معركة أولي البأس

#جماعة_82

09/11/2021

"أبو زينب": أيقونة من جيل 1982

زينب عبد الله

هو الذي اختار الفناء عند الحد الفاصل بين تراب جنوب لبنان المحرّر وشمال فلسطين المحتلّة. إنه الاستشهادي عامر توفيق كلاكش، المعروف باسم "أبو زينب".

كان عامر، شأنه شأن أترابه من المقاومين المخلصين، قليل الكلام كثير العمل. لم يكن يأبه بمصاعب الطريق بقدر ما كان يحدوه إيمان بالقدرة على إيلام المحتلّ، هكذا يتذكّره أخوه الأصغر، المقاوم والأسير المحرر رياض.

"واثق الخطوة يمشي ملكاً". بهذه الكلمات يصفه شقيقه، ثمّ يتابع قائلاً: "كان يحّبه الصغير والكبير، وكان معطاءً يبادر إلى مساعدة المحتاج، فضلاً عن اقتراحه الحلول لمشكلات أبناء قريته".

كان عامر ملتزماً وخلوقاً. تحدّثنا والدته الحاجة أم عادل كيف بدأ خطه الجهادي في عامه السادس عشر، عند انطلاقة المقاومة في العام 1982. وقد استطاع أن يبقي الكثير من أسراره طيّ الكتمان برغم كثرة العيون الخؤونة في قريته والقرى المجاورة. وكانت أخته الشهيدة نوال أيضاً مستودع أسراره وشريكة له في جهاده.

نوال هي الشابّة التي كان يقتادها جنود العدو للتحقيق في طريق عودتها من المدرسة، ويسألونها عن "أبي زينب". وفي مرّة قدّموا لها الشاي المسموم الذي أودى بحياتها في سبيل القضيّة نفسها. وبذلك أصبحت نوال ثاني شهيدة من عائلة الحاج توفيق كلاكش.

"أبو زينب": أيقونة من جيل 1982

عامر، الذي أوصى بعدم إعلان اسمه كمنفّذ لعملية المطلّة الاستشهادية إلا بعد تحرير الأرض، كان ذا إيمان راسخ بأنّ ذلك الهدف سيتحقق. يقول رياض إنّ ما كان يميّزه هو وبعض المجاهدين الآخرين هو أنهم كانوا مقدامين أكثر من غيرهم. وكثيراً ما كان عامر يحذّر أخاه رياض من تلقّي الأجر المالي مقابل عمله المقاوم، بل على العكس، كان دائماً يحثّه على التقديم من دون الحصول على أيّ مقابل.

في غرفة على أطراف المنزل، لا تتعدى قياساتها المترين طولاً وعرضاً، كان عامر يجتمع مع رفاق السلاح من بلدته والبلدات المجاورة. هناك كان يجتمع أكثر من 20 مقاوماً، يخططون ويدرسون خطواتهم المقبلة. وكثيراً ما كان العملاء يرصدون تحرّكهم هذا، فيبدأ أحدهم بالصراخ في أنحاء البلدة "حزب الله مجتمعين بالتخشيبة" كلّما دخل الشباب تلك الغرفة.

دمّر العدو "الإسرائيلي" تلك "التخشيبة" في حرب تمّوز/يوليو عام 2006، ولكن العائلة أعادت بناءها بشكل شبه تقريبي لما كانت عليه في أيّام "أبي زينب".

روحيّة عامر والجيل المؤسس لهذه المسيرة المقدّسة جعلت منه إنساناً كربلائياً بامتياز. وكانت قلّة عديدهم حافزاً أكبر لتحمّلهم مسؤوليات تتفوّق على طاقاتهم، بالمقياس المنطقي لا العقائدي. يقول رياض، الذي كان يتقاسم الفراش والوسادة مع الشهيد عامر، إنّه لطالما نصحه بالتراجع عن قراره بتنفيذ العملية الاستشهادية طالما أنّ العمليات المتفرقة التي يشارك فيها تنجح دائماً بقتل بعض الجنود "الإسرائيليين"، إلا أنّ عامر كان يخبره دائماً إنّه قد اتّخذ قراره النهائي متأسياً بشهادة الإمام الحسين (ع).

كان رياض أيضاً هو الذي أقلّه إلى مرجعيون في آخر مرّة غادر فيها المنزل إلى الطيبة، حيث أعدّ نفسه للعملية تحت إشراف الشيخ عبد الكريم عبيد. ظلّ يراقبه من بعيد، لكنّ الشهيد عامر أصرّ عليه بالعودة إلى المنزل. وهذه كانت خاتمة اللقاءات بين الشقيقين.
ومن أجل أن نَفِي الشهيد عامر ورفاقه بعضاً من حقهم، من أجل أن يُنصفهم التاريخ ولو قليلاً، كان لا بُدّ لنا من البحث في العمليات السابقة التي نفّذوها، واستطعنا معرفة تفاصيل عملية هامّة قام بها عامر ورفاقه بالقرب من مكان عمليته الاستشهادية، وبالتحديد قبل شهرٍ واحدٍ من تاريخها.

عملية 10 شباط/فبراير 1985
ذات ليلة باردة وممطرة من شباط/فبراير، وتحديداً في التاسع منه عام 1985، أعدّ عامر ورفيقه ياسر العدّة للعملية ما قبل الأخيرة، العملية التي سبقت عروجه بعد شهر تماماً. كان أخوه رياض ثالث أفراد المجموعة، وقد أوصلهما إلى النقطة المتفق عليها حيث أنزلا الألغام التي كانت بحوزتهما، على أن يعود ليقلّهما في الوقت المتفق عليه بعد الانتهاء من تنفيذ المهمة.

كان التاريخ هو التاسع من شباط، في يوم سبتٍ اعتاد جنود العدو فيه إخلاء المركز تماماً، لأنهم كانوا يسبِتون كلّ أسبوع، في يوم عطلة اليهود. أما المكان، فكان طريق سهل الخيام-الوزاني من الجهة اللبنانية، ومستعمرة المطلّة الصهيونية من جهة فلسطين المحتلّة.

"أبو زينب": أيقونة من جيل 1982

وبدأ المقاومان بتنفيذ الخطّة. كان في المنطقة المستطلعة قبل أيّام خندق يعود تاريخه إلى أيام الحرب العالمية. كان القرار أن يسلكاه حيث يؤدي بهما إلى عبّارة مياه قبالة المطلّة. على جانبي الطريق، حفرا بأيديهما وأزالا بعض الحصى عن جانبي الإسفلت قبل أن تمرّ دوريّة استطلاع صهيونية. توارى الرجلان في منطقة منخفضة من الطريق واتّفقا أنه في حال تمّ اكتشاف أمرهما فهما سيشتبكان مع العدو في مواجهة مباشرة.
وعلى هيئة تسديد إلهي، لم يلتفت أفراد الدورية لتلة الحصى المكوّمة، فأكملت الحافلة الصهيونية طريقها ولم يأت غيرها في تلك الليلة. أتمّ عامر وياسر المهمّة بسرعة، حيث زرعا عدداً من الألغام المخصصة للآليات وتحسّباً وضعا فوقها بعض ألغام الأفراد التي لا تحتاج لأوزان ثقيلة كي تنفجر. وعندما بقي بحوزتهما المزيد من الألغام، والكثير من الوقت المتبقّي قبل أن يعود رياض، اختارا تلغيم الموقع "الإسرائيلي" المحاذي بكامله وهذا ما حصل.

كان الموقع كبيراً، ولم يكن بحُسبان العدوّ أن يقترب أحد منه لأنه على الحدود تماماً. وضعا الألغام عند كلّ دشمة فيه وعند مدخل برج المراقبة. بعد ذلك، غادر المقاومان المكان وانطلقا إلى حيث اتّفقا على اللقاء مع رياض.
وعندما حلّ صباح يوم الأحد عادت القوافل والحافلات محمّلة بجنود الاحتلال. كانت الحافلة الكبيرة تتسع لنحو 27 جندياً يجلسون فيها متقابلين. وانفجرت ألغام الطريق بإحدى هذه الحافلات فتتطايرت أشلاء الجنود في الهواء. ثمّ مشت قوّة من جنود آخرين إلى الموقع حيث تتالت الانفجارات حيثما داست أقدامهم. تكبّد العدوّ "الإسرائيلي" في ذلك اليوم خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات وشنّ بعد تلك العملية موجة اعتقالات طالت عدداً من شُبّان البلدات المجاورة.
وكان ذلك اليوم أحد أيام الله التي استطاع فيها رجاله أن يلقّنوا المحتلّ درساً لا يُنسى في حبّ الأرض والوطن. هذا ما أخبرنا به كلّ من رياض وياسر.

المطلّة، 10/03/1985
بعد أسبوع من مغادرة عامر منزل العائلة في دبّين، كانت الحاجة أم عادل تدقّ اللحم على البلاطة أمام "التخشيبة" يوم الإثنين في 10 آذار/مارس عام 1985. أمّا رياض فكان يستعدّ لخروج طلاب إحدى مدارس مرجعيون الذين كان ينقلهم ليؤمن لقمة عيشه. دوّى الانفجار الكبير، فحمل رياض منظاراً كان بحوزته في السيارة، وصرخ: "الله أكبر"!
الأمّ والابن يعلمان الأمر. عاد رياض إلى المنزل فسألته الوالدة بهدوء: "ان شاء الله هو؟" فأجاب: "نعم". قالت الأم: "هنيئاً له"، ثمّ أكملت عملها. جبّارة هي بكلّ ما تحويه هذه الكلمة من معانٍ. "أمّ عادل" امرأة جنوبية دينها وديدنها ثابتان. كثير الوصف فيها قليل، كيف لا وقد أنجبت عظيماً اسمه "أبو زينب"؟! لا شكّ أنّه وُلِدَ بطلاً منذ اليوم الأول، فهو سليل امرأة فدائية وعائلة شريفة نذرت نفسها لخطّ مقاوِم أبت أن تحيد عنه.
أم عادل قبضت على جمر قلبها أكثر من عقدٍ ونصف عقد. لم تذبل زهرة فؤادها، ولم يمُت السرّ الذي عاشت وهي تخفيه عن الجميع.

فهي بعد مرور 36 عاماً على ذلك الفقد المشرّف، تخبر سيد المقاومة، سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله، الذي أعلن بعد تحرير الجنوب اللبناني في أيار/مايو عام 2000 هوية الاستشهادي على الملأ، أنّها على استعداد لتقديم بقية أبنائها إذا اقتضى الواجب. تستجمع كلّ قوةّ باقية بعد تعب تلك السنين الطوال لتقول له: "نحن كلّنا معك... إننا فداك...". كالجواهر الثمينة هي، كلّما اختبرتَ قوّتها تبهرك بذلك البريق، البريق الذي ينبع من أصالة روحها وروحيتها.

 

يوم الشهيد

إقرأ المزيد في: #جماعة_82

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة