مقالات مختارة
ملاحظات في الأسبوع الثاني من مجازر غزة
أسعد أبو خليل - صحيفة الأخبار
جيش العدوّ مرتبك. يخاف من المواجهة الميدانيّة وحائر بين اتخاذ هذه الخطوة أو تلك. لديه قوّة سلاح الجو الذي تزيد أميركا من قوّته باستمرار. تعطيه أفضل ما لديها من طائرات مقاتلة كي تُستعمل ضد المدنيّين العرب وتعطي أنظمة الطاعة في الخليج أنساقاً متدنّية من السلاح الأميركي (كان من شروط الإمارات في تحقيق التطبيع الحصول على نسق متطوّر من طائرة إف. ٣٥، ولم تقبل). وزير الدفاع الأميركي صرّح بأن لا شروطَ البتّة على استعمال إسرائيل للسلاح الأميركي. هذه دعوة صريحة لإسرائيل كي ترتكب من جرائم ما تشاء وبمباركة أميركيّة. لكن إسرائيل تفتقر إلى خبرة القتال الميداني. هذه اليوم نقصيتُها الكبرى، وخصوصاً أن الاعتداد بالنفس، والغرور العسكري الذي أصاب العدوّ بعد ١٩٤٨ ثم بعد ١٩٦٧، تبخّر في حرب تمّوز وفي المواجهات الماضية في غزة.
وعلى مدى السنوات الماضية، كنتَ تقرأ في صحافة العدوّ تعبيرات عن قلق إسرائيلي عميق من تنامي الخبرة القتالية الميدانيّة لمقاتلي الحزب في سوريا (أو اليمن حسب بعض وسائل الإعلام في الخليج، أو أوكرانيا حسب إعلام «درج»). الخبرة القتالية الميدانيّة حُرم منها جيش العدوّ لأن الجيوش النظاميّة حوله استسلمت له ولهيمنته. لم يحاربوه منذ ١٩٧٣ باستثناء مواجهة حرب ١٩٨٢ بين الجيش السوري والجيش الإسرائيلي. بعد ١٩٤٨، كان العدو يتمرّن بنا، وبالجيوش العربيّة التي كانت تزيد من ثقة العدوّ بنفسه. أكبر دليل على ثقة العدوّ بنفسه كان تحرّشه المستمرّ بنا، وخصوصاً في لبنان، منذ النكبة. كان هو يفتعل الحروب والاشتباكات ويختلق أدنى الذرائع للهجوم لعلمه بقدرة الانتصار السريع. حرب ١٩٧٣ غيّرت ذلك: لكن إسرائيل احتاجت إلى دعم أميركي هائل أنقذها من هزيمة. كما ساعد في انتشالها من الهزيمة آنذاك المشبوه الأكبر، أنور السادات (بالإضافة إلى ما قرأنا أخيراً من مقابلة هنري كيسنجر في صحيفة إسرائيليّة، عن معارضته للتوصّل إلى اتفاق لوقف النار إذا لم تتقدّم إسرائيل في الميدان في تلك الحرب). لبنان، كان ملعب رماية لإسرائيل وبكل الأسلحة. تدخل إليه وتخرج منه متى تشاء من دون معارضة ولو شكليّة من الجيش اللبناني القوي، آنذاك (والذي كان يملك طائرات مقاتلة، وهي غير طائرات رشّ المبيدات التي تمنحها أميركا أخيراً للبنان كمساهمة في «سلاح الجو اللبناني»).
إسرائيل تبدو في اضطراب وتخبّط، لا تدري كيف تسير. وهي تزعم أنها أجّلت الغزو البرّي بسبب الطقس. وهي تريد إخلاء غزة كي يخلو القطاع لها عندما تدخل من دون وجل حسب ما تتصنّع. الخوف الإسرائيلي هو ليس فقط من انعدام التجربة القتاليّة لجنوده، بل لأن سمعة المقاتل المقاوِم في غزة وفي لبنان هي تماماً كما كانت سمعة المقاتل الإسرائيلي بعد حرب ١٩٦٧ عند العرب. المقاوِم بات يثير الرعب في قلوب الصهاينة. كما أن المهارة في القتال وفي الاستهداف تبدو واضحة في جنوب لبنان. كلما رمى الحزب يصيب. وتعطيل كاميرات وأبراج المراقبة يشير إلى دراسة مستفيضة في كل أماكن وجود المراقبة عند العدوّ. والحزب في رماياته يُعلِم العدوّ أن لديه خططاً محكمة في مواجهته عندما تحين الساعة. العدوّ الذي كان يكشفنا عراةً بات هو مكشوفاً أمام المقاومين. أعداؤه في «حماس» (كما اتضح من تسريبات إسرائيليّة إلى «نيويورك تايمز») على معرفة دقيقة وواسعة بالوجود العسكري لجيشه واستخباراته. هذا لم يكن وارداً في زمن منظمة التحرير. كانت وسائل جمع المعلومات بدائيّة، وكان هناك مغالطات كثيرة. عند عرفات، يكفي الهتاف «عالقدس رايحين، شهداء بالملايين» كي نشعر بنشوة الانتصار. لا تخطيط ولا تركيز ولا دراسة جديّة للعدوّ (يكفي أن محمود عبّاس كان المكلّف من عرفات لدراسة العدوّ وسلوكه).
أميركا تحرّك أساطيلها وتقول إن ذلك رسالة لحزب الله أو لتدخّل خارجي. أي أن خبراء الأمن القومي المحيطين بجو بايدن أخبروه أنّ تدخّل حزب الله سيؤذي إسرائيل كثيراً وإلا ليس هناك من تفسير لتحريك حاملات الطائرات. لكن تحريك حاملات الطائرات لا يقي من الخطر ضد إسرائيل أو ضد أميركا. كان هناك خلايا صغيرة (لم تكن قد تنظّمت في ما عُرف لاحقاً بحزب الله) في ١٩٨٢-٨٤ وهي التي كانت وراء التفجيرات التي «طفّشت» أميركا من لبنان. لا يُعقل أن أميركا تريد أن تدخل في مواجهة مع حزب الله، لكنها تريد أن تهوّل. وتحريك حاملات الطائرات يندرج في إطار العمل الديبلوماسي بحسب السياسة الخارجيّة الأميركيّة. والمحور الممانع هو غير ما كان الوضع عليه في الثمانينيّات. لم كن هناك نصر الله قائداً للمحور، ولم يكن هناك تواصل بين فصائل في العراق واليمن ولبنان، بالإضافة إلى التحالف بين الحزب والنظام السوري (كان الطرفان على عداء في الثمانينيّات حتى بعد ١٩٨٧). أميركا، وليس فقط إسرائيل، تحسب للحزب ألف حساب. مرّة كنتُ أتحدّث في جامعة تكساس عن الصراع العربي - الإسرائيلي وسألني أحدهم عن الحزب فأجبت. بعد انتهاء المحاضرة، اقترب منّي مسؤول أميركي رفيع سابق وهمس في أذني: إسرائيل لا تجرؤ على الاقتراب من نصر الله. سألته: ماذا تقصد؟ قال: لأن الحكومة الأميركيّة حذّرت إسرائيل رسميّاً من عواقب ذلك. تعلم أميركا أن قائد الحزب الحالي يمتلك قوّة جبّارة وهو يتعامل مع هذه القوّة بانضباط لا بانفعال.
أميركا لا تخشى من الحزب بقدر ما هي تخشى على إسرائيل من الحزب. صحيح أن لإسرائيل بفعل التفوّق الجوّي والبحري قدرات تدميريّة هائلة (بفضل الإمداد الأميركي المستمرّ) وهي تستطيع أن تمعن قتلاً وخراباً في لبنان، كما تفعل في كل حرب ضد لبنان. لكن الحرب هذه المرّة ستجعل إسرائيل تعاني كما لم تعانِ في كل دورات الصراع العربي - الإسرائيلي. سيستطيع الحزب إلحاق ضرر ودمار لم تعانه إسرائيل من قبل. ثمن فتح الحرب على لبنان سيكون هائلاً، كما أن المواجهات الميدانيّة لن تكون في مصلحة جيش العدوّ. تصوّر رغبة خرّيجي حرب تمّوز والذين اكتسبوا خبرات قتاليّة في سوريا (حسب اعتراف تقارير العدوّ) وهم يقاتلون الجيش الإسرائيلي وجهاً لوجه. هل من شكّ بأن هناك تعطّشاً عند مقاتلي الحزب اليوم للمواجهة الكبرى؟
لكن الحزب في معضلة. أكثر من نصف لبنان متعاطف ضمناً (أو جهاراً معظم أيّام السنة) مع إسرائيل ويغار على مصلحتها ويساهم في دعايتها. لكن هذه ليست المرّة التي تكون فيها المقاومة مكبّلة اليدين. أتذكرون العداء نحو فكرة مقاومة إسرائيل في ١٩٨٢ و١٩٨٣ في مناخ ١٧ أيّار، يوم كان محمد مهدي شمس الدين ينادي بـ«المقاومة المدنيّة» بديلاً من المقاومة العسكريّة؟ كان الناس في الجنوب يصافحون الإسرائيليّين ويتضاحكون معهم، أو يحاولون (شاهدتُ ذلك بأم عيني في صيف ١٩٨٢ الصعب). وانطلقت المقاومة في تلك الظروف الصعبة ونمت، إلى أن أصبحت مارداً تهابه الأمم. الحزب لا يريد فتح حرب يعلم أنها ستكون شاملة، لكنه ليس متفرّجاً إزاء ما يجري في غزة. كلام خالد مشعل من على شاشة سعوديّة كان خبيثاً للغاية. هو يطالب الحزب بـ«أكثر»، من على شاشة سعوديّة، كأنه يقول إن مثال العطاء والدعم يتمثّل في دعم السعوديّة للمقاومات في المنطقة. حتى الساعة، تمتنع حركة «حماس» عن انتقاد التطبيع السعودي مع إسرائيل. والتنكيل الخليجي بمؤيّدي «حماس» لم يُقابل عند «حماس» إلا بالمزيد من الممالأة نحو أنظمة الخليج.
الحزب يتعرّض لضغوط هائلة: ١) من دول الغرب التي تخشى على إسرائيل منه، وهي ترسل له عبر وسطاء (ومباشرة من قبل فرنسا) الرسائل تلو الرسائل كي يتجنّب الدخول في الحرب. ٢) الضغوط من مناصري المقاومة كي يباشر بزيادة الضغط على إسرائيل للتخفيف من الضغط على غزة. ٣) الضغط من قبل أكثر من نصف لبنان من الذين يعادون الحزب أكثر بكثير مما يعادون إسرائيل. هؤلاء هم الذين يلومون الحزب لو فتح جبهة في الجنوب، ويتهمونه بالخيانة والتخلّي عن القضيّة لو هو استمرّ في ممارسة ضبط النفس. ٤) الرأي العام العربي الذي ينتظر من الحزب مساهمة في مقاومة غزة. وبعض هذا الرأي العام متأثر بالدعاية الخليجيّة ضد الحزب وضد إيران. ٥) وهناك الضغط من المحور الذي لا يريد بعض أطرافه فتح الجبهات كافة لأن ذلك من شأنه خلخلة استقرار الحكومات وتهديم الحدود. ٦) هناك الضغط المتولّد من خطاب الحزب نفسه عبر السنوات عن المساهمة في المعركة الكبرى ضد العدوّ. ٧) وهناك أخيراً ضغط من الشعب الفلسطيني (من حسني النيّة ومن المتأثّرين بتحريض أنظمة الخليج على مدى السنوات) من أجل انخراط الحزب في المعركة.
هذه المعركة الكبرى لو بدأت لن تنتهي بسهولة وستنتفي فيها عوامل ضبط النفس. ستكون على طريقة «يا قاتل يا مقتول». إسرائيل تخشاها لهذه الأسباب، لكنها لو بدأت ستصرّ على زيادة منسوب الإرهاب والتدمير فيها لأنها لا تحتمل هزيمة جديدة بعد تمّوز. الهزيمة الجديدة ستقضي على ما تبقّى من عقيدة الدولة العسكريّة والتي مفادها أن إسرائيل لا تحتمل أن تنتصر إلا بالضربة القاضية. هذه كانت أهمية حرب تمّوز. حتى لو أراد المرء أن يحكم بالتعادل بين الفريقَين (كما فعلت مجلّة «إيكونومست» مرّة مع أنها في عدد آخر حكمت بنصر الحزب في عنوان «نصر الله فاز في الحرب») فإنّ ذلك يتناقض مع عقيدة بن غوريون في أهمية الاكتساح العسكري.
الغرب يزيد من دعمه لإسرائيل، والحرب ضد روسيا أماطت اللثام عن وجه الغرب الحقيقي الذي لا ادعاءات ولا كلام فضفاضاً فيه عن الحرية والعدالة والقانون الدولي. الهوّة بين الغرب والعرب لا تقلّ عن الهوّة بعد حرب ١٩٦٧. الأنظمة الحاليّة أكثر ثقة بنفسها لأن زمن الانقلابات قد ولّى وإسرائيل تستثمر في الدفاع عن الأنظمة الحليفة لها. لكن الشعب الفلسطيني لا يزال، كما كان دوماً، يوحّد العرب ويجمع كلمته. لا يشذّ عن الإجماع إلا هؤلاء في لبنان (من يمين وتغييريّين وهؤلاء الذين شوّهوا كلمة ثورة). هؤلاء من صنف آخر يرى في نفسه غرباً وهو يقتات منه. وتوحّد الغرب (من السويد وفنلندا إلى فرنسا وأميركا) سيصعّب من منطق اختلاق خلافات بين دول الغرب للمفاضلة بينها. أميركا تأمر والقطيع يسير من دون جدال. هي تقرّر نسب الإنفاق على الدفاع وهي تقرّر الأولويّات لهم. وهي تتدخل في انتخاباتهم كي تضمن فوز المنصاعين لأوامرها. وإذا انتصر حزب أو شخص من خارج منظومة الطاعة فهو يصبح تلقائياً عميلاً لبوتين. لكن بالرغم من هول المجازر والجرائم ضد الإنسانيّة، لم تكن فلسطين أقرب منالاً.