يوم الشهيد
أخفَى أولياءهُ بينَ عبادِه: "أبو حسَن الحكايَة"
محمد حسين خازم
لعلَّ أشرف شيء يفعلهُ المرء في حياته أن يكتُبَ عن شهيد، فكيفَ وأنت تكتبُ عن شهيدٍ قلَّ نظيرهُ، عاشَ بصمتٍ وهاجرَ بصمت كطيور النورس التي تحطّ على الشاطئ ثمَ تهجرُ نحو السماء؟
"أبو حسن باز" أحد طيور النورس التي لم تجِد من دُنياها إلا ما تتزود فيه لآخرتها. دخلتُ عالمه من نافذة عائلته. حينَ تجلسُ في حضرة الشهادة لا تخرجُ منها كما دخلت. فكانَ لقائي مع حسن بضعة الشهيد أبو حسن والمقرون باسمه.
يحكي حسَن عن والده النموذج، المولود في مشغرة عام ١٩٦٩، والتي عاشَ فيها ٦ سنوات قبلَ أن ينزح وأهله إلى منطقة معوّض في الضاحية الجنوبية. "علي" الفتى المؤثر في محيطه باكرًا وجدَ في ميادين الهُدى بيته. فلاذَ بمسجد الإمام الرضا (ع) في بئر العَبد مع إخوةٍ له ونهلَ من الحلقات القرآنية التي تشكلَت من هُداها مجموعات المقاومة الإسلاميّة الأولى. و"علي" ابنُ ١٤ عامًا كانَ نواةً مع بقية اخوانه من الشُهداء لفصيل "الفَجر" مثل أحمد مَهدي وفريد بزّي ونزار عودة والشُهداء من آل حدرج وابراهيم علويّة.
في يوميّات علي، بدأت عبارة "شهيد" تلتصقُ بأسماء رفاقه، فمشى مشيعًا يوسف حدرج ولاطمًا على رحيل نزار عودة. روحهُ ما غابَ عنها قُدامى الرفاق حتّى ساعة الوصال. وتلاهُم "الدحنونان" محمد وأحمد حجازي وعقيل أيوب وحسين غدّار "مسعف" وتطولُ القائمة.
قامَ عليٌّ لمحراب جهاده باكرًا، فعلى صغر سنّه شاركَ في "بدر الكُبرى" و"علمان الشومرية" التي مسّت روحه وقلبه، فميدون ملحمة العشق التي أذاقت الصهاينة مرارة الذل.
يتذكرُ حسن حينَ جاء الشهيد ملَاك "صلاح غندور" لوداع رفيق جهاده أبو حسن قبل المضي في الرحلة الأخيرة ولقاء الله إربًا إربًا في بنت جبيل. كانَ ملاك كثيرَ الابتسام والبهجة، وكانَ العناق الأخير.
في تفاصيل قلبِ "أبو حسن"، يتحدثُ حسن عن علاقته بالرفاق الأوائل، حينَ كان يُمسك بيده طفلًا ويأخده إلى روضتي الشهيدين والرادوف، يسلّم عليهم فردًا فردًا، يعرّفه عليهم، ويسألُ عن حالهم.
لم يكسرهُ الفراق بل اشتدَ عزمًا، وبدأت ملامحُ القيادة تظهر فيه، فأكمل مسيرة جهاده في مقر عشَّاق الشهادة أو ما يُعرف بثكنة "حي ماضي". وبعدَ اقفالها أكملَ عملهُ مستقطبًا ومرشدًا للشباب نحو الله وحزبه.
لم يغادر أبو حسن ميدان الحياة، فسعى لتأمين قوت يومه بالعمل في مصنعٍ للحلويات. عاشَ بهذا الاطمئنان ونقاء القلب هذا وهوَ الذي لم يفوّت عرضًا ليوم القُدس العالمي منذ الانطلاقة مشاركًا كانَ أو مدربًا للسرايا.
جمعتهُ علاقة طيّبة بالشهداء القادة الحاج عماد مغنيّة الذي أشارَ اليه في وصيته "لقد ضاقت بنا الدُنيا من بعدك!"، والشَهيد السيّد مُصطفى بدر الدّين الذي كانَ يرى فيه جبلًا، فكلما حصلت مشكلة في مكانٍ ما يقول "بحِلها".
وبزغَ فجرُ الدفاع المقدّس. التحقَ الطائرُ بالجبهة أواخر ٢٠١١، وفي حمص تعرَّف على من يرى فيهم رفاقَ الجهاد الأول مثل حمزة حيدر، وحسام دعموش، وحسام محمد علي "أبو علي الحر"، و"أبو علي مهدي" سلوم. وكلهُم استشهدوا قربه. وقد هوى حسام دعموش بين ذراعيه، وأعاد جثمان "أبو علي الحر" من أيدي المسلحين.
دقَّت ساعة الرحيل، وجهةُ القلب صحراءُ كربلاء البادية. شمَّ رائحة الجنة مرةً أُخرى بعد أن شمَّها جريحًا ثم عادَ للميدان على عُكازه مكسور الأضلاع. ورأى نورَ مصباح الله في "الشومرية". "الشومرية" التي عادَ اليها بعد أن هجرَها قبلَ ٣٠ عامًا. قلبهُ لهفَ للاسم حيثُ قال لأحد المجاهدين "سألتقي برفاقي هناك". لم ينم أبو حسن تلك الليلة خوفًا من أن يغلبهُ النوم فيُحرمَ اللقاء الذي شغفَه. وكانَ صباحُ الخامس عشر من شعبان الموعد.
عرجَ مُحمدٌ (ص) إلى ربه ممتطيًا البُراق، أما كبيرُ جنده فعرجَ بعبوة كانت شظاياها مسكّنًا لألمه الطويل. لقد عادَ النورسُ إلى موطنه الأصلي، وعانقَ "ملاك" ومن سبقهُ، أطالَ العناق جدًا صائمًا مجاهدًا.
إقرأ المزيد في: يوم الشهيد
11/11/2021
والدة الشهيد محمد تامر وآخر اللحظات مع ابنها
11/11/2019
علي سلمان: درعُ السيد وشبيهه
11/11/2019