مقالات مختارة
التطبيع يتسلّل إلى بيروت
نادين كنعان - صحيفة الأخبار
بدءاً من اليوم الأربعاء لغاية 30 تشرين الأوّل/أكتوبر الحالي، سيكون لبنان على موعد مع الدورة الأولى من "بيروت كُتب" (Beyrouth Livres)، المهرجان الأدبي الدولي والفرنكوفوني الذي ينظّمه "المركز الفرنسي في لبنان"، بعد أربع سنوات على إقامة آخر معرض للكتاب الفرنكوفوني في لبنان. حدث مجاني ببرنامج منوّع يحاكي كلّ الأعمار، سيتجوّل في المناطق اللبنانية المختلفة، متنقّلاً بين المدارس والمتاحف وغيرهما من الفضاءات ذات الطابع الثقافي. ويستضيف الحدث 110 أدیباً وأدیبة من 18 جنسیّة، فيما يقيم حلقات حوار وندوات وأنشطة فنية (موسيقى ومسرح وغناء...)، بالإضافة إلى توزيع عدد من الجوائز، وفق ما تؤكد السفيرة الفرنسية آن غريو.
وبحسب المنظّمين، من شأن "بيروت كُتب" المساهمة في الحثّ على القراءة من جهة، وتشكيل متنفّس للكتّاب والأدباء والفنانين الذين واظبوا على العمل ولكن "لم يقدروا أن يحكوا (...) وشعروا بوجود هذا النقص" نتيجة تأزّم الأوضاع على الساحة المحلية وفي ظلّ الأزمة الصحية العالمية ومن ثمّ توقّف معرض الكتاب الفرنكوفوني، من جهة أخرى. الأمر الذي ولّد "الحاجة لنشاط أدبي، خصوصاً في بيروت".
خلال الحدث، وتحديداً في 25 تشرين الأوّل، سيشهد "قصر الصنوبر" عند الساعة الثانية بعد الظهر حدثاً غير مسبوق، يتمثّل في الإعلان عن القائمة القصيرة لجائزة "غونكور" الأدبية العريقة من لبنان. خطوة مستغربة من قبل الأكاديمية الفرنسية التي اعتادت الكشف عن الأسماء سنوياً من باريس، التي سيحضر هذا العام أعضاؤها العشرة إلى العاصمة اللبنانية، بمن فيهم باسكال بروكنير، إريك ــ إيمانويل شميت وبيار أسولين. علماً أنّ غياب أيّ منهم قد يعني نسف الإعلان البيروتي.
الأدباء الثلاثة الذين لم يُسلّط عليهم الضوء في إطار الإعلان عن تفاصيل المهرجان كأنّ أسماءهم مُرِّرت خلسةً، معروفون بمواقفهم ومعاركهم المدافعة عن "إسرائيل"، وبترهيب كلّ من ينتقدها ورميه بالتهمة الجاهزة: معاداة السامية!
صحيح أنّهم ليسوا إسرائيليّي الجنسية، إلا أنّهم من أشدّ المتعاطفين مع الكيان الصهيوني في الأوساط الثقافية والفنية الفرنسية.
أخطر هؤلاء هو الروائي والمفكر والصحافي والأكاديمي باسكال بروكنير. يعتبر الأخير من أبرز رموز "الفلاسفة الجدد" الذين قادوا الثورة الأيديولوجية ضدّ حركات التحرّر الوطني واليسار في سبعينيات القرن الماضي، إلى جانب مجموعة من أعتى صهاينة فرنسا والمدافعين عن "إسرائيل" ومؤبلسي العرب والمسلمين، على رأسهم برنار هنري ليفي. تيار حاول تبرئة الاستعمار من مسؤولياته التاريخية عمّا حلّ ببلدان العالم الثالث، ويحمّل مسؤولية ما يجري في هذه البلدان إلى ثقافتها وخلفيتها الفكرية والنفسية... بخبث شديد، أعاد هذا التيّار تبنّي الطروحات العنصرية. في كتابه المرجعي "دموع الرجل الأبيض"، يعلن القطيعة مع الفكر العالم الثالثي الذي طبع جيله، واليسار الغربي في السبعينيات. إنّه أحد الموقعين على عريضة ترفض إدانة "إسرائيل" عام 2021، ردّاً على عريضة لألف فنان ومثقف وجامعي من 45 بلداً، نشرتها جريدة "ليبراسيون" الفرنسية، تدعو إلى وضع حدّ لـ "الأبارتهايد في إسرائيل". وفي عام 2017، قال في مقابلة عبر i24NEWS الإسرائيلية إنّه "في الشرق العربي المسلم المتخلّف إسرائيل هي المنارة".
دافع هذه المراجعة لدى بروكنير وآخرين من أشباهه هو مواقف اليسار المعادي لـ «إسرائيل» مع صعود المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلّة في بداية السبعينيات. هكذا، ارتدت هذه المجموعة من الثوريين واليساريين وانحازت لعتاة الرجعية. انخرط هؤلاء في السجالات الحاصلة في مجتمعاتهم حول مسألة الموقف من القضية الفلسطينية واعتبارها «أداة» تستخدمها الحركات الإسلامية لنشر «الأسلمة» واختراق المجتمعات الغربية. هم يقدمون أنفسهم بصورة «حضارية» تؤثّر على الشرائح التي تفتقر إلى المعرفة الكافية في هذا الإطار.
أما البلجيكي من أصل فرنسي إريك ــ إيمانويل شميت، فأستاذ فلسفة وروائي ومسرحي ومخرج، تدور تصريحاته في فلك «الحوار بين الأديان» و«السلام بين العرب وإسرائيل». توجّه رائج ومهيمن في فرنسا بين المثقفين والفنانين وفي الميديا. مقاربة نجدها على سبيل المثال في نصّه «السيّد إبراهيم وزهور القرآن» الذي قُدِّم طويلاً على المسارح الإسرائيلية، واستحال فيلماً (95 د) عام 2003 من بطولة عمر الشريف وإخراج فرانسوا ديبيرون (1950 ـــ 2016)، كما أنّه أدّاه هو شخصياً على الخشبة في «مهرجان أفينيون». وعلى الرغم من أنّه لا يمكن اعتباره عدوّاً شرساً للقضية الفلسطينية، لكنّه يروج لـ «السلام». سبق أن وجّه إليه الصحافي يونس بن كيران رسالة غاضبة في «ميديابارت» بعد توقيعه على «مانيفستو ضدّ اللاساميّة» يوحي بأنّ هناك صلة عضوية بين «العداء للسامية» و«المسلمين قتلة اليهود».
من ناحيته، وُلد الصحافي والروائي والناقد الفرنسي بيار أسولين في المغرب حيث عاش سنواته الأولى. على مدى أعوام، أدار مجلّة LIRE، ولا يُعرف بمواقف منهجيّة داعمة لـ «إسرائيل». تناول في «تطهير المثقفين» (1996) مفكّري اليمين العنصري في فرنسا إبان الاحتلال. وفي روايته «الزبونة» (1998)، استعاد مرحلة التعامل مع النازيين إبّان الاحتلال الألماني لفرنسا، والوشاية باليهود... لكنّه برز كمدافع عن الزيارة المدويّة التي قام بها الكاتب الجزائري التطبيعي بوعلام صنصال إلى الكيان المحتلّ وما تخلّلها من تصريحات ولقاءات، مباشرةً بعد فوزه بـ «جائزة الرواية العربيّة» في عام 2012. هاجم أسولين منتقدي صنصال، إذ وجّه سهامه بعنف في شهر حزيران (يونيو) من العام نفسه صوب سفير فلسطين في اليونيسكو، إلياس صنبر، بسبب انتقاده لزيارة صنصال إلى «إسرائيل».
تأتي دعوة الأدباء الثلاثة، وهم «صهاينة عضويّون»، إلى بيروت في السياق السياسي العام الذي تشهده المنطقة، أي تكريس العلاقات مع «إسرائيل» والصهاينة كأمر واقع، وبالتالي تنفيذ استراتيجية تطبيع التطبيع. توجّه تقف فرنسا في الصفوف الأمامية بين الدول المشجّعة عليه. ولا ينحصر الهدف بتعزيز علاقات «إسرائيل» مع العالم، بل يتركّز أيضاً على قتل القضية الفلسطينية بعد التضحيات الهائلة التي قُدّمت على مدى العقود الماضية من أجل الحصول على اعتراف دولي بوجود شعب فلسطيني تجري محاولة عزله اليوم ونسفه من الذاكرة. وتتزامن الدعوة البيروتية أيضاً مع تصاعد حدّة الاشتباك مع العدوّ في الأراضي المحتلة.
في الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) الحالي، حذّر وزير الثقافة محمد وسام المرتضى عبر حسابه على تويتر من «استغلال الحراك الثقافي في سبيل الترويج للصهيونية وخططها الاحتلالية العدوانية الظاهرة والخفية، التي بدأت بالأرض ولن تنتهي بالعقول».
تغريدة سرعان ما أُزيلت، لتتبعها أخرى جاء فيها: «بناءً على تمنّي سعادة السفير المعني، وطلبه التداول مع الوزارة لجلاء الأمور ووضعها في نصابها الصحيح، تم مؤقتاً محو التغريدة المتعلّقة بعدد من الأدباء الأجانب المنتمين إلى الصهيونية فكراً ونتاجاً أدبياً وأهدافاً، على أن يصار، في ضوء نتيجة التداول، إلى إجراء المقتضى القانوني والوطني المناسب». لكن لغاية كتابة هذه السطور، يبدو أنّ أيّ تغيير لم يطرأ، إذ لا تزال الأسماء الثلاثة مُدرجة ضمن «القائمة الكاملة لأدباء وأديبات البرنامج» على موقع «المركز الفرنسي في لبنان» الرسمي. صحيح أنّ لا موادّ في قانون مقاطعة إسرائيل تمنع الثلاثي من دخول الأراضي اللبنانية، وبالتالي، فإنّ السلطات، وتحديداً «المديرية العامة للأمن العام»، لا يمكنها أن تفعل شيئاً في هذا الإطار، لكونهم لا يحملون جوازات سفر إسرائيلية، إلا أنّ ما تفعله السفارة الفرنسية عبر هذه المبادرة «الثقافية» اللبوس، هو كيّ الوعي العربي، والتطبيع الناعم مع فكرة الاحتلال. والأهم أنّها تفعل ذلك من بوابة بلد اختبَر وقاومَ هذا النظام الاستعماري وممارساته الوحشية، فيما «الديموقراطيات الحرّة»، على رأسها فرنسا، تتواطأ ــ بصمتها ودعمها الرسمي للكيان ــ مع الإبادات والمجازر والتهجير والتطهير التي مارسها منذ عام 1948 لغاية اليوم، ومن فلسطين وصولاً إلى لبنان!
إقرأ المزيد في: مقالات مختارة
20/11/2024
في بيتنا من يتبنّى فهم العدو للقرار 1701!
19/11/2024
محمد عفيف القامة الشامخة في الساحة الإعلامية
19/11/2024
شهادة رجل شجاع
13/11/2024