنّ صلاح المسلمين وإظهارهم أنموذج الإسلام الأصيل والحقيقي للبشريّة سيجذب البشريّة نحو الإسلام. كما قال سماحته أنّ حادثة غزّة فضحت الحضارة الغربيّة وكشفت فقدانها للرحمة إذ لا مشكلة لديهم في قتل المئات في ليلة واحدة داخل أحد المشافي وقرابة ثلاثين ألفًا في أربعة أشهر، وشدّد سماحته على أنّ انتصار أهالي غزّة سيغدو أكثر وضوحًا يومًا بعد يوم.

وهذا النص كاملًا: 

"بسم الله الرحمن الرحيم، 

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا، أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، [ولا] سيما بقية الله في الأرضين.

أبارك عيد المبعث الشريف والعظيم لكم جميعًا - أيّها الحضور الكرام - وللشعب الإيراني ولمسلمي العالم كافة. عيد المبعث تذكارٌ لأعظم حادثة في التاريخ، ويمكن الادّعاء بجرأة أنّ بعثة نبيّ الإسلام الأكرم (ص) هي أعظم حادثة شهدتها البشريّة وأكثرها برَكةً على مرّ التاريخ. وعندما نقول هذا الكلام عن ولادة ذلك العظيم (ص) يكون ذلك أيضًا ببركة البعثة. لماذا يستطيع الإنسان أن يدّعي هذا المقدار كله من الفضيلة والقيمة لبعثة النبيّ الأكرم (ص)؟ لأنّ الوصفة الكاملة والنهائيّة للسعادة الدنيويّة والأخرويّة للبشر قُدِّمَت عبر هذه البعثة. قدّمت البعثة الوصفة الكاملة والنهائيّة والدائمة والخالدة لسعادة البشر سواء سعادة الدنيا أو الآخرة.

إنّ أول معجزة وحدث مذهل يشاهدهما الإنسان في هذه القضية ظهورُ المبعث في تلك الأرضية غير الملائمة التي وقع فيها، فشروع المبعث ترافق مع هذا الأمر العجيب. كان العالم في ذلك اليوم مليئًا بالانحراف والاعوجاج والمصيبة بالنسبة إلى البشرية. يقول أمير المؤمنين - عليه السلام - عن عصر الجاهليّة ذاك الذي بدأ النبيّ (ص) مبعثه فيه: "وَالدُّنیا کاسِفَةُ النّورِ ظاهِرَةُ الغُرور"؛ كان العالم ظلمانيًّا ولم يكن ثمّة رُشد ووعي وبصيرة بين الناس. "قَد دَرَسَت مَنارُ الهُدى"؛ كانت الهداية التي جاء بها الأنبياء ومشاعل الهداية ومناراتها التي وضعوها في طريق الناس قد طُمست وعُبِث بها وخُرِّبت، وحُرِّفت "وَظَهَرَت أَعلامُ الرَّدىٰ"؛ كانت علائم الانحطاط وسقوط الإنسانيّة تُظهر نفسها. والحديث عن الدنيا، "وَالدُّنیا کاسِفَةُ النّور"، لا يقتصر على البيئة العربية والجزيرة العربية، "وَالدُّنیا کاسِفَةُ النّور" أي حضارة ذاك العصر الإيرانيّة، وكذلك الرومانيّة، والحضارات الكبرى الأخرى التي كانت في العالم. فكلام أمير المؤمنين (ع) هذا عن الجميع. إذًا، تحقّق هذا المبعث وهذا البعث، وقد تحدّثنا وتحدّثوا كثيرًا عن هذا البعث والانبعاث الباطني للنبي (ص)، ومن ثمّ سيلان ذلك الانبعاث في المجتمع، فهذه أبحاث أخرى.

حدث المبعث، فما خطّة عمله؟ أريد - أنا العبدَ - أن أعرض لهذا. تبيّن [هذا] في القرآن، وفي آيات مختلفة، ومنها هذه الآية الشريفة في سورة الجمعة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة، 2). هذه خطّة العمل. {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}؛ أول عمل هو فتح باب الارتباط بالغيب وبالألوهيّة: أن يُخرجوا الإنسان المادي الحبيس والأسير لإطار المادّة – لا يعرف شيئًا خارج المادّة ولا اطّلاع له عليه – من هذا الإطار ويدخلوه في فضاء المعرفة الربوبيّة الرّحب. هذا أوّلًا، أي الإيمان؛ الخطوة الأولى هي الإيمان.

بعد أن يخرج الإنسان من جدران الماديّة هذه المحدودة والضيّقة هناك، {وَيُزَكِّيهِمْ}؛ التزكية، وهي تعنى والارتقاء والتنمية برفع العيوب والنقائص، وإقصاء النقاط السوداء عن الشيء الذي يُراد تزكيته، وجعله حاضرًا ومستعدًا للرشد والنمو، وإيصاله إليهما. هذا معنى التزكية. فما ذلك الشيء الذي تنبغي تزكيته؟ ليست المسألة مجرد التزكية الأخلاقية للفرد؛ هذا المهم. التزكية تعنى إزالة القبائح والسيّئات، وإزالة الباطل عن باطن الإنسان وأخلاقنا الباطنية والمجتمع والعقيدة والعمل والسلوك ونمط الحياة. هذا معنى التزكية، أي حركة شاملة لإصلاح شؤون الفرد والمجتمع في الأبعاد كافة التي تشمل السياسة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وتهتم بصور الظلم في المجتمع، وكذلك بأنماط الظلم على مستوى العالم، وبما هو على مستوى الدول، وأيضًا آحاد الناس، وتنبذ الفوارق الطبقية، فالتزكية تشمل هذه الأمور كلها؛ {وَيُزَكِّيهِمْ}.

بعد أن تُطرح مسألة التزكية هناك التعليم. لا يعني ذلك أن هذه الأمور متعاقبة. لا، إنّما تدريجيةً: التزكية تدريجيّة، وإلى جانبها أيضًا التعليم. فما معنى التعليم؟ تعنى أنّه بعدما صار الذهن والروح جاهزين بإزالة الظلمات والنقائص والعيوب والباطل، والأرضيّة مستعدة، يحين الوقت عندئذ لتجلّي أنوار الحكمة والعلم الإلهي. إنّ مبحث الحِكَم الإلهيّة مبحث طويل وتفصيلي. في الحقيقة إنّ التزكية تغسل الأرضيّة، والتعليم يُثري الإنسان معنويًا ومن ناحية المعرفة وكذلك العلم، فيُبنى إنسان من الطراز الإسلامي، وتتحقّق التربية وفقًا لما يطلبه الإسلام من الإنسان ويريده من أجله. في هذه المواضع، تكمن مشكلاتنا الحالية جميعًا والإنسانيّة كافة.

ههنا تكمن نقطة أساسيّة هي أنّ هذه البعثة والتحوّل والتغيُّر والنشر للخير والجمال والضياء، وإزالة الظلمة والمصيبة والشقاء وما شابه، ليس دفعيًا، أي أن نقول: تحقّقت البعثة مرّة واحدة وانتهى الأمر، ومهما تحقّق بعد ذلك، فهو من نتائج البعثة الأولى. ليس الأمر كذلك، فالآية لا تقول هذا، إنما تقول: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ (3)} (الجمعة)، فهذه البعثة بين أولئك الناس كما هي بين الآخرين. هذه "الواو" واو العطف على "الأُمِّيِّين": بعث في الأمِّيِّين والآخرين. فمن أولئك "الآخرين"؟ هم الذين "لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ"، أي لمَّا يأتوا بعدُ، أي إنّنا إلى اليوم مخاطبو المبعث، وهو بيننا أيضًا، أي إنَّ النبيّ المكرّم للإسلام (ص) يمارس في هذا الحين نفسه تعليمنا وتزكيتنا، ونحن في هذا الحين نفسه مُخاطبون، مخاطبو البعثة. سيبقى هذا على مر تاريخ البشرية الأبدي، فالبشرية هي مخاطبة دائمًا لتعليم النبيّ الأكرم (ص) وتربيته وتزكيته.

وكما دعا النبيّ (ص) يومذاك الناس إلى الابتعاد عن الأصنام وكسرها، هذا الخطاب نفسه موجود اليوم أيضًا. كذلك إنّ أول صنم هو أنفسنا، صنم باطننا ونفسنا وأهوائنا، وبتعبير الإمام - رضوان الله المتعالي عليه - [إنها] ذاك الحيوان والكائن الحي الخطير الكامن في وجودنا؛ هذا الخطر الأوّل، أي إنّ أوّل صراع معه، فأقرب عدو منّا [أيضًا] هو نفسنا؛ ينبغي أن نحارب النفس، ومن ثمّ انحرافات الخارج، وأول عمل في ذلك إصلاح المنطقة الأقرب، [أي] مجتمعنا. يقول بعضهم: يا من تريدون إصلاح العالم، أصلحوا أنفسكم أولًا. اللّهم، بلى، ينبغي أولًا أن نصلح أنفسنا، وأن نصلح مجتمعنا. هذه مطالبة النبيّ المكرّم للإسلام (ص) وبعثة الإسلام لنا: أن نصلح أنفسنا أولًا، إذا ما صلحنا، وإذا ما قدّمنا إلى الإنسانيّة نموذجًا مُصْلَحًا على يد الإسلام، فهو نفسه يتمتّع بالجاذبيّة، ويجذب.

للتزكية والتعليم طرفان: طرف داعٍ وطرف مدعوّ. إذا كان الداعي حاضرًا وهو كذلك، إذ إن النبيّ (ص) يدعونا اليوم جميعًا، ولم يُجب المدعو، فلن يحدث أيّ شيء. إنّ ما حدث في ثورتنا كان تلبية المدعوّين. عرض الإمام [الخميني] الجليل كلام النّبي (ص) وبعثته للناس، وطالب النّاس بالنضال، فلبّوا أيضًا. انطلقت هذه الحركة العظيمة وأُنجزَ هذا العمل العظيم. ثمّ واصل شعبنا أيضًا - بتوفيق من الله وفضل من الباري - حركته في المسار الصحيح وجرى تحقيق نجاحاتٍ أيضًا، كما قصّرنا في بعض الأماكن ولم نوفّق.

هذه السُنّة مستمرّّة، وهي دائمة، فما دمنا نجيب دعوة النبيّ (ص)، تحدث تلك التزكية والتعليم، ويأتي ذاك النموّ والتقدّم. كما أنّ النموّ لا يقتصر على الروحي والأخروي. لا! "ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة"، أيْ نموّ الدنيا والآخرة، سعادة الدنيا والآخرة، أي بناء أنموذج لأفضل حياةٍ لدنيا الإنسان، دنيا المجتمع وآخرة المجتمع. فإذا ما استجبنا - نحن المدعوين - فإنّ هذا سيتحقّق. الداعي موجود، فالنبيّ (ص) يدعونا الآن. إنّنا أولئك الآخرون الذين {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}، فعلينا أن نستجيب. ينبغي لنا في يوم عيد المبعث، والذكرى السنوية للمبعث، أن نلتفت إلى هذه النقطة: نحن أيضًا موضع خطاب مبعث النبيّ المكرّم للإسلام (ص). فإن لم [نستجب]، فسيكون الأمر مثل تلك التتمّة للآية الشريفة: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} (الجمعة، 5)؛ لقد أعطوهم التوراة – كان النور في التوراة، وكذلك الحكمة والدعوة الإلهية، فقد كانت التوراة مجموع الأحكام الإلهية – ولم يعملوا [بها]، فإن لم نعمل أيضًا [بوصايا المبعث]، فسيكون الأمر كذلك: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}. هذا الموضوع عن المبعث، وقد عرضنا له.

أريد أن أقول هذا: إنّ العالم محتاج اليوم إلى هذه الدعوة والمبعث. ليست حياة سكانه جيدة اليوم. هنالك الآن مظاهر في قسم من دول العالم، [غير أنّ] هذه المظاهر لا تشير إلى سعادة تلك المجتمعات، ففيها أيضًا وعلى غرار جميع المجتمعات الأخرى هنالك الفقر والشقاء والتمييز والظلم وسحق الحقوق. إن الإنسانيّة اليوم أسيرةٌ في إطار المادّة، وهي بحاجة ماسّة إلى هذه التزكية والتعليم النبويين، والمبعث النبويّ. تقع على عاتقنا مسؤولية، وهي أن نبني أنفسنا ونظهر للعالم كيف تمكّن إدارة بلد ومجتمع إسلاميٍّ، فلنعمل بالمعنى الحقيقي للكلمة، كما أنّنا عملنا في مواردَ، وبحمد الله، ترك هذا آثاره في العالم. لدينا تقصيرات وكذلك نجاحات، بحمد الله.

فلأذكر جملة عن غزّة: مع الأسف، إنّ مصيبة غزّة مستمرّة. هذه المصيبة مصيبةُ العالم الإسلاميّ، بل أكثر من ذلك؛ إنّها مصيبة البشريّة. هي تثبت كم أن النظام العالمي الحالي نظام باطلٌ! أي إن جزءًا كبيرًا من القوى العالميّة اليوم يقف خلف الأيادي المجرمة والملطّخة بالدماء للكيان الصهيوني الذي لا يواجه المناضلين، إنما الأطفال والنساء ومرضى المستشفيات وبيوت الناس. أميركا تساند هؤلاء، وبريطانيا كذلك، ومعظم الدول الأوروبيّة أيضًا. هذه الحال مع أتباع هؤلاء أيضًا، [أي] إن الدول التابعة لهؤلاء تحذو حذوهم. انظروا إلى هذا النظام العالمي، إذ يُمكن إدراك بطلانه من حادثة غزّة هذه. هذا [النظام] ليس باقيًا ولا يُمكنه الاستمرار، وهو إلى زوال.

لقد فضحت أحداث غزّة الحضارة الغربية والثقافة الغربية في العالم، وأثبتت أن حضارة هؤلاء حضارة تشيع فيها القسوة، ومسموح بها. نرى أمام أعيننا أنّهم يقصفون المستشفى، ويقتلون في ليلة واحدة مئات الأفراد، ويقتلون خلال ثلاثة أشهر أو أربعة ما يُقارب ثلاثين ألف إنسان – غالبيتّهم أيضًا نساء وأطفال – في منطقة واحدة!

تقف أميركا وراء الكيان الصهيوني، والصهاينة أنفسهم يقولون هذا ويعترفون به. يقولون إنه لولا الأسلحة الأميركية، لم يكن في استطاعة الكيان الصهيوني أن يستمر في هذه الحرب ويواصلها حتّى ليوم واحد. تدفقت الأسلحة الأميركية إليهم منذ اليوم الأول، كلٌّ من المال والسلاح، وكذلك أنواع الدعم السياسي وأمثاله. هؤلاء مجرمون أيضًا وشركاء في المسؤولية عن هذه الحادثة المريرة.

يكمن الحل فقط في انسحاب القوى العالمية الكبرى والقوى الموالية للكيان الصهيوني من هذه القضية، والمقامون الفلسطينيون يعرفون كيف يديرون الميدان، مثلما أداروه حتّى اليوم، ولم يتلقوا ضربة جسيمة وشديدة، بحمد الله. الطرف المقابل للصهاينة هم الناس المظلومون والعُزّل، هؤلاء هناك.

إن ما يقع على عاتق الحكومات من مسؤولية هو قطع أنواع الدعم السياسي والإعلامي والتسليحيى والسلع الاستهلاكية عن الكيان الصهيوني. هذه مسؤوليتها. أما مسؤولية الشعوب، فهي الضغط على الحكومات لتؤدي ما عليها. ينبغي أن يحدث هذا، وبتوفيق من الله، سوف يغدو انتصار أهالي غزّة أكثر وضوحًا يومًا بعد يوم، إن شاء الله.

نأمل أن يشهد أهالي فلسطين المظلومون، وأهالي غزّة المظلومون، وسائر مناطق فلسطين، النصرَ، وأن يتمكّنوا من تركيع عدوّهم، إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

إقرأ المزيد في: خطاب القائد