معركة أولي البأس

مقالات مختارة

عن إيران والدبلوماسية الثورية
16/04/2021

عن إيران والدبلوماسية الثورية

منذ العام 1979 تواجه إيران نطاقاً واسعاً من الضغوط الدبلوماسية لتغيير سلوكها، أو هدم نظامها، في وقت يُثبت قائدها السيد علي الخامنئي أنها كانت نموذجاً من النماذج الفريدة في المقاومة السياسية والتعبئة المعنوية، ما منع الأعداء من كسر إرادتها وفرض مشيئتهم عليها. والدليل الأبلغ خروجها منتصرة من معركة التفاوض الأضنى والأشد في تاريخ العلاقات الدولية، من دون أن تتمكن أميركا وحلفاؤها من فرض شروطهم الإكراهية، في ما اصطلح عليه بـ«الملف النووي». في الحقيقة، لم تكن أميركا ومعها الدول التي تشاركها القيم والمصالح تواجه قوة نووية، بل قوة ثورية. لا بالمعنى الأيديولوجي والعسكري والاقتصادي فحسب، بل حتى بالمعنى الدبلوماسي، إذ تجتمع عناصر الإيمان الديني والنضال المبدئي والعمل المبدع والعقلانية والخبرة والجودة والحس الفني والمهارة والشجاعة، لـ«تعكس قوة النظام الإسلامي وعزته».

وإذا كان تعبير «الثورية» يفرض في المقام الأول تراكم نوع من السلوكيات والممارسات، فيكفينا الإشارة هنا إلى ما طرحه الإمام الخامنئي الذي عايش الثورة ركناً أصيلاً فيها، منذ انطلاقتها حتى هذه اللحظة من عمر الدولة، واضعاً أهم محددات هذه الدبلوماسية:

أولاً: الحفاظ على التوجه الإسلامي عبر إظهار الإيمان الديني والالتزام بمعاييره من دون تردد ولا خوف. بل إنّه يعتبر أنّ مصدر القوة كامن في هذا البعد الروحي المعنوي، لا بالاستناد إلى عوامل القوة الظاهرية، كالمال والسلاح والثروة والعلم على أهميتها. وشدد على أنّ الروحيات الإسلامية والتمسك بالإسلام واللجوء إلى المبادئ الإسلام تعطي إيران قدرة الوقوف «في وجه أكبر قوة في العالم، وترفض كلامها وبجرأة».

ثانياً: الحفاظ على العظمة الثورية: من خلال عدد من السياقات.

أ- إبراز الشجاعة في مواجهة غطرسة الأعداء والقوى العظمى وتهديداتهم، وعدم السماح لأي دولة بالتعامل مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بفوقية، وضرورة إبداء الصرامة تجاه ذلك.
ب- سيادة العقل والمنطق على القرارات والتحركات الدبلوماسية.
ج- إظهار الأهداف السياسية بشكل واضح والتصريح بها بصوت عال.
د- إرساء فكرة رفض الهيمنة والخضوع ونظام السيد والرعية على مستوى العالم.
ه- الاستقلالية وعدم القبول بأي شكل من أشكال الضغوط في ما يتعلق بإقامة العلاقات أو الموافقة على قرارات ترتبط بتوجّهات وإجراءات تخالف مصلحة الإسلام والنظام.
و- إعلان العداء للدول غير الشرعية كالكيان الصهيوني أو المتطاولة والمعتدية كالولايات المتحدة الأمريكية.
ز- توطيد العلاقات مع الدول الغربية بالاستناد إلى القوة والحجة من دون المساومة على القيم والمبادئ.
ثالثاً: الدفاع عن هوية النظام الإسلامي في المحافل الدولية. وهذا يتطلّب من الدبلوماسيين معرفة موقع إيران الجيو - سياسي والاستراتيجي، وبأي اتجاه يجب التحرك. ولأنّ الدبلوماسية حرب، يوصي الخامنئي الدبلوماسيين بأن يكونوا دوماً « في حالة مواجهة ومجاهدة وعمل»، وعدم التواضع تجاه القوى الدولية التي لا يرضيها إلا أن تتخلى إيران عن هويتها الإسلامية ومصادر قوتها وعظمتها.
رابعاً: الالتزام بمبدأ «لا شرقية ولا غربية». فهذا المبدأ هو أصل وليس سياسة يمكنها أن تتغير وتتبدل بحسب الظروف. ولهذا يوصي الخامنئي اعتباره «كبيت شعر يجب تكراره بشكل دائم»، لأنّه الأساس في قوة السياسة الخارجية وعدم تبعيتها للقوى الكبرى في الشرق والغرب.
خامساً: تشكيل المجموعات الدولية وإيجاد العلاقات وتقويتها بناءً على الفكر والعقيدة والنهج الإسلامي. الخامنئي يطلب من الجهاز الدبلوماسي توسعة الحضور في الخارج وصنع الأصدقاء وفتح الآفاق وتوفير الفرص. فهذا الجهاز تقع على عاتقه إيصال رسالة الجمهورية الإسلامية إلى العالم، والتعريف بالثورة وأهدافها، والوقوف كسدّ في وجه الهجمات.
سادساً: التوجه في العلاقات الندّية السليمة نحو آسيا، أي إلى الشرق، من دون فك الارتباط الكلي مع الغرب.
سابعاً: كسر حاجز التهميش الدولي في العلاقة مع الدول الأفريقية، والتوجّه إلى تلك الدول إن لم يكن من البوابة السياسية فليكن من البوابة الاقتصادية، لتعزيز الارتباط العاطفي معها، ما يعطي العلاقات الدولية رونقاً آخر تحضر فيه حتى تلك الدول الهامشية والفقيرة.

لقد نجحت إيران خلال الأعوام الأربعين الماضية في اختراق الميادين الدولية ونسج علاقات وشراكات مع دول عديدة، رغم سياسات التشويه والتدمير التي مورست من قبل أميركا ودول مختلفة في العالم. واستطاعت أن تُبرز نموذجاً في السياسة الخارجية يعتمد التوفيق في إقامة «العلاقات السليمة والمنطقية التي تحفظ الحرمة الثورية للشعب»، وفي الوقت نفسه تدافع عن الشعوب والحركات الثورية في العالم. وبعد كل هذه الجهود لم تعد إيران، بفضل دبلوماسيتها النشطة والفعّالة وتجربة دبلوماسييها وكفاءاتهم، جزيرةً معزولة في هذا العالم، بل هي اليوم بشعاراتها، وبالراية الثورية التي ترفعها، مصدر تأثير على مساحة كبيرة خارج حدودها. لم تبد التراخي والليونة في مواقفها التفاوضية، ولم تُظهر الضعف والتساهل بشأن مصالحها الاقتصادية والعسكرية، وحوّلت التهديدات إلى فرص، وخلقت ديناميات جديدة ستترك أثرها الكبير بلا شك على صعيد التحاور البنّاء والالتزام بالعهود وإدارة الأزمات وفض النزاعات بين الدول.

بعد التفاوض بشأن الملف النووي الذي دام أكثر من عقد من الزمن، وظفت فيه أميركا وحلفاؤها كل الاستراتيجيات التفاوضية لإخضاع إيران، تمكّنت الجمهورية الإسلامية ـــ بفعل دبلوماسيتها الذكية والصلبة ـــ من الخروج من الصعوبات التي تسبّبت فيها العقوبات. وفي المقابل، ها هي تواصل خياراتها الاستراتيجية الإقليمية والصاروخية والنووية. وقد استطاعت كذلك اختراق جدار العزلة الدولية بشراكة واسعة مع الصين تمتد لربع قرن من الزمن، وتستعد لعقد اتفاقية مماثلة مع روسيا، لتستكمل تحصين جبهتها وامتداداتها الاستراتيجية وصدارتها الإقليمية.

الدبلوماسية الإيرانية أثبتت أنّ تحدّي الهيمنة الأميركية والأوروبية ليس مستحيلاً، وأنّ بالإمكان خلق شبكة من التوافقات الدولية لا تعيد التوازن إلى الحياة الدولية فحسب، بل تدفع باتجاه خلق ثقافة وحضارة جديدتين وسياق جديد من السياسات، قادر على النظر إلى السلام من خلال مراعاة القوانين العادلة وقواعد التعاون بين الشعوب، لا من خلال دخان الحرب ونارها كما يقول كيسنجر.

صادق النابلسي (أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية) - صحيفة الأخبار 

 

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة

خبر عاجل