#حصرم_نيسان
ملحمة حرب نيسان المظفر: هكذا أدار السيد ذو الفقار المعركة (2-2)
محمد أ. الحسيني
يقدم موقع "العهد" الاخباري رواية خاصة تتضمن بعضًا من دور القائد الجهادي الكبير في المقاومة السيد ذو الفقار "مصطفى بدر الدين" في مواجهة العدو الاسرائيلي عام 96 فيما عرف لاحقا بحرب نيسان والتي أسماها العدو "عناقيد الغضب" واستحالت حصرماً:
حين تولّى السيد ذو الفقار مهمة المعاون الأمني والعسكري لقائد المقاومة الإسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مطلع تسعينيات القرن الماضي، أجرى تعديلات أساسية على البنية العسكرية والتشكيلات التنظيمية للمقاومة، وأضاف سياسات جديدة إلى العمل الجهادي، ولم يعد الفعل الميداني مقتصراً على الجانبين العسكري والأمني وما يستلزمانه من جهد لوجستي وفني وتقني؛ فقد أدخل الحرب النفسية كواحدة من الركائز الأساسية في تشكيل معادلة الحرب.. ولا يتردّد السيد ذو الفقار في التأكيد على أن "ثمار العمليات العسكرية أيضاً تصبّ في الحرب النفسية في مواجهة العدو، ولا تتوقف هزيمته على المجالين العسكري والسياسي، فنحن معنيّون أيضاً بتحطيم معنوياته بالتوازي مع الطلقة والمدفع والصاروخ".
إعلان التعبئة وسرايا الاستشهاديين
وهكذا كان. في اليوم الثالث لعدوان نيسان 1996 يطلّ سماحة السيد حسن نصر الله ليعلن التعبئة العامة في صفوف حزب الله، ليترافق ذلك مع "فلاش" إعلامي لسرايا الاستشهاديين وهم يؤدون القسم أمام قائد المقاومة. يقول السيد ذو الفقار إن هذا الشريط المصوّر "وصل إلى مرأى الملايين في أنحاء العالم، كما كان له الأثر العميق لدى المستويات العسكرية والأمنية في الكيان الصهيوني، وتوقّفت عنده دوائر التحليل الأمني والعسكري والسياسي، ليس في كيان العدو فقط، بل في أروقة وغرف القرار في الدول المعادية والحليفة على حد سواء، نظراً لما تضمنه من رسائل مباشرة عن مدى جهوزية المقاومة في المواجهة، واستعداد المجاهدين لخوض حرب لا هوادة فيها، عنوانها أحد خيارين لا ثالث لهما: إما النصر أو الشهادة".
خط العرض 33
وفي اليوم الخامس يستمر القصف الجوي الإسرائيلي على بيروت، والجوي والبرّي على مناطق الجنوب، وتبدأ المقاومة الإسلامية الخطوة الثانية في الحرب النفسية، وتعلن إنذار خط العرض 33.. هنا يقف السيد ذو الفقار ليشرح على الخارطة المعلّقة على الحائط، ويستعرض شريط المستوطنات التي تنتشر على هذا الخط، بدءاً بنهاريا حتى أصبع الجليل، ويقول مازحاً: ".. على سيرة خط العرض، هنا تظهر أهمية أستاذ الجغرافيا في معرفة قيمة خطوط الطول والعرض". تبادل قادة المحاور الحاضرون الابتسامات فيما أخفى البعض منهم ضحكاته. ويستمر السيد ذو الفقار في استعراضه مجريات قصف الصواريخ التي زرعتها المقاومة على طول خط المستعمرات "وفي كل مرة كانت كريات شمونة عرضة للاستهداف والقصف، وهكذا أسقطنا معادلة بيروت - كريات شمونة".
خط العرض 32.5
حتى اليوم الثالث عشر كانت الحرب النفسية تلعب دورها في تعميق آثار المواجهة، وفي هذا اليوم تعلن المقاومة الإسلامية إنذار خط العرض 32.5، وهنا يعود السيد ذو الفقار ليقف قبالة الخارطة وراءه، ويرسم بإصبعه خط انتشار المستعمرات التي يتضمنها هذا الخط، ثم يلتفت إلى قادة المحاور ويتكلّم بلهجة الخطيب: "يا إخوان .. خط العرض 32.5 يعني أن مرمى صواريخ المقاومة أصبح يتجاوز مدينة حيفا"، ولكن هل هذا يكفي لتحقيق أهداف الحرب النفسية!؟ كلا، يقول السيد ذو الفقار، ثم يبتسم ابتسامة دهاء جميل، ويضيف: "هذه المرّة أدخلنا هذا الإنذار إلى عيون وآذان كل مستوطن في المستعمرات الإسرائيلية، ولم نكتفِ بعرض الإنذار باللغة العربية، بل عرضناه باللغة العبرية أيضاً لتوجيه رسالة مباشرة وواضحة إلى الرأي العام الإسرائيلي بأنكم أنتم الهدف القادم. وعندما نعلن الإنذار باللغة العبرية، فهذا يعني أننا دخلنا بهذا التهديد إلى داخل أماكن تواجدهم لنقول لهم إننا قادرون على ضربكم، وهذا يعني أيضاً أن أكثر من مئة ألف مستوطن بات في دائرة القصف والاستهداف".
إدارة عمليات الحرب.. والسياسة
بدأت الأمور تتبلور على المستوى السياسي بالتوازي مع جلاء تفاصيل الصورة على المستوى العسكري. في هذا الوقت كان سماحة السيد نصر الله قد انتقل إلى دمشق ليتابع مجريات التسوية السياسية، فقد أذعن الأمريكي كما الإسرائيلي إلى الواقع الميداني المستجدّ بموازاة تخفيض العدو سقف أهدافه، وحصرها بالتوصل إلى وقف المقاومة إطلاق صواريخها. وسعياً لامتلاك أوراق القوة على طاولة التفاوض، صعّد الاحتلال اعتداءاته في الأيام الثلاثة الأخيرة للعدوان ليضيّق الخناق على حركة المقاومين. في شرح هذا السياق، ينظر السيد ذو الفقار إلى الكرّاسات أمامه، ويفتح أحدها. يقرأ قليلاً ثم يغلقه ويعدّل نظارته على وجهه، ويقول: "لنتحدّث بكل وضوح وصراحة.. نحن لم نكن نواجه عدوّاً سهلاً، بل جيشاً مدرّباً بأعلى مستويات التدريب العسكري والنفسي، ومزوّداً بالأسلحة والعتاد والآليات العسكرية الجوية والبرّية والبحرية والتجهيزات التقنية والإلكترونية الأكثر تطوّراً في العالم، ولا نخفي أنه خلال الأيام الأخيرة للحرب استطاع الإسرائيلي أن يحكم السيطرة على الحركة الميدانية للمجاهدين بنسبة 85 بالمئة، وأصبح كل شيء صعباً جداً على الأرض، وفي ظل هذه الظروف كنا نتواصل مع سماحة الأمين العام لنضعه في الأجواء، وكنّا نشعر أنه كلّما ضاقت بنا الأمور يأتي موقفه الصارم والحاسم.. لا تهدؤوا، اقصفوا، ولا تجعلوا الإسرائيلي يرتاح، وتنطلق الصواريخ".
كسر العنفوان الإسرائيلي
نجح المجاهدون في ابتداع طرق ميدانية جديدة، وعبر آليات معقدة، ولم ينقطعوا أبداً عن تأمين طرق الدعم والتواصل، وعلى الرغم من القصف والرمايات والحواجز والمعوّقات، كان هناك طواقم تعمل على مدار الساعة بدون انقطاع، وعلى اتّساع المناطق اللبنانية من الشمال والبقاع إلى بيروت والجنوب، بهدف تأمين الإمداد العسكري لمجموعات المقاومة، وقرأ الإسرائيلي هذا المعطى من جانبين، وفق ما يوضح السيد ذو الفقار، "الجانب الأول هو قدرة المقاومة على تأمين الدعم المتواصل حربياً وبشرياً، وهذا يعني ميدانياً أن الضغط بالنار، وقطع معظم الطرقات بين القرى، وقصف الأهداف المتحركة من سيارات ووسائل نقل، وتوالي الغارات الحربية والمروحية، كل ذلك لم يفلح في وقف خط الاتصال والتواصل مع ساحات المواجهة، وهذا بحد ذاته إخفاق عسكري واضح، أما الجانب الثاني فيدخل في إطار الحرب النفسية، فتخيّلوا الجندي الإسرائيلي ومن خلفه قادة جيشه ومسؤوليه كيف يشعرون وهم يرون هذا الإخفاق، ولا يعلمون ماذا يفعلون للحدّ من العمليات والهجمات والقصف على مواقعه ومستوطناته. إن المقاومة لم تهزم القدرة العسكرية فقط بل كسرت عنفوان العدو، وأسقطت شعوره بالتفوّق..". يأخذ السيد ذو الفقار نفساً عميقاً ويضيف: "يا أإخوان.. هذا العدو على مدى 16 يوماً من الحرب وعلى مدى انتشار مناطق المواجهة، لم يستطع أن يصيب إلا منصة إطلاق واحدة.. واحدة فقط، ولم يكن لينجح في تدميرها لولا أن الأخ الذي كان مسؤولاً عنها أخذته الحماسة، وخالف التعليمات وواصل إطلاق الصواريخ، وهو يعلم بوجود طائرات الاستطلاع والمروحيات في الأجواء، وهنا تأتي أهمية الانضباط بالأوامر".
خلاصات الحرب
يستجمع السيد ذو الفقار أوراقه ليلخّص النتائج والعبر، ويحدّد الخلاصات تبعاً للأهداف التي وضعها العدو في بداية العدوان، وحدّدها كالتالي:
1. ضرب بنية حزب الله: لم يستطع العدو تدمير بنية المقاومة الإسلامية، وبقيت متماسكة وأثبتت قوتها على مستوى الإسناد الناري وإرساء معادلة الدرع الصاروخي، واستمرت أجهزة حزب الله بالعمل في المجالات الأمنية والسياسية والاجتماعية والإعلامية، وكان زخم العمليات العسكرية يتصاعد في كل يوم، ولم يفلح العدو في قتل أي من التشكيلات القيادية الأساسية والثانوية، كما لم يستطع طوال أيام العدوان سوى تدمير منصة إطلاق صواريخ واحدة، دون أن نغفل الخبرات الجديدة والكثيرة التي اكتسبها المقاومون على مستوى التخطيط والحركة العملانية والميدانية.
2. فرض معادلة جديدة على المستوى العسكري: أسقطت المقاومة الإسلامية معادلة كريات شمونة – بيروت، واستطاعت تكريس معادلة توازن الرعب، وكان لديها اليد الطولى في تحديد مجريات الحرب.
3. إسقاط تفاهم تموز 1933: أدّت نتائج الحرب وإجادة استثمارها سياسياً إلى توقيع اتفاق مكتوب سمّي تفاهم نيسان، بدل الاتفاق الشفوي في تموز، من شأنه أن يكبّل يد العدو في استباحة الأرض اللبنانية، ومن أهم مفاعيله فك الحصار البحري عن المرافئ اللبنانية والصيادين اللبنانيين، وتثبيت حماية المدنيين، والإنجاز المهم في هذا الاتفاق أنه جاء بإقرار دولي بحق المقاومة في استخدام الوسائل المتاحة لتحرير الأرض اللبنانية المحتلة.
4. تعويم شيمون بيريز انتخابياً: أدت الحرب إلى إسقاط بيريز، وحصول انقسامات بين المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية ودوائر القرار الرسمي الإسرائيلي، التي تراشقت الاتهامات بالتقصير والخطأ في التقديرات الأمنية والعسكرية، وتحمّل مسؤولية الفشل والهزيمة في هذه الحرب.
5. إيجاد شرخ بين المجتمع اللبناني والمقاومة: ساهم العدوان في تعميق العلاقة بين الناس والمقاومة، بحيث التف الشعب حول خيار المقاومة وأصبح عنصراً إضافياً في معادلة المقاومة.
ينهي السيد ذو الفقار خلاصاته في استعراض النتائج والعبر، ويمضي في كلامه متهكّماً على العدو وحكومته، ويتوقف عند البند الأخير مبتسماً.."كان العدو يظن أنه في هذه الحرب سيخلق شرخاً بين المقاومة والناس، ولكن حقده انقلب عليه. وأروي لكم حادثة حصلت مع أحد الإخوة كان يحمل صندوق تبرّع للمقاومة فتوقفت قربه امرأة سافرة تقود سيارة رانج روفر.. ارتبك الأخ، فبادرته المرأة بالسؤال: كم يبلغ ثمن صاروخ الكاتيوشا؟ زاد ارتباك الأخ، وأعادت عليه السؤال بإلحاح، فأجاب متردّداً: ثمنه ألف دولار.. فتحت المرأة حقيبتها وبدأت تعدّ الأموال بين يديها والأخ لا يصدّق ما يرى، وقالت له: هذه 14 ألف دولار، اشتروا بها 14 صاروخاً وأطلقوها باسمي على إسرائيل..".
من تموز ونيسان إلى أيار
بين 23 و31 تموز 1993 سبعة أيام من العدوان، شنّ الاحتلال حرباً على لبنان، أسماها رئيس حكومة العدو آنذاك اسحق رابين "تصفية الحساب"، وانتصرت المقاومة الإسلامية وسقط رابين. وبين 11 و26 نيسان 1996 ستة عشر يوماً من العدوان في حرب أسماها رئيس حكومة العدو آنذاك شيمون بيريز "عناقيد الغضب"، وجدّدت المقاومة الإسلامية الانتصار وسقط بيريز، ولم يفلح التسلّح بالأميركي والغطاء العربي شبه الكامل في أن يكسر شوكة المقاومة، بل شكّل هذان الانتصاران منعطفاً أساسياً ترك تأثيره البالغ في رسم تفاصيل المرحلة التالية التي قادت إلى إنجاز التحرير في أيّار من العام 2000.
ملحمة حرب نيسان المظفرة: كيف قيّم السيد ذو الفقار نتائج الحرب واستراتيجيات العدو والمقاومة؟ 1/2