نصر من الله

مقالات مختارة

حرب الاستنزاف منذ «طوفان الأقصى»: النظرية "الإسرائيلية"
12/12/2024

حرب الاستنزاف منذ «طوفان الأقصى»: النظرية "الإسرائيلية"

حسام مطر*- صحيفة "الاخبار" 

اتّخذت المواجهة بين محور المقاومة وكيان العدو منذ 7 أكتوبر طابع حرب الاستنزاف. ويشخّص الصهاينة أن إيران تدير وتشارك منذ سنوات في استراتيجية استنزاف وجودي متعدّد الجبهات لكيانهم وتحقق نجاحاً تراكمياً كبيراً، وهو ما يجب وضع حد له وفق استراتيجية النصر التي حدّدها نتنياهو. مثّلت حروب الاستنزاف تحدّياً جوهرياً للجيوش النظامية التي تنخرط في قتال مع قوى غير نظامية. ومن هذا المنطلق اختار الباحث في «مركز بيغين-السادات للدراسات الاستراتيجية» آفي كوبر، فحص تسع حروب استنزاف إسرائيلية منذ الخمسينيات حتى حرب عام 2006 للخروج بنموذج للاستنزاف ضد أعداء إسرائيل.

أولاً: طبيعة حرب الاستنزاف

تتضمّن كل حرب استنزافاً، لكن ما يميّز حرب الاستنزاف هو الطبيعة التدريجية لتقويض القدرات (أفراد ومعدات وأصول) وإرادة القتال على مسار زمني ممتدّ، على أن تكون هذه هي السمة الأساسية للحرب. يمكن أن تقع حرب الاستنزاف (عمدتها المناورة بالنيران) في مقابل الحرب التقليدية الخاطفة (مركز ثقلها في المناورة البرية) التي تسعى لأقصى قدر من المنجزات في وقت قصير جداً، فيما تستخدم حرب الاستنزاف مدة الحرب بهدف الإنهاك المادي والمعنوي المُتدّرج للعدو. المعيار الرئيسي للنجاح في حرب الاستنزاف هو المتانة أي المرونة والتكيّف والتحسّن أثناء القتال.

قد تبدأ الحرب على شكل حرب خاطفة تهدف إلى الحسم وتتحول إلى حرب استنزاف (كما حال الحرب الحالية في أوكرانيا) أو تتحول حرب الاستنزاف إلى حرب خاطفة (كما حصل في لبنان بعد 23 أيلول 2024) إمّا بدافع يأس أحد الطرفين أو بسبب ثقته المتزايدة بتحقيق الحسم. في خمس حروب استنزاف من أصل تسع فقد الكيان صبره وشن هجمات واسعة النطاق. وحرب الاستنزاف إما تكون استراتيجية مخطّطة (للهجوم أو الدفاع، من القوي أو الضعيف) أو تتطور بذاتها نتيجة الإنهاك أو لتجنّب المناورة البرّية لتقليل الخسائر البشرية أو لتجنّب التصعيد.

يتكوّن هرم مستويات الحرب من أربع طبقات: الاستراتيجي الأعلى، الاستراتيجي، العملاني والتكتيكي. تتركّز حرب الاستنزاف في قمّة الهرم، أي الاستراتيجي الأعلى (المجتمع والاقتصاد)، وقاعدته أي التكتيكي. تنعكس المنجزات أو الإخفاقات التكتيكية غالباً في المستوى الاستراتيجي الأعلى، وعليه يمكن أن يولّد التوظيف المحدود للقوة أثراً يتجاوز الميدان نحو اقتصاد العدو ومجتمعه (هذا عادة ما تحاول قوى المقاومة تنفيذه). من ناحية ثانية، يمكن للاستنزاف أن يحقّق حسماً ميدانياً (عادة ما يكون في نطاق ضيق وعبر النقاط) من خلال مراكمة الخسائر لدى العدو، ما يضعف دافعه السياسي للعنف ويوقف القتال (هكذا خسر العدو حرب لبنان 2006). لكن قد يؤدي العجز عن الحسم الميداني عبر الاستنزاف إلى الانتقال نحو الحسم الاستراتيجي الكبير عبر استخراج ثمن اجتماعي واقتصادي وسياسي ثقيل لا يمكن احتماله (هذا ما يحاوله العدو في غزة).

ثانياً: الاستنزاف سلاح القوي
عرض كوبر عام 2009 مقاربة تخالف الاعتقاد السائد بأن الديموقراطيات الغربية، ويصنّف إسرائيل من ضمنها، مفادها أنه يمكن لهذه الدول أن تنتصر في حروب الاستنزاف وتجنّب الأثمان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبيرة، ولذا لم تعد هذه الحروب خيار الطرف الأضعف فقط. ويتحدث كوبر عن نموذج حرب الاستنزاف في حقبة «ما بعد البطولة» التي تفرض على القوى الديمقراطية الحديثة تقليل عدد القتلى في صفوفها وعدد القتلى المدنيين في صفوف العدو.
تستند أطروحة كوبر حول قدرة الكيان الصهيوني على النجاح في شن حرب الاستنزاف ضد القوى غير النظامية إلى المتغيّرات الآتية: (1) أصبحت هذه القوى خطراً وجودياً (أي هناك مصلحة على المحك) وهو ما يوفّر التماسك الاجتماعي المطلوب لمواجهتها وبالتالي احتمال الأثمان؛ (2) أصبح من الممكن بفعل التكنولوجيا الجمع بين الأخلاق والفاعلية العملانية عبر نموذج «ما بعد البطولة» (أي تراجع تأثير شجاعة الأعداء) ما يحفظ له الشرعية الداخلية والدولية؛ (3) أصبح الاقتصاد الإسرائيلي أكثر ازدهاراً (بسبب نمو قطاع التكنولوجيا، والمساعدات الأميركية، والقدرة على خفض الإنفاق العسكري وهذا تغيّر الآن) وأقل مركزية، ما يمنحه مرونة كافية للصمود لفترات أطول؛ (4) التقدّم التكنولوجي الذي يتيح فرصاً جديدة عسكرياً وأمنياً. وفي المقابل، فإن القوى غير النظامية تتسم بنقاط ضعف عديدة أمام الاستنزاف: (5) الاهتمام المتزايد برفاه مجتمعاتها؛ (6) تزايد المأسسة لقوتها العسكرية والسياسية والمجتمعية، ما يسهّل استهدافها؛ (7) الحذر المتزايد للحكومات التي تستضيف قوى غير نظامية. ويلاحظ كوبر أن محاولة منظمة ضعيفة تجاوز نموذج الغوار إلى نموذج جيش نظامي لمواجهة عدو نظامي متقدّم وقوي في الحرب النظامية والكلاسيكية عادة ما تنتهي بالفشل.

ثالثاً: مؤشرات نجاح الاستنزاف
استخرج كوبر مؤشرات لقياس نجاح حرب الاستنزاف (موزّعة على 5 موضوعات) سنعتمدها لفهم واقع حرب الاستنزاف الإقليمية الحالية.
1. الأبعاد العملانية: وهي تشمل تقويم الإجراءات الدفاعية والهجومية لناحية ما تحققه من نتائج. يبدو كيان العدو قادراً على الدمج بين النيران الدقيقة والاستخبار المعزّز بالتكنولوجيا لشن هجمات جوية واسعة وبعيدة ومتعددة الجبهات. لكنه في هذا الإطار يعاني من عدم مرونة في أنواع من الذخائر في حال انخفض الدعم الغربي. أمّا في المناورة البرية، فالعدو دمج بشكل فعّال بين الأذرع وتقدّم داخل مسارح قتالية معقّدة. إلا أنه في المقابل عانى من ضغوط على عديد قواته البرية المحترفة والإنهاك الذي لحق بالاحتياط ولا يزال يبدي حساسية عالية تجاه الإصابات البشرية. في الشق الدفاعي أظهرت منظومة الدفاع الصاروخي الإسرائيلي كفاءة عالية مع الهجمات المحدودة لكنها تتراجع بشكل ملحوظ بوجه الموجات الكبيرة التي تتضمن صواريخ متقدّمة وهو ما ظهر بالحاجة المتكررة إلى المظلة الدفاعية الأميركية أثناء الهجمات الإيرانية.
2. قوة تماسك المجتمع وفيها خمسة مؤشرات للجانبين المادي والنفسي. في الجانب المادي هناك مؤشران هما (ا) الأداء الاقتصادي خلال الحرب (نمو الناتج، البطالة، التضخم، الاستثمارات الأجنبية، البورصة، قيمة العملة المحلية، الإنفاق العسكري، أداء القطاعات الاقتصادية)؛ (ب) معدّل الإصابات (في كيان العدو كلما تركّزت الكلفة في الضواحي في الوحدات القتالية التي يغلب فيها انتماء أفراد من الطبقات الدنيا، يكون التقبّل أعلى). تجمع التقارير على أنه مع نهاية السنة الأولى من الحرب واجه الاقتصاد الإسرائيلي تحديات غير مسبوقة (منها هجرة نخب قطاع التكنولوجيا) بسبب الإنفاق العسكري وتراجع الإنتاج والإغلاق في قطاعات واسعة واستدعاء الاحتياط والحظر البحري اليمني. وفي حال استمرار الحرب وتوسّعها فإن الاقتصاد الإسرائيلي سيدخل في سنوات من التضخم والركود وضياع الفرص. أمّا معدل الإصابات لناحية أعداد القتلى، فبقي تحت السيطرة، على عكس الأعداد الكبيرة للمصنّفين ضمن الجرحى والمعوّقين. مع العلم أن حساسية العدو تجاه الإصابات «المدنية» في صفوفه قد أصبحت مضاعفة بعد السابع من أكتوبر. أمّا مؤشرات الجانب النفسي الذي ينعكس في مدى الانحراف عن النمط الطبيعي للحياة الاجتماعية، فهي: (ا) الانحراف عن الأنماط السابقة للاستهلاك، (ب) نزوح واسع من مناطق الهجمات (كما حصل في شمال فلسطين المحتلة)، (ج) الاحتجاجات المعادية للحرب والضغط العام على الحكومة لأجل تسوية سياسية تنهي الحرب، وهو ما يجري بشأن مطلب وقف الحرب في غزة وإعادة الأسرى. ولذلك يسهم وجود حكومة وحدة وطنية إسرائيلية خلال حروب الاستنزاف في رفع احتمال النجاح لما تولّده من إحساس قوي بالتضامن الاجتماعي، والعكس صحيح.
3. العبء الاقتصادي (سبق ذكره)
4. الأبعاد الأخلاقية وتشمل (أ) الأسباب القانونية والأخلاقية لشن الحرب (مثل الدفاع عن النفس)، (ب) الالتزام بالمبادئ والقوانين في شن الحرب (الاستخدام التمييزي للقوة، والتناسبية). ويمكن القول إن الكيان حافظ على مستوى من المشروعية في نظر الغرب في الأسابيع الأولى من 7 أكتوبر ولكن من بعدها عانى من خسارة تامة في البعد الأخلاقي في أصل شن الحرب وفي كيفية شنها مع الاستهداف الممنهج للمدنيين. وهو ما تعزّز مع صدور قرارات التوقيف من محكمة الجنايات الدولية.
5. إدارة الصراع ومخرجات الحرب وهي تشمل (أ) النجاح في التحكّم بالتصعيد، (ب) النجاح في ردع العدو منعاً وعقاباً، (ج) المنجزات السياسية والميدانية (حسم في ميدان المعركة)، (د) الحسم الاستراتيجي، (هـ) النصر (تحقيق أهداف الحرب) والمنجزات الطويلة الأمد. مع بلوغ «حرب النهضة» ذروتها يسعى نتنياهو للربط بين المنجزات الميدانية والاستراتيجية ومفهومه للنصر وهي مسألة ما زالت موضع انقسام داخل كيان العدو. وهو ما يؤكد ملاحظة كوبر نفسه من أن المعضلة الرئيسية في حرب الاستنزاف هي الفجوة بين إدارة ناجحة للصراع والمكاسب السياسية، أي كيف تحوّل المنجزات في الميدان إلى وقائع سياسية بعيدة الأمد؟ وبحسب الكاتب فقد حقّق الكيان مكاسب واضحة بعيدة المدى في واحدة فقط من حروب الاستنزاف التسع.

خاتمة
تحتاج قوى المقاومة بدورها إلى تقييم نموذجها للاستنزاف في وجه كيان العدو وإعادة فحصه في ضوء نتائج الحرب منذ «طوفان الأقصى» وكذلك النظر إلى الاتجاهات العسكرية والسياسية والتكنولوجية المحتملة في السنوات المقبلة. كما لا بد من إعادة فحص نموذج الاستنزاف الإسرائيلي في حقبة ما بعد 7 أكتوبر وكيف يمكن أن يتطوّر ربطاً بعوامل مثل اتجاه العدو نحو تعزيز اكتفائه الذاتي في الذخيرة وزيادة أعداد القوات البرية وتمديد خدمة الاحتياط وتطوير منظومات الدفاع الجوي والقدرات الصاروخية الهجومية البعيدة المدى، وكذلك تأثره بعمق الانقسام السياسي - المجتمعي الداخلي والتحولات الجارية في ميزان القوى الإقليمي وصياغة واشنطن المتغيرة لسياستها الخارجية. قيل إن الحرب قبل أن تبدأ تبدو كعلم الفلك ولكن بعد أن تقع تبدو كالتنجيم، ولذلك التكيّف والتعلّم والمرونة والمراجعة والتحسّن والتفكير المنفتح، وكلها بسرعة كافية، هي متطلبات حتمية لأهل الحرب.
* أستاذ جامعي

طوفان الأقصى

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة