#لواء_الثورة
ابن كرمان البار و"خادم" المستضعفين.. مقصد الزوّار
زينب حيدر
"قاسم سليماني" اسمٌ ممزوجٌ بالعطاءات العظيمة التي قدمها على مدى عمره الشريف، لن تمر بين أزقة كرمان، وخاصة قرية "قناة ملك" مسقط رأس الشهيد سليماني، بدون أن تسمع حكايا هباته وخدماته لأهله وأحبائه. يكثر الحديث ويمتد، ويأخذ من أرواحنا مأخذًا غبطةً لشهيدٍ لم تستقر به الأيام. فالحاج قاسم كان على الدوام ساعيًا في حوائج شعبه، كما في حوائج المستضعفين في بقاع الأرض المختلفة. قد نروي الكثير الآن، لكن ما تبقى من غموض هذا الجنرال هو الأكثر، الأعمق وربما يصعب على أمثالنا؛ الغارقون في آبار الدنيا الحالكة أن نفهمه. وهذا يتطلب منا أن نغض أبصارنا ولو قليلًا عن زخرف الدنيا الكاذب، لننصت بحواسنا كافة إلى المعلِّم الملهم، قائد قلوب جبهة المستضعفين الحاج قاسم سليماني.
ابن كرمان البار.. معين الأهالي ومثبت الأمن في أراضيهم ومقيم مجالس أهل البيت (ع)
يفتخر أهالي كرمان بابنهم سليماني، وينظرون إليه كشخصٍ يُعتمد عليه في أوقات الشدة قبل الرخاء. فهو الذي يزورهم ويتنقل بينهم، يسأل عن أحوالهم ويساعدهم عند الحاجة. كان أهالي كرمان يكتبون الرسائل ويرسلونها إلى الحاج قاسم طلبًا للعون، وكان هو بدوره سند هؤلاء الناس حيث عمل على حل جميع المشاكل التي طرحوها عليه. وفي قريته قناة ملك أسس ابن القرية البار ما يقرب إلى مؤسسة لأهل القرية والجوار، وأحصى عبرها المحتاجين، أو أولئك الذين تواجههم عقباتٌ معينة، وصار يقدم لهم المساعدات المختلفة شهريًّا، عبر منحهم المال أو حتى تأمين فرص العمل وما إلى ذلك.
لم يكن الدعم الماديُّ الحدَّ الذي يقف عنده الحاج، فهو الذي يعتني بعوائل الشهداء ويمسح على رؤوس أبنائهم. كما أنه وبعد انتهاء الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية، بادر إلى حفر الآبار في المناطق المحرومة في جنوب شرق البلاد، توسيع الأراضي الزراعية وجعل هذه المناطق خصبة ومتمكنة. إلى جانب ذلك، ثبت الشهيد سليماني الأمن والاستقرار على حدود سيستان وبلوجستان وفي الجنوب، حيث قضى حينها على أيدي المجرمين الذين كانوا يرهبون المواطنين، وعلى تجار المخدرات الذين تحولت مصادر أرزاقم إلى مصادر الحلال والكد وبالتعب، بعد أن جردهم الحاج قاسم من أسلحتهم وغرورهم، وبات الجميع في هذه المناطق مديونًا للحاج قاسم وتقديماته.
في الأيام الفاطمية، كان أهل كرمان يذهبون إلى "بيت الزهراء" وهو مكان تقام فيه مجالس أهل البيت(ع). بعد المجالس كان الشباب يخوضون الأحاديث مع الحاج قاسم، ويطرحون عليه مسائلهم وما يواجههم من مشكلات، فكان يحاورهم ويسعى لحل مسائلهم. يُذكر أن آخر مرة اتصل مسؤول بيت الزهراء الحاج "صدفي" بالحاج قاسم قبل ثمانية أيام من شهادته، ليخبره بأنه لا تزال هناك أعمال بناء في بيت الزهراء، فقال له الحاج قاسم: "حتى لو وضعنا السجاد على الأرض؛ ضعوا أوراق بلاستيك ضعوا السجاد، لنقيم مجالس أهل البيت (ع)". كما أن الحاج قاسم كان يجيب الحاج صدفي عندما كان يسأله عن مجيئه إلى المجلس: "ما شأنكم بي؟ أقيموا مجالس أهل البيت (ع)".
وببركة إصرار الحاج قاسم على إقامة مجالس أهل البيت (ع)، يتم الآن استخدام السجادة التي كانت مفروشة في مرقد الامام الحسين (ع) منذ ما يقرب المائة عام، والسجادة المباركة التي تم جلبها من مرقد السيدة زينب (ع) في بيت الزهراء. كما أن النافذة الفولاذية للمرقد القديم للسيدة رقية بنت الإمام الحسين (ع) محفوظة هناك الآن أيضًا. وهذا هو ديْدن أهل بيت رسول الله (ص)، الذين لم يتركوا لاجئًا طرق بابهم، مكسورًا، مقهورًا أو وحيدًا، بل يفيضون عليه بالخيرات والبركات إلى ما بعد رحيله عن هذه الدنيا، تمامًا كما حصل مع الحاج قاسم.
بعد شهادته.. لا يزال الحاج قاسم مقصدًا لقضاء الحوائج
"كلما نظرت إلى وجه الشهيد علي ماهاني، انجلى الهم عن قلبي"، لطالما قال الحاج قاسم هذه العبارة، وبات الآن كما كان الشهيد ماهاني، فالمرقد المطهر للشهيد القائد هو الآن ملجأ لقضاء حوائج الزائرين، ومحط رحال الشباب والمجاهدين الذين يبغون تجديد البيعة والعهد للسير على نهج الولاية.
يروي مسؤول جنة شهداء كرمان "الحاج محمد رضا حسني سعدي" أنه كان مرة يطالع كتابًا عن ذكريات الحاج قاسم في المنزل، فتعب ونام فيما كانت الأضواء في الغرفة مشتعلة. وإذا به يرى الحاج قاسم أثناء نومه يقول له: "انهض". فنهض الحاج حسني سعدي ليطفئ المصابيح ظنًّا منه أن الحاج قاسم أيقظه كي لا يُسرف في استخدام الأضواء بلا فائدة. وأثناء قيامه، لاحظ أن هاتفه الذي كان موضوعًا على وضع "صامت" يرن. فلم يجب وأرسل رسالة نصية للرقم المتصل ليراسله عبر الدردشة.
عندها أرسل شخصٌ ما قائلًا: "يا حاج أنا عند قبر الحاج قاسم، أنا، زوجتي وابني الصغير والجو باردٌ جدًّا، ألا يوجد مكانٌ لنقطن فيه؟ ما زلنا في الأيام الأولى من شهادة الحاج قاسم، وما زال الوقت مبكرًا حتى أربعينه". فأجابه الحاج سعدي حسني: "سأنسق الأمر لأجلكم، انتظروني عشر دقائق وسأكون في خدمتكم". ذهب إلى موقف جنة الشهداء في كرمان، حيث يوجد بالقرب منهم مكان جيّد يمكن السكن فيه.
أرسل الحاج رسالة مفادها أنه في موقف السيارات الخاص بجنة الشهداء، ليأتي ذلك الشخص وعائلته ويستدلوا بضوء السيارة. فجاء عقيدٌ برفقة عائلته والدموع متجمعة في عيونهم من شدة البرد. فسألهم الحاج: "ماذا حدث، من أين أتيتم؟"، فقال: "نحن مسافرون جئنا إلى هنا، وليس لنا مكان نقيم فيه، وقلت للحاج قاسم أمِّن لنا مكانًا لنبيت فيه، عوض أن ندور الآن الساعة الثانية بعد منتصف الليل بحثًا عن فندق. وأرسلتَ لنا رسالة بأنني في خدمتكم". فقال لهم الحاج: "نعم بالطبع الحاج قاسم العزيز يؤمن مبيتًا لزواره".
يروي رجلٌ من أهالي كرمان يبيع الحلوى، بأنه قصد قبر الحاج قاسم ذات يوم، وأخبره بأن وضعه المادي متعبٌ ويحتاج إلى مساعدته. ووعده بأنه إذا ما ساعده سيأتي قبره بجعبة مليئة بالمربى. وفي ظهر الجمعة التي تلت هذه الزيارة، أخطأت قافلةٌ من يزد مسيرها بعد أن أنهت زيارتها للحاج قاسم، وتوجهت نحو الشارع الذي يكمن فيه محلُّ ذلك الرجل، وإذا بأهل يزد، المعروفة بصناعة الحلوى، يقصدون الرجل ويشترون مختلف أنواع الحلوى الكرمانية وغيرها، بانتظار أخ أحد الشهداء الذي كان قادمًا ليدلهم على الطريق.
ويروي أمين گزستاني الخادم في جنة شهداء كرمان، مسؤول معراج شهداء كرمان ومنظم برنامج الـ 1:20 لكلِّ ليلة جمعة في مزار الشهيد القائد الحاج قاسم سليماني، أنه وبسبب التعب توجه إلى المنزل لينام قليلًا ونسيَ أن يطلب من رفاقه إيقاظه، كي يحيوا برنامج الـ 1:20 بتوقيت الحاج قاسم. فرأى گزستاني الحاج قاسم في عالم الرؤيا وهو يخاطبه: " انهض، انهض". فنهض وتذكر البرنامج، وهرع مسرعًا نحو مزار الحاج قاسم.
ولدى وصوله وجد قافلة يزدية كانت تنتظر قرب مزار الحاج قاسم، وقد نصبوا مشغل الصوت وتجهزوا. فقالوا له: " لقد تجهزنا وأعددنا أنفسنا لنحيي برنامج الحاج قاسم ليلة الجمعة، لكن لم يهتم أحدٌ لأمرنا." فأجابهم گزستاني: "كلا، إن الحاج قاسم يهتم لأمركم، والشهداء هنا هم الذين يقومون بكل الشيء والحاج قاسم مخرج هذا البرنامج. أما أنا فلست سوى شخصٍ ألصقت نفسي بهؤلاء الشهداء علي بذلك أكسب سمعةً حسنة".
نعم، إنها مواكب العشق تسير نحو الكرماني المجاهد، الذي أبى إلا أن يعود إلى دياره، ويُدفن قرب أحبابه الشهداء، لتعرفهم الدنيا وتدرك قدرهم. الشهداء الذين لطالما زارهم الحاج قاسم وطلب منهم العون والمدد، لم يكونوا جميعهم ممن قرأ عن العرفان وتعمق في العلوم الدينية، لكنهم عملوا بما علموا، فوصلوا. تمامًا مثل الشهيد قباد شمس الديني أحد أصدقاء الحاج قاسم، ذلك الراعي الذي كان يعلم أن الكذب حرام والغيبة معصية محرمة، فتجنبهما حيث قال: "لقد تركتُ كلَّ شيء لأكون ثابت القدم في الجهاد في سبيل الله". بهذه النماذج الوضاءة التي لجأ إليها الشهيد سليماني، وبحبه وعشقه للصديقة الطاهرة (ع) وصل الحاج قاسم سليماني إلى مبتغاه، الذي كان يعلم مكامنه وصورته النهائية جيدًا. فلقد تنبأ الحاج قاسم بأنه هو الشهيد رقم 1012 لجنّة كرمان، وزار قبره قبل شهادته وقرأ الفاتحة عنده، وأخبر رفيقه الحاج حسني سعدي الذي تعجب من مساحة قبره الضيقة قرب صديقه الشهيد حسين يوسف إلهي، بأنه سيعود بطريقة تجعل القبر مناسبًا له. هكذا هم الشهداء، يشعلون أرواحهم عشقًا وولهًا بالمحبوب، يركضون سعيًا لتحصيل رضاه ونصرة دينه، فينصرون دينه وينتصرون، ويعزُّ من يشاء.