مقالات مختارة
ماذا لو فشلت المفاوضات؟
وليد شرارة - الأخبار
يَجدر بالنقاش الجدّي للخيارات المُتاحة فعلاً ضدّ إيران لدى المحور الإسرائيلي - الغربي المعادي لها، في حال فشل مفاوضات فيينا، أن يأخذ في الاعتبار التقدير السائد لدى جميع أفرقاء هذه المواجهة الدبلوماسية - السياسية، لموازين القوى الإجمالية الدولية والإقليمية. أيّ خيار سيَجري اعتماده سيستند إلى مثل ذلك التقدير، الذي يشكّل بذاته جزءاً لا يتجزّأ من ميزان القوى. لا يمكن اختزال هذا الأخير بعناصره المادّية وحدها، أي القوّة العسكرية والاقتصادية والسياسية لأطراف أيّ نزاع، ونِسيان عناصره غير المادّية، أي قناعات الأطراف المذكورة وتصوّراتهم حياله.
عاد الحديث، أخيراً، عن احتمال توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية - أميركية مشتركة للمشروع النووي الإيراني، في حال عدم التوصُّل إلى اتفاق حوله، من قِبَل مسؤولين صهاينة وأميركيين، تصريحاً أو تلميحاً، في إطار سعي مكشوف لحمل طهران على الإذعان لشروط أعدائها. المسؤولون الإيرانيون كانوا، من جهتهم، قد كرّروا في مناسبات عدّة، جهوزية بلادهم للردّ على أيّ عدوان يستهدفها. من الواضح، حتى الآن، أن هذه التهديدات المباشرة أو المبطنة لم يكن لها أيّ تأثير يُذكَر على ثبات الموقف الإيراني التفاوضي في فيينا. ينطلق هذا الثبات، بطبيعة الحال، من تمسّك إيران بحقّها في امتلاك التكنولوجيا النووية أوّلاً، غير أنه يرتبط أيضاً بتقدير لموازين القوى الدولية، يلحظ التراجع الكبير للقوّة الأميركية واحتدام تناقضاتها مع منافِسيها الصاعدين في الصين وروسيا.
هذا السياق الدولي المستجدّ يُرجّح استبعاد أيّ عملية عسكرية واسعة النطاق - بمشاركة أميركية - ضدّ إيران في حال فشلت المفاوضات معها، واستمرار الحرب الهجينة ضدّها عبر أدوات كالعقوبات الاقتصادية والمالية، والعمليات التخريبية العسكرية والأمنية والسيبرانية، التي تندرج في إطار حالة الحرب المتنامية التي يشهدها العالم في العديد من بقاعه بين واشنطن وخصومها. تسليط الضوء على التحدّيات والمصاعب التي تواجهها الولايات المتحدة على النطاق الدولي، ضروري للحدّ من جاذبية بعض السرديات التي تُركّز على مصاعب إيران وحدها، وتحدّياتها الداخلية.
ميزان قوى غير مؤاتٍ لواشنطن
اعتماد الولايات المتحدة سياسات عدائية تُجاه أطراف دولية وإقليمية وازنة، على الرغم من الانحدار المستمرّ لقدراتها، بدلاً من التركيز على أولوية استراتيجية كبرى وإخضاع ما عداها لها، كما فعلت خلال مجابهتها مع الاتحاد السوفياتي، هو الذي يفسّر الأوضاع الراهنة. قد يكون من المفيد للوصول إلى فهمٍ دقيق لهذه الأخيرة، الالتفات إلى قراءة الأوساط الوثيقة الصلة بعالم الأعمال في الغرب - للتطورات الدولية -، كـ«الفايننشال تايمز» مثلاً، التي تحاول التحلّي بقدْر معيّن من «الموضوعية» في تحليلاتها التي تقدّمها للشركات والمؤسّسات الرأسمالية الوازنة. جدعون راشمان، مسؤول الشؤون الخارجية في اليومية المذكورة، رأى، في مقال بعنوان «شبح ثلاث حروب يهدّد التفوّق الأميركي»، أن «إدارة جو بايدن تواجه ثلاث أزمات تتضمّن بعداً عسكرياً، تُمثّل مع بعضها التحدّي الأكبر للقوّة الأميركية العالمية منذ نهاية الحرب الباردة». هو يشير إلى أن بعض المحلّلين، وبينهم كارل بيلدت، رئيس وزراء السويد الأسبق، يعتقدون بأن «الأطراف التحريفية»، أي الساعية إلى تغيير النظام الدولي، تشنّ هجوماً منسّقاً ضدّ واشنطن، ويدعون صنّاع القرار الغربيّين إلى التفكير في إمكانية اجتياحٍ متزامن لأوكرانيا وتايوان من قِبَل روسيا والصين، يفضي في حال حصوله إلى انقلاب جذري في ميزان القوى الإجمالي على صعيد الكوكب. ومع أن راشمان لا يتبنّى مثل هذه الفرضية حتى اللحظة، إلّا أنه يبدي قلقه من كلام مسؤولين أميركيين عن إمكانية التوصّل إلى ترتيبات مع روسيا في أوروبا: «إن قدّمت واشنطن تنازلات حيال التهديدات الروسية لأوكرانيا، فإن الصين ستُضاعف من ضغوطها على تايوان، وإيران ستسرّع من تطوير برنامجها النووي». ووفقاً له، فإن إدارة بايدن لن تسحب الخيار العسكري عن الطاولة بالنسبة إلى «الأزمات الثلاث»، غير أنها ستُغلّب الضغوط الاقتصادية والمالية، مُتوقّعاً عقوبات ضدّ روسيا والصين، شبيهة بتلك المفروضة على إيران في حال مهاجمتهما لتايوان وأوكرانيا، ليختم قائلاً بأننا قد لا نكون أمام اندلاع لحرب عالمية ثالثة، لكننا سنشهد نهاية للعولمة. ولا ريب في أن مثل هذه الخاتمة، أي نهاية العولمة، هي الكابوس الأفظع بالنسبة إلى القطاع الأعظم من أوساط المال والأعمال في الغرب، والذي يحفّزها على حضّ الإدارة الأميركية وحلفائها على البحث عن تسويات واقعية تحول دونه.
تقدير ميزان القوى الدولي الإجمالي، من جهة خصوم الولايات المتحدة، تعكسه جيّداً مقابلة لسيرغي كاراغانوف، رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع في روسيا، نُشرت على موقع «رشا إن غلوبال أفيرز» بعنوان «الحرب الباردة الجديدة بدأت، وروسيا والصين تنتصران على غربٍ يَضعف». وكاراغانوف خبير مؤثّر، وثيق الصلة بالنخبة السياسية والاقتصادية الروسية، وكان مستشاراً للرئيس فلاديمير بوتين، وهو صاحب العقيدة التي تحمل اسمه، والتي تنصّ على وجوب دفاع روسيا عن الأقلّيات الروسية المنتشرة في البلدان المجاورة لها، والتي باتت سياسة رسمية مُتّبعة من قِبَلها. يجزم كاراغانوف أن شروط المواجهة في الحرب الباردة الجديدة، وأهمّها تحالف روسيا والصين، وعلاقاتهما الوطيدة مع مجموعة واسعة من الدول على أسس مصلحية لا إيديولوجية، وعملية البناء الأوراسي التي تمضيان بها، لا مجال لمقارنتها بتلك التي خيضت خلالها الحرب الباردة السابقة. يمتلك البلدان وحلفاؤهما اليوم مقوّمات اقتصادية وعلمية وتكنولوجية وعسكرية وموارد وثروات هائلة، تخوّلها الانتصار في هذه المجابهة الاستراتيجية، في مقابل غربٍ يعاني من تراجع في القدرات الإجمالية، ومن اختلالات داخلية وانقسامات عميقة في صفوفه. عالمٌ صاعد تشتبك بعض أطرافه الرئيسة مع قوة مركزية متراجعة في عالمٍ ينحدر. هذا هو تقدير الموقف لدى خصوم واشنطن في بكين وموسكو وطهران، وهو يَحكم بقدر كبير سياساتهم حيالها.
اتّساع حالة الحرب
إذا تمّ استبعاد خيار العملية العسكرية الكبرى بمشاركة أميركية ضدّ المنشآت النووية الإيرانية، والتسليم بأن إسرائيل لن تُقدِم على عملية بهذا المدى وحدها لأثمانها المهولة بالنسبة إليها، يصبح الخيار الواقعي الوحيد أمام التحالف الإسرائيلي - الأميركي، في حال فشل مفاوضات فيينا، هو تصعيد الحرب الهجينة. هذا ما يعتقده ناحوم بارنياع في «يديعوت أحرونوت»، عندما يؤكد أن إيران، بفضل المعارف التي راكمتها في المجال النووي، وكذلك التجهيزات، والإرادة السياسية الصلبة التي تتمتّع بها، تتصرّف وكأنّها أصبحت دولة - عتبة، مضيفاً أن الاحتمالَين المطروحَين أمام إسرائيل سيّئان: إمّا إيران تُخصّب اليورانيوم بنسبة 90%، لكنها مفقَرة، وغارقة في أزمة اقتصادية عميقة، ومعزولة دولياً، وحكومتها مكروهة داخلياً، وإمّا نظام يُخصّب بنسبة 60%، وقام بتطبيع علاقاته مع العالم، ويغدق المال على «حزب الله» و«حماس» والصناعات العسكرية لديه. لا يخفي برنياع أنه يفضّل الاحتمال الأوّل، على اعتبار أن إسرائيل تستطيع، في حال رجحانه، تكثيف «عمليات ما دون الحرب»، وتوسيع نطاقها، كما جرى في قصفها الأوّل من نوعه لميناء اللاذقية، من دون ظهور ردود فعل دولية مستنكِرة. بنظره، فإن الهدف في هذه المرحلة ليس شنّ حرب مفتوحة على إيران، بل توجيه ضربات صغيرة موجعة لها، تُفضي، مع الحصار الخانق، إلى انهيار نظامها. هي نفس رهانات الثنائي بنيامين نتنياهو - دونالد ترامب، ولكن في ظرفِ استعار حالة الحرب في أنحاء مختلفة من المعمورة. في هكذا ظرف، ليس من المستحيل أن تلجأ قوى محور المقاومة إلى ردّ أقوى على العمليات الإسرائيلية، وإلى وسائل وأدوات غير مستخدَمة إلى الآن. فمن بين نتائج حالة الحرب المتّسعة تدريجياً والمتعدّدة الأوجه، خاصة مع اشتدادها المتوقّع، إطلاق العنان للخيال والمبادرات، وتوسيع أفق الممكن.
إقرأ المزيد في: مقالات مختارة
20/11/2024
في بيتنا من يتبنّى فهم العدو للقرار 1701!
19/11/2024
محمد عفيف القامة الشامخة في الساحة الإعلامية
19/11/2024
شهادة رجل شجاع
13/11/2024
في أربعين السيّد هاشم صفي الدين
07/11/2024