نصر من الله

مقالات مختارة

الجنائية الدولية وقرار اعتقال نتنياهو وغالانت
04/12/2024

الجنائية الدولية وقرار اعتقال نتنياهو وغالانت

رامز مصطفى - قسم الدراسات في دائرة التنظيم المركزي
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة


 يشكل قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت علامة فارقة في مستقبل كيان الاحتلال وعزلته الدولية ومقدمة لتعزيز التضامن الدولي مع عدالة القضية الفلسطينية ومبادئ العدالة في مواجهة افلات قادة الاحتلال من العقاب 

تأسست المحكمة الجنائية الدولية بصفة قانونية في الأول من تموز عام 2002 بموجب ميثاق روما، الذي دخل حيز التنفيذ في 11 نيسان من السنة نفسها، بعد تجاوز عدد الدول المصادقة عليه ستين دولة. ومن أهم أهدافها، فرض احترام حقوق الإنسان في مختلف بقاع العالم، وذلك عبر التحقيق في جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. وخلال صياغة نظام روما الأساسي طالبت الولايات المتحدة أن يكون عمل المحكمة خاضعا لسلطة مجلس الأمن الدولي الذي تحظى فيه بحق النقض الفيتو. غير أن مؤتمر روما رفض ذلك وقرر إنشاء مؤسسة المدعي العام المستقلة، ومنح مجلس الأمن الدولي فقط حق إحالة قضايا للمحكمة خلال 12 شهرًا إذا رأى في ذلك مصلحة للسلام والأمن الدوليين.

وفي السياق لا بد من تسليط الضوء على أهم المواد التي جاءت في نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية. مما جاء في ديباجة نظام روما الأساسي، إنّ الدول الأطراف في هذا النظام إذ تُدرك أنّ ثمة روابط مشتركة توحد جميع الشعوب، وأنّ ثقافات الشعوب تشكل معًا تراثًا مشتركًا، وإذ يقلقها أنّ هذا النسيج الرقيق يمكن أن يتمزق في أي وقت. وإذ تضع في اعتبارها أن ملايين الأطفال والنساء والرجال قد وقعوا خلال القرن الحالي ضحايا لفظائع لا يمكن تصورها هزت ضمير الإنسانية بقوة. وإذ تسلم بأن هذه الجرائم الخطيرة تهدد السلم والأمن والرفاء في العالم. وإذ تؤكد أن أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره يجب ألا تمر دون عقاب وأنه يجب ضمان مقاضاة مرتكبيها على نحو فعال من خلال تدابير تتخذ على الصعيد الوطني وكذلك من خلال تعزيز التعاون الدولي.

وقد عقدت العزم أولًا، على وضع حد لإفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب وعلى الإسهام بالتالي في منع هذه الجرائم. وإذ تذكر بأن من واجب كل دولة أن تمارس ولايتها القضائية الجنائية على أولئك المسئولين عن ارتكاب جرائم دولية. وإذ تؤكد من جديد مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وبخاصة أن جميع الدول يجب أن تمتنع عن التهديد باستعمال القوة أو استعمالها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على أي نحو لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة. وإذ تؤكد في هذا الصدد أنه لا يوجد في هذا النظام الأساسي ما يمكن اعتباره إذنًا لأية دولة طرف بالتدخل في نزاع مسلح يقع في إطار الشئون الداخلية لأية دولة.

وقد عقدت العزم ثانيًا، من أجل بلوغ هذه الغايات ولصالح الأجيال الحالية والمقبلة، على إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة مستقلة ذات علاقة بمنظومة الأمم المتحدة وذات اختصاص على الجرائم الأشد خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره. وإذ تؤكد أن المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب هذا النظام الأساسي ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية.

وقد اتفقت على ما يلي: -
المــادة (1) المحكمة 
تنشأ بهذا محكمة جنائية دولية "المحكمة"، وتكون المحكمة هيئة دائمة لها السلطة لممارسة اختصاصها على الأشخاص إزاء أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي، وذلك على النحو المشار إليه في هذا النظام الأساسي، وتكون المحكمة مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية، ويخضع اختصاص المحكمة وأسلوب عملها لأحكام هذا النظام الأساسي.

المــادة (2) علاقة المحكمة بالأمم المتحدة 
تنظم العلاقة بين المحكمة والأمم المتحدة بموجب اتفاق تعتمده جمعية الدول الأطراف في هذا النظام الأساسي ويبرمه بعد ذلك رئيس المحكمة نيابة عنها.

المــادة (5) الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة 
1- يقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم التالية:
أ) جريمة الإبادة الجماعية
ب) الجرائم ضد الإنسانية
ج) جرائم الحرب
د) جريمة العدوان

2- تمارس المحكمة الاختصاص على جريمة العدوان متى اعتمد حكم بهذا الشأن وفقًا للمادتين 121 و123 يعرف جريمة العدوان ويضع الشروط التي بموجبها تمارس المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بهذه الجريمة، ويجب أن يكون هذا الحكم متسقًا مع الأحكام ذات الصلة من ميثاق الأمم المتحدة.

المــادة (6) الإبادة الجماعية 
لغرض هذا النظام الأساسي تعني "الإبادة الجماعية" أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكًا كليًا أو جزئيًا:
أ) قتل أفراد الجماعة
ب) إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة
ج) إخضاع الجماعة عمدًا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليًا أو جزئيًا
د) فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة
هـ) نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى

المــادة (7) الجرائم ضد الإنسانية 
لغرض هذا النظام الأساسي، يشكل أي فعل من الأفعال التالية "جريمة ضد الإنسانية" متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم: - (القتل العمد، الإبادة، الاسترقاق، إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي، التعذيب، الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء، أو الحمل القسري، أو التعقيم القسري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة، اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرفية أو قومية أو أثنية أو ثقافية أو دينية، أو متعلقة بنوع الجنس على النحو المعرف في الفقرة 3، أو لأسباب أخرى من المسلم عالميًا بأن القانون الدولي لا يجيزها، وذلك فيما يتصل بأي فعل مشار إليه في هذه الفقرة أو أية جريمة تدخل في اختصاص المحكمة، الاختفاء القسري للأشخاص، جريمة الفصل العنصري، الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمدًا في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية).

إنّ كيان الاحتلال الصهيوني منذ بداية حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة قبل ما يزيد عن العام، قد كشف عن سفور وجهه العنصري والفاشي القبيح في استهدافه كل ما طالته آلة قتله المجرمة، وخصوصًا في تركيزه على الأطفال والنساء، بالإضافة للتدمير الواسع والممنهج لكل البنى التحتية، من أجل الوصول إلى تركيع شعبنا الفلسطيني عبر استراتيجية فرض الحصار والتجويع عليه. الأمر الذي دفع إلى ردود أفعال غاضبة وشاجبه ومندده، تصاعدت معها مطالب باتخاذ مواقف دولية لوقف تلك الانتهاكات والجرائم التي وصلت إلى مستوى جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية. 

محكمة الجنايات الدولية حظيت باهتمام بالغ لدى أوساط الشعب الفلسطيني وقواه السياسية منذ بدء حرب الإبادة الجماعية الأمريكية الصهيونية. وتحديدًا منذ أن تقدمت دولة جنوب أفريقيا في كانون الأول من العام الماضي بشكوى أمام المحكمة المذكورة اتهمت كيان الاحتلال الصهيوني بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية المبرمة عام 1948 في هجومها على قطاع غزة. وتعزز هذا الاهتمام الواسع عندما تمكنت المحكمة بتاريخ 21 من شهر تشرين الثاني الماضي، من إصدار مذكرة اعتقال بحق بنيامين نتنياهو رئيس حكومة العدو، ويوآف غالانت وزير الحرب السابق، على الرغم من الضغوطات والتهديدات التي مورست بحق المدعي العام كريم خان من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الغربية.

إنّ المحكمة قد أوردت في بيان مذكرتها لهذا القرار "أسبابًا منطقية" للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، وهو الاعتقاد الموثق بالأدلة الدامغة، بالصوت والصورة، في عشرات التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية، المحلية والإقليمية والدولية، بشأن الجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحق أطفال ونساء وشيوخ غزة منذ 7 تشرين الأول 2023 ولا تزال حتى اليوم.

المذكرة وعلى الرغم من الرمزية، بتقديرنا أنها قد أصابت نتنياهو وحكومته بل قادة كيانه في مقتل نتيجة حالة الصدمة والارتباك، وصولًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما تترجمه التصريحات الحادة والتحذيرات المتطرفة والتهديدات العنصرية التي تتوعد المحكمة ومدعيها العام، الذي كان موضع تشكك في قدرة المحكمة على اتخاذ مثل هذا القرار الصعب، في ظل ما تتعرض له من تحذيرات وتهديدات من أعضاء في الكونغرس الأمريكي. والتهديدات الأمريكية للمحكمة الجنائية الدولية التي تستند في الأساس إلى قانون أمريكي سمي ب "قانون غزو لاهاي"، وهو يُشرعن إمكانية تنفيذ عملية عسكرية ضد المحكمة الجنائية الدولية، بعد أن وقعه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن ردًا على هجمات 11 أيلول عام 2001، وتمّ إقراره عام 2002. وهو قانون يمنح الرئيس الأمريكي تفويضًا بإصدار أمر بعمل عسكري أمريكي، لغزو هولندا، حيث تقع المحكمة في لاهاي، لحماية المسؤولين والعسكريين الأمريكيين من محاكمتهم أو إنقاذهم من الحجز. وقد علّقت "هيومن رايتس ووتش" في حينه على القانون في قولها: "إن لغة القانون تشير ضمنًا إلى أن الرئيس الأمريكي يتمتع بسلطات واسعة لمحاربة المحكمة، ويجيز له استخدام القوة العسكرية لتحرير أي أمريكي أو مواطن من دولة حليفة للولايات المتحدة محتجز لدى المحكمة التي يقع مقرها في لاهاي". وسبق أن فرضت واشنطن في عهد الرئيس ترامب في حزيران 2020 عقوبات على المدعية العامة السابقة "فاتو بنسودة" وموظفين آخرين بالمحكمة، شملت تجميد أصولهم وحظر السفر عليهم، بسبب التحقيقات في جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات التحالف الغربي في أفغانستان، وقوات الاحتلال الصهيوني في فلسطين. 

والمحكمة في حيثيات قرارها قالت إن نتنياهو وغالانت متهمان بـ "جريمة الحرب المتمثلة في استخدام التجويع وسيلة للحرب، والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد وغيرها من الأعمال اللاإنسانية". ورأت أن "ثمة أسباب معقولة للاعتقاد بأن المتهمين حرما عمدًا وعن علم السكان المدنيين في غزة من الأشياء التي لا غنى عنها لبقائهم بما في ذلك الطعام والماء والأدوية والإمدادات الطبية، وكذلك الوقود والكهرباء منذ 8 تشرين الأول 2023 على الأقل إلى 20 أيار 2024". 

وأضافت في بيانها: "من خلال تقييد أو منع وصول الإمدادات الطبية والأدوية إلى غزة، لا سيما مواد وآلات التخدير. فإنّهما مسؤولان أيضًا عن إلحاق معاناة كبيرة عن طريق أعمال غير إنسانية بالأشخاص الذين يحتاجون إلى العلاج"، محملة المجرمين المسؤولية عن الأعمال التي ارتكبتها قوات الاحتلال الصهيوني تحت قيادتهما، بما في ذلك حالات التعذيب والعنف الوحشي والقتل والاغتصاب وتدمير الممتلكات.

وأوضحت المحكمة أنها رفضت طلبين كانت قد تقدم بهما الكيان في 26 أيلول 2024، الأول يتعلق بالطعن في اختصاص المحكمة بشأن الوضع في دولة فلسطين بشكل عام، وعلى المستوطنين الصهاينة بشكل أكثر تحديدًا، على أساس المادة (2/19) من النظام الأساسي. أما الثاني فيتعلق بطلب الاحتلال من المحكمة أن تأمر الادعاء بتقديم إخطار جديد بشأن بدء التحقيق إلى سلطاتها بموجب المادة (1/18) من النظام الأساسي، كذلك طلب وقف أي إجراءات أمام المحكمة في الحالة ذات الصلة، بما في ذلك النظر في طلبات إصدار أوامر اعتقال لنتنياهو وغالانت، التي قدمتها النيابة العامة في 20 أيار 2024.

ويكتسب قرار الجنايات الاستثنائية بكل المقاييس وذلك لسببين، الأول أنّ كل مذكرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة منذ تأسيسها عام 2002، قد اقتصرت على القادة والزعماء في إفريقيا وآسيا وخصوم أمريكا والغرب ومن أبرزهم، الرئيس السوداني السابق عمر البشير عام 2008، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين 2023، الزعيم الصربي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش 1999. الرئيس السابق لساحل العاج لوران غباغبو 2001، الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور 2006، الرئيس الكيني السابق أوهور وكينياتا 2014، وسيف الإسلام القذافي، نجل الرئيس الليبي السابق معمر القذافي 2011. أما الثاني الشكوك التي رافقت المحكمة لجهة الموضوعية والمهنية والاستقلالية ودرجة الشفافية التي تتمتع بها، وهو ما أفقدها ثقة الكثيرين بعدما تحولت إلى سلاح وأداة بأيدي المعسكر الغربي في استهداف خصومه.

إنّ إصدار مذكرة بحق مسؤولين بحجم رئيس حكومة العدو ووزير حربه السابق، الحليفان الأبرز للولايات المتحدة، هو سير عكس الاتجاه، وتغريد غير متوقع خارج السرب، ويمثل تغييرًا جذريًا في قواعد اللعبة بالنسبة للعدالة الدولية، التي كانت حتى الآن تركز على "المهزومين أو المنبوذين" بحسب وصفة صحيفة "لوموند" الفرنسية. ومن ثم كانت الصدمة والمفاجأة التي أحدثها هذا القرار الذي قد لا يكون الأخير من نوعه، إذ هناك تخوفات لدى الجانب الصهيوني من استهداف شخصيات سياسية وعسكرية أخرى على رأسها رئيس الأركان هرتسي هاليفي.
من المفترض وبعد صدور المذكرة بشكل رسمي، أن تلتزم الدول الأعضاء في المحكمة، والموقعة على ميثاق روما، والبالغ عددها 124 دولة بما جاء فيها، ومن ثم توقيف كل من نتنياهو وغالانت في حال وجودهما في تلك الدول، ما يعني أن كلا المجرمين ممنوعان بشكل قانوني من زيارة كل تلك الدول الأعضاء وإلا فالاعتقال هو البديل بحسب المذكرة.

وهنا لابد من التفرقة بين نوعين من هذه الدول. الأول، يتعلق بالدول الموقعة على ميثاق روما والمنضوية تحت لواء الجنائية الدولية كعضو أساسي ملتزم بكل ما جاء في الميثاق والالتزام بقرارات المحكمة، ويقصد بها هناك الدول الـ 124. أما الثاني، فهي البلدان التي وقعت فقط ميثاق روما الأساسي، كنوع من إبداء النية للالتزام به في المستقبل، لكنها لم تُكمل عملية المصادقة، ومن بين تلك الدول الولايات المتحدة التي وقعت عام 2000 لكنها لم تُصادق وأعلنت انسحابها لاحقًا، وهو ما فعلته روسيا أيضًا.

انقسمت ردود فعل الدول الأعضاء في الجنائية الدولية والمُلزمة بتنفيذ المذكرة إلى 3 أقسام، أولًا الدول التي أعلنت استعدادها الالتزام بتنفيذ القرار هي إيرلندا وسلوفينيا وإيطاليا وكندا وهولندا وسويسرا. وثانيًا، الدول أعلنت رفضها الامتثال لتنفيذ المذكرة، المجر التي أعلن رئيس الوزراء، فيكتور أوربان، – الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي – أنه سيدعو نتنياهو لزيارة المجر، مضيفًا في مقابلة مع الإذاعة الرسمية “لا خيار أمامنا سوى تحدي هذا القرار. أما ثالثًا، الدول التي تدرس القرار هي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وقبرص والسويد.

خطوة الجنائية الدولية من المؤكد أنها خطوة تصب في مصلحة القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، فهي انتصار سياسي على المستويات كافة، فلأول مرة تُصدر أوامر اعتقال من كيانات أممية بحق شخصيات ذات ثقل سياسي وعسكري في داخل الكيان الصهيوني، رغم الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة الأمريكية لمنع اتخاذ أية إجراءات تمس بالكيان أو أي من قياداته. وهذه الخطوة جاءت مترافقة مع حالة الزخم التي باتت عليها القضية الفلسطينية منذ عملية طوفان الأقصى وما حققته من مكاسب سياسية لم تحققها منذ بداية الصراع مع الكيان الصهيوني الغاصب، في المستويين السياسي والشعبي: 

أولًا على المستوى السياسي
حيث موجة الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة مستقلة، وانضمام إسبانيا وإيرلندا والنرويج لقائمة الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية، ليصبح قرابة نصف بلدان الاتحاد الأوروبي يعترفون بدولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة (13 دولة من أصل 27 دولة ضمن الاتحاد)، وهو ما سيكون له ارتداداته المستقبلية على الموقف الأوروبي العام من القضية وخلخلة جدار الدعم المطلق للكيان.

وفي ذات السياق فإن ما يتعرض له الكيان المحتل داخل أروقة الكيانات الدولية والأممية من إدانات وانتقادات وأحكام وضعته في قفص المجرم المطالب بالدفاع عن نفسه أمام العالم، بعدما اُفتضحت جرائمه على مرأى ومسمع من الجميع، يصب في صالح القضية الفلسطينية ويخدم عدالتها الدولية ويضعها بعد سنوات من التهميش تحت مجهر الاهتمام العالمي.

ثانيًا على المستوى الشعبي
تعرض المزاج العالمي إزاء القضية الفلسطينية لتغيرات جذرية منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول من العام 2023، فما قبل هذا التاريخ ليس بأي حال من الأحوال كما بعده، حيث شهد تعاطفًا كبيرًا مع شعبنا الفلسطيني ودعمًا قويًا لحقوقه، وانكشافًا جليًا لجرائم الاحتلال وانتهاكاته العنصرية، وهو المزاج الذي كان مُحتكرًا لعقود طويلة بمعتقدات خاطئة ومضللة عن ديمقراطية الكيان المحتل المشروخة، وحضارته المزيفة، وحقوقه غير المشروعة في الأراضي الفلسطينية.

أما على المقلب الآخر وهو كيان الاحتلال الصهيوني وتأثيرات مذكرة الجنائية الدولية والقاضي باعتقال نتنياهو وغالانت، فإنّ حالة من التخبط والإرباك هو سيد المشهد. وهذا ما كان جليًا من التعليمات التي أصدرتها خارجية الكيان لسفرائها بضرورة الاستنفار بهدف بذل الجهود الدبلوماسية وحشد المجتمع الدولي للتصدي لتلك المذكرة الاستثنائية وممارسة كل الضغوط المحتملة للتراجع عنها. ومن ثم ما يخشاه قادة الكيان من تكريس العزلة الدولية بعد صدور المذكرة، حيث بات الأمر متعلقًا بعدم قدرة رئيس حكومة الكيان وقائد حربه، على مغادرة الأراضي الفلسطينية المحتلة، خوفًا من التعرض للتوقيف والاعتقال بصفته مجرم حرب ملاحق قضائيًا أمام المحاكم الدولية، وسيساق إلى قفص الاتهام الدولي. وبالتالي فإنّ المذكرة كرّست أنّ الكيان لا يحترم القرارات ولا القوانين الدولية ولا يراعي حرمة لحقوق الإنسان. وهذا يدحض سردية أنّ الكيان هو الواحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. وهذه التأثيرات ستسحب ظلها وتداعياتها على الأوضاع الاقتصادية التي هي أصلًا متدهورة وخسائرها كبيرة بسبب تكاليف الحرب. وذلك لجهة السياحة والاستثمارات الخارجية وشركات الطيران، بالإضافة لإيرادات وعوائد تجارة التكنولوجيا والأسلحة. 

ويبقى أخيرًا السؤال: هل تملك المحكمة سلطة تنفيذ قراراتها؟ رغم أنّها تتمتع بالصفة الدولية: -
1.تفتقد لأدوات الضغط لترجمة ما يصدر عنها من أحكام وقرارات، والتي في الغالب يكون تنفيذها خاضعًا للتنسيق والتناغم والتعاون بين الدول الأعضاء والقوى الكبرى الأخرى غير المنضوية تحت لوائها والتي لم توقع على ميثاق روما كالولايات المتحدة وروسيا والصين والهند.
2.غياب أي التزامات أو أعباء قانونية ضد الدول التي ترفض الالتزام بقرارات المحكمة، ومن ثم تكون الاستجابة من عدمها خاضعة للمقاربات والحسابات السياسية والاقتصادية والعسكرية، والتي تحدد بوصلة توجهات الدول الأعضاء.
3.في حالة الكيان الصهيوني، فإنه وفي ظل الموقف الأمريكي الرافض لتلك المذكرة والضغوط المتوقع أن تُمارس على دائرة المحكمة من جانب، والدول الأعضاء لا سيما الأوروبيين من جانب آخر، فقد يفقد القرار بعضًا من سلطة إنفاذه، لكن هذا لا يعني تجريده من فحواه. فهو انتصار رمزي في المقام الأول، ووصمة عار ستظل تلاحق قادة الاحتلال أينما ذهبوا.

ويبقى القول إن هذه الخطوة اذا ما تم تنفيذها ستكون نقطة تحول تاريخية في مسار المحاسبة وهذا ما سيضع قادة كيان الاحتلال أمام تحول نوعي في طبيعة التفاعل الدولي مع الصراع القائم بين مع كيان الاحتلال وجرائمه المستمرة منذ نكبة العام 1948.

بنيامين نتنياهوالمحكمة الجنائية الدولية

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة