#لواء_الثورة
عامان على اغتيال القائد سليماني: حضور السيرة والأهداف
علي عبادي
لماذا كان اغتيال اللواء قاسم سليماني ورفيق دربه أبي مهدي المهندس حدثاً استثنائياً؟ وما هي دوافع الاغتيال؟ وماذا تغيَّرَ في واقع المنطقة بعد عامين على هذه الجريمة؟
شكّل إقدام الولايات المتحدة الأميركية على تنفيذ هذه الجريمة بحق مسؤول عسكري ايراني رفيع، ومن ثم إعلان مسؤوليتها عنها، حدثاً فارقاً في المنطقة. لقد كان يعني بوضوح أن الادارة الاميركية فقدت أدوات التأثير والردع غير المباشرة أمام محور المقاومة، وباتت أحوج الى تبديل قواعد الاشتباك واستعادة عدّة الشغل القديمة التي تقوم على الإغتيالات والبلطجة.
لماذا سليماني تحديداً؟
يعود اختيار اللواء سليماني كهدف مباشر الى عاملين:
العامل الأول: فعالية الدور الذي أدّته قوة القدس بقيادته على مدى ثلاثة عقود من أجل تقويض الهيمنة الأميركية وطغيان الإحتلال الصهيوني. واكتسى هذا الدور أبعاداً مختلفة: تسليحية لأجنحة المقاومة، تدريبية، وتنسيقية. وقد أدرك الشهيد أهمية مواجهة نفوذ الولايات المتحدة السياسي، وليس فقط وجودها العسكري. من ذلك مثلاً أنه حرص على تتبُّع ونقض المشاريع والخطوات الأميركية الهادفة لإدامة التمركز في العراق، وكلما كان الأميركيون يحاولون تجميع خيوط أدواتهم السياسية في هذا البلد، كان القائد سليماني يقلب الميمنة على الميسرة، وكان حضوره عاملاً باعثاً على اضطراب وتضعضع تلك الأدوات والخطط. حتى اذا سمع بأن الأميركيين يؤيدون ترشيح فلان لمنصب رفيع في هذا البلد، بادر الى دفع الجهود في اتجاه آخر، لمعرفته بأن الأميركيين يريدون مصالحهم أولاً وأخيراً. وبالطبع، ما كان لهذا الدور أن يأخذ المدى الواسع لولا وقوف قيادة الجمهورية الاسلامية وأجهزتها المختلفة بكل قوة خلف قوة القدس في أداء مهامها.
العامل الثاني: الشخصية الفريدة للشهيد والتي تجمع خصالاًعدة من ابرزها:
1- وضوح المنطلقات العقائدية- السياسية للمدرسة التي يمثلها، وهي مدرسة الإمام الخميني (رضوان الله عليه) التي خرّجت الكثير من الكوادر والقادة الذين أصبحوا شهداء في الميدان في ايران او العراق او سوريا. ونعني بالمنطلقات العقائدية هنا الموقف الجذري من الكيان الصهيوني والسياسات الأميركية التي وصفها الإمام الراحل بأنها سياسات استكبارية. ومما يُشتهر عن الحاج قاسم أنه حين طلب قائد أميركي في العراق التحدث إليه لبحث إمكان التنسيق في الحرب ضد داعش، رفض فتح حوار معه.
2- الرؤية الاستراتيجية. تمتّع الشهيد سليماني برؤية شاملة اتجاه الصراع مع العدو الأميركي والإسرائيلي، وكان ينظر الى المنطقة من أفغانستان الى فلسطين وما بينهما كساحة عمل متكاملة وإن اختلفت ظروف بلد عن آخر. كان على سبيل المثال يعي تماماً أهمية إخراج الإحتلال الأميركي من المنطقة، وتحديداً من العراق وأفغانستان وسوريا، باعتبار هذا الوجود عامل عدم استقرار وسبباً للتدخل المباشر في تحديد مستقبل هذه البلدان وخطراً مباشراً على الجمهورية الاسلامية. كما كان جاداً جداً في تعزيز قدرات المقاومة ضد الإحتلال الصهيوني كمّاً ونوعاً.
3- الحضور الميداني. تميز الشهيد سليماني بأنه رجل الميدان. كان ذا ديناميكية خاصة، ولِعاً بالحضور في الجبهات بين المقاتلين للوقوف على طبيعة الوضع عن قرب ولشدّ أزرهم وتبيان أهمية معركتهم في هذه المحطات المفصلية. وهذا كان له الأثر الكبير في شحن العزائم وتركيز الجهود العسكرية والسياسية وتحقيق الانتصارات.
4- النموذج والقدوة. كان حريصاً على أن يضرب المثل في التعامل الأخوي والودي مع المقاتلين لإعطاء المعركة بُعدها الأخلاقي الحقيقي. فالجبهتان المتقابلتان لا تتمايزان بالقوة العسكرية او الموقف السياسي، بل بالقيم الروحية التي يحملها كل فريق وتترجَم بالسلوك الإسلامي المقتبَس من تعاليم أهل بيت الرسالة عليهم السلام.
5- المبادرة. صحيح ان اللواء سليماني كان قائداً عسكرياً، لكنه يتميز عن الكثير من القادة العسكريين بأنه رجل المبادرات؛ فلم ينتظر تلقي التكاليف، بل كان بحكم تجربته الطويلة وحسّه الثاقب يشخّص ما هو مطلوب ثم يتحرك بعد أن يأخذ الموافقة من القيادة العليا.
أهداف الاغتيال:
بعيداً عن الذريعة الاميركية التي سِيقت لتبرير عملية الاغتيال والتي تركزت على مزاعم بتخطيط الشهيد سليماني لهجوم وشيك على السفارة الاميركية في بغداد (اعتبرت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالإعدامات العشوائية والقتل خارج نطاق القانون أغنيس كالامارد أن قتل الجنرال قاسم سليماني كان "عملية قتل تعسفية" انتهكت ميثاق الأمم المتحدة، وان الولايات المتحدة لم تقدّم أدلة على أن التخطيط كان جارياً لـ "اعتداء وشيك" على مصالحها)، يمكن تحديد دوافع لهذه الجريمة والطريقة التي تمت فيها، كما يلي:
- بث الخوف وإحباط معنويات محور المقاومة (عبر أسلوب الترويع)، ومحاولة استعادة الردع في وجه ايران ودفعها للتراجع عن دعم حلفائها. وعبّر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو عن هذا الاتجاه في معهد هُوفَر بجامعة ستانفورد في كانون الثاني/ يناير 2020، في ندوة حملت عنوان "استعادة الردع: المثال الإيراني"، وأشار خلالها إلى أن “سليماني قُتل في إطار استراتيجية أوسع لردع التحديات التي يشكلها خصوم واشنطن"، مركّزاً بشكل خاص على ايران.
وقد تآكلت هذه الاستراتيجية على يد محور المقاومة في الفترة السابقة بفعل تراجع هيبة وحضور الولايات المتحدة في المنطقة، والذي تكرَّس بـ "لا إنجاز" تقريباً في كل المجالات. بينما كان محور المقاومة يتقدم ويحاصر الوجود العسكري والنفوذ الأميركيَيْن في العراق، ويدفع واشنطن الى التفكير بسحب قواتها من سوريا حيث فشلت في ترتيب أي مكاسب تسهم في تغيير الواقع فيها. وشكّل فشل حلفاء أميركا المدعومين منها في اليمن والعجز العسكري الأميركي المتراكم في أفغانستان وإخفاق الكيان الصهيوني في مواجهة المقاومة في فلسطين ولبنان أسباباً إضافية لتعتيم صورة سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
واعتبر الأميركيون في عهد ترامب أن جرأة محور المقاومة تتزايد مع الوقت، والأمثلة عديدة: الهجوم على منشأة بقيق النفطية في السعودية، إسقاط ايران طائرة أميركية من دون طيار يصل سعرها الى حوالي 130 مليون دولار، وارتفاع وتيرة العمليات ضد القوات الأمريكية في العراق.
- حَمْل ايران على الانصياع في شأن برنامجها النووي. وكان طموح ترامب يتمثل في إعادة صياغة الاتفاق النووي بشكل يراعى وجهة نظر حلفائه من اليمين الصهيوني.
- استعادة ثقة حلفاء اميركا في العراق والمنطقة. وقد تزعزعت هذه الثقة والرهانات على الولايات المتحدة بفعل تجارب السنوات الأخيرة، على رغم الإنفاق الاميركي الهائل في الجانب العسكري. وأدركت واشنطن أن إخراج قواتها مرة أخرى من العراق (بعد الخروج الأول عام 2011) يعني إفقادها التأثير السياسي الأكبر في هذا البلد ومحيطه. ولهذا حرص الاميركيون على إبقاء وجود عسكري فيه لتثبيت حلفائهم وأدواتهم.
- محاولة تعزيز صورة إدارة ترامب في داخل الولايات المتحدة وشدّ العصب ضد عدو خارجي (إسلامي تحديداً). ولهذا أهميته في ظل الاستقطاب الحزبي الداخلي الحاد في هذا البلد.
- هل كان اغتيال سليماني مطلباً اسرائيلياً أيضاً؟ قد يكون هذا من الدوافع الهامة وربما الأساسية في ضوء التأثير غير العادي لنتنياهو واللوبي الصهيوني على الرئيس الاميركي حينها. وقد عبّر دونالد ترامب مؤخراً – بعد نحو عام على خروجه من الحكم- عن استيائه من نتنياهو لاعتقاده أنه استخدمه لاغتيال سليماني، وقال – بحسب ما نقل موقع أكسيوس الإخباري الاميركي- ان نتنياهو "يرغب في محاربة إيران حتى آخر جندي أمريكي". كذلك كشف رئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلية العسكرية السابق تامير هايمان أنّ جهاز "الموساد" أدّىدوراً في اغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني، بحسب موقع إذاعة "كان" الاسرائيلية. ويمكن أن نخمّن السبب الذي يدعو العدو الى دفع الإدارة الأميركية للتخلص من قيادي رفيع بوزن سليماني، في ضوء الدور الذي يضطلع به على رأس قوة القدس لجهة تقوية أجنحة المقاومة ومدّها بأسباب القوة وردع الكيان الصهيوني.
الرد الاستراتيجي
كل هذه الدوافع والأهداف لم تغير في الحصيلة من واقع حال السياسة الأميركية في المنطقة. تأثرَ محور المقاومة لبعض الوقت باغتيال سليماني، لكنه حافظ على أهدافه وبرنامج عمله وهو ماضٍ في تنفيذ استراتيجية إخراج القوات الاميركية من المنطقة بدءاً من العراق وسوريا. ويمكن هنا استعادة ما قاله القائد الخامنئي في ذكرى شهادة قائد قوة القدس، عندما أكد أن "إخراج القوات الأمريكية من المنطقة سيكون الصفعة الأقوى" للرد على اغتياله، بعد الرد الأولي الجريء على الجريمة. كما تعهد بالإنتقام من المسؤولين عن إعطاء الأوامر وتنفيذ الاغتيال "كلما سنحت الفرصة". ودعا سماحته إلى تحقيق تقدم تكنولوجي وعلمي وعسكري متسارع لتعزيز قوة الردع ضد العدو، وهو ما يتبدى يوماً بعد يوم.
وبهذا، خابت توقعات واشنطن ومن يلوذ بها في أن يكون لغياب سليماني تأثيره على استراتيجية محور المقاومة خلال الفترة المقبلة. ومسارعة الولايات المتحدة لترتيب أوراق وجودها العسكري في العراق قبل مهلة نهاية العام 2021 مؤشر الى استمرار حضور وتأثير هذا المحور برغم كل الضغوط الجبارة التي بذلتها الإدارات الاميركية المتعاقبة.