فلسطين
يوم الأرض.. صراعٌ على الوجود وتحدّياتٌ قائمة
هيثم أبو الغزلان
استخدم الكيان الصهيوني كلّ أساليب التّرهيب والتّرغيب في محاولة لتدجين وإخضاع الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة منذ العام 1948. وكانت المفاجأة في الانعطافة الحقيقية التي لم يتوقّعها الاحتلال، عندما انتفض الفلسطينيون في 30 آذار 1976، دفاعًا عن الأراضي المصادرة، وحماية للهوية الوطنية، وتأكيدًا على الارتباط الوثيق بين كلّ مكوّنات الشّعب الفلسطيني، وعلى الوحدة الجغرافية لأرض فلسطين التّاريخيّة في مقابل محاولات المصادرة والإلغاء والتهميش التي هدفت إلى إبقاء التّعامل مع فلسطينيي 48، باعتبارهم شأنًا داخليًا "إسرائيليًا".
التجربة نفسها تعمل سلطات الاحتلال على تنفيذها مرة أخرى ضد أبناء النقب الذين يخوضون صراع وجود على الأرض، وتُمارس ضدّهم مخططات المصادرة والاقتلاع وخطر التهجير وتغييب كل مقومات الحياة. ولطالما اعتبر الصهاينة أنّ قضيّة فلسطينيي الداخل المحتل هي قضيّة وجوديّة، وعلى هذا أكّد أحد المؤرخين "الإسرائيليين الجدد" "إيلان بابه"، حين كتب أنّ هذه القضيّة "لا تتعلّق بالحقوق بل هي وجوديّة، لأنّهم ببقائهم قد أفشلوا المشروع الصهيوني".
لقد بات واضحًا أنّ الصّراع مع الاحتلال الصهيوني هو صراع على الوجود، وإن ادّعى البعض غير ذلك. فهذا الصراع كما ورد في كتاب الباحث كمال الخالدي (الصراع الفلسطيني الصهيوني إلى أين؟)، هو "ظاهرة لا تماثلها ظاهرة أخرى في التاريخ، فهي تختلف في جوهرها عن كل ظواهر الاستيطان التي عرفتها البشريّة، كما أنّها تختلف اختلافًا جذريًّا عن أيّ مجتمع إثني أو متعدّد القوميات".. فالاستيطان عنصر رئيسي من عناصر إقامة دولة اليهود في فلسطين، باعتباره وسيلة عمليّة تهدف إلى تهويد فلسطين وإقامة الكيان الاستيطاني فيها وتزويده بالعنصر البشري باستمرار لتقوية طاقاته العسكرية والاقتصادية والبشرية.
مشروع "إسرائيل" في فلسطين هو نتاج مشروع استعماري، تلتقي فيه المصالح، ويُغذّي كلٌّ من المركز والأطراف الآخر، ويعطيه أسباب الحياة والاستمرارية والبقاء والتّطور في إطار وظيفة كلٍّ منهما تجاه الآخر وبالتّعاون معه في مخطط إدارة المنطقة العربية. وهذا يعكس الأزمة المزدوجة التي تعيشها أمتنا، بأنها ذات وجهين لا ينفصل أحدهما عن الآخر: الاستعمار والقابلية للاستعمار. الاستعمار من خلال الهجمة الغربية الاستعمارية لإبقاء الهيمنة على العالم وبالأخص على عالمنا العربي والإسلامي، وفي المقابل هناك سبب ذاتي داخلي هو القابلية للاستعمار ما مكّن هذا الاستعمار وقوّاه في هذا المجال من خلال واقع التخلف والتبعية والتغريب وإقامة الكيان الصهيوني كحارس للتفتيت والتجزئة.
واستخدام سياسة التطهير العرقي من قبل العصابات الصّهيونيّة المُسلّحة قبل العام 1948، جاء ضمن إستراتيجية متكاملة جسّدت النّزعة الأيديولوجيّة الصّهيونية في محاولةٍ لجعل فلسطين لليهود حصرًا وإخلائها من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. لتكريس ذلك، قامت بارتكاب المجازر المروّعة، حيث تم توثيق أكثر من 50 مذبحة، وتدمير (531) قرية ومدينة فلسطينية بالكامل، وجعل أكثر من (75 %)، من مجمل الفلسطينيين في عداد اللاجئين يتوزّعون في أرجاء العالم. ولذا لم تكن قرارات مصادرة الأرض الصادرة عن سلطات الاحتلال الصهيوني إلا موافقة عملية للنظرية القائلة: "ما أصبح في يدنا فهو لنا، وما يزال في يد العرب هو المطلوب". وقد عمدت تلك السلطات إلى سرقة الأراضي العربيّة عبر قوانين مختلفة (قانون أراضي البور، الأراضي المغلقة، قانون أملاك الغائبين، المناطق الأمنية، استملاك الأراضي، الإرغام على رهن الأراضي..). وفي سبيل تحقيق ذلك استخدمت أساليب متنوعة من الترهيب والترغيب، ضمن مُحدّد تحقيق هدف الصهيوني ديفيد بن غوريون: "الاستيطان نفسه هو الذي يُقرّر إذا كان علينا أن ندافع عن الجليل أم لا". وأدّى صدور (وثيقة كيننغ 1-3-1976)، عن مُتصرّف لواء الشمال في وزارة الداخلية، لتهويد الجليل، واتخاذ إجراءات سياسية في معاملة الأقلية العربية في "إسرائيل"، إلى إعلان لجنة الدفاع عن الأراضي الاضراب العام في الثلاثين من آذار، والذي قابلته سلطات الاحتلال بردٍّ دمويٍّ واجتياح القرى والبلدات الفلسطينية ما أدّى إلى استشهاد 6 مواطنين وإصابة العشرات بجراح.
لقد كانت انتفاضة يوم الأرض ردًّا على مصادرة الأرض، وتخصيصها للمستوطنات الصهيونية، وتأكيداً على التشبّث بهويّة ووحدة الشعب الفلسطيني، وحقّه في الدّفاع عن وجوده رغم عمليات القتل والإرهاب والتّنكيل التي يُمارسها الاحتلال بهدف إبعاد الفلسطيني عن أرضه ووطنه، لتحقيق هدف الحركة الصهيونية في تبديد الشعب الفلسطيني، وتشكيل قاعدة عدوانية نشطة مستقرة داخليًا وقوية وقادرة على أن تفرض ما تريد على محيطها، وأن تحقّق للمشروع الإمبريالي دور العصا الغليظة التي تطوّع كل المعترضين على هذا المشروع. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تحقّق ذلك؟
إنّ القراءة الموضوعية تشير إلى تعثّر المشروع الصهيوني الذي بات يواجه مأزقًا وجوديًا يزداد تعمّقًا بفعل المقاومة داخل فلسطين وخارجها، مقاومة الشعب الفلسطيني التي لم تتوقّف وواجهت الغزوة الصهيونية منذ بداياتها؛ فكانت أول مواجهة في 1882، قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، ثم تتالت الانتفاضات والثورات (1920، 1921، 1928، 1929، 1933، 1936.. 1939، 1948، 1965، 1967، 1982، 1987، 2000، 2008، 2012، 2014..). هذه المقاومة زادت في اتّساع الهوّة بين "الحلم والحقيقة"، كما يقول الرّوائيّان الصّهيونيّان "عاموس عوز" و"ديفيد غروسمان" في مقابلة لهما مع (هآرتس)، ما يشير إلى التّشكيك الوجودي والمستقبلي لوجود الكيان الصهيوني، رغم ادّعاءات التفوّق، وفي الوقت نفسه، يطرح بشكل جدّي سؤال المصير في ظل ما يجري حول "إسرائيل" من أمور "مرعبة". فقد وصف رئيس أركان الجيش "الإسرائيلي" السابق غادي آيزنكوت، في مقال نشرته (يديعوت آحرونوت)، التهديد الذي يواجه الكيان بأنّه يتمثّل بالشرخ الداخلي للدولة الآخذ بالتعمّق، وانعدام القدرة على تشكيل حكومة مستقرة. وأن "التحديات الأمنية" التي تواجه كيانه: "الحلبة الفلسطينية"، وسوريا، ولبنان، وإيران، لا تشكّل "تهديدًا وجوديًا" على كيانه. ولكنّه يدعو كيانه إلى التصرف "وفقًا لمبادئ الأمن القومي" ذات الأبعاد العسكرية والمجتمعية على حد سواء لمواجهة التحديات القائمة، من خلال التصرف ـ بحسب آيزنكوت ـ مستقبلًا وفقًا لاستراتيجية دفاعية تهدف إلى ضمان الوجود، ودرء التهديدات وإرجائها لضمان فترات طويلة من الهدوء، بالتزامن مع جهود عسكرية وسياسية استباقية. ويرى أن ذلك مبدأ أساسي للأمن القومي يجسّد رغبة "إسرائيل" في عدم خوض معارك وتأجيل الصراعات بقدر المستطاع. وعلى الخلاف من ذلك، رأت جميع الأحزاب الصهيونية المشاركة في انتخابات الكنيست الرابع والعشرين ـ باستثناء القائمة الموحدة ـ، خلاف كلام آيزنكوت ـ، مشيرين إلى أنّ إيران هي التهديد الأمني الذي يواجه الكيان.
وقد تحوّلت أزمة الهوية بالنسبة لـ "إسرائيل" مِن مَن هو اليهودي؟ إلى أزمة مستمرة، وتشكيك بالبقاء والوجود. فالتآكل داخل الكيان، واستمرار أزمته، عملية تزداد طردًا مع "رفض" و"تمرد" و"مقاومة" الشعب الفلسطيني. وهذا يُبقي الصراع وفق المعادلة الصفرية قائمًا: "إما نحن، وإما هم"، ويعيدنا إلى أسئلة البقاء والوجود التي تثار داخل الكيان نفسه، والذي لم يعد محاطًا بجدار حديدي لا يمكن خرقه، ولم تعد قياداته السياسية والعسكرية والأمنية تحظى بثقة "الإسرائيليين" أنفسهم، ولم يعد الكيان هو الملاذ الآمن لكل يهود العالم، فبات يعاني من "مخاطر نزع الشرعية"، وبالتالي اتّسعت دائرة المخاطر الوجودية التي تتهدّده: الدولة المشتركة الديمقراطية، الدولة اليهودية، الدولة الفلسطينية المستقلة.. وهذا يعني أن أمن الكيان لم يعد مضمونًا كما في السابق، فهو خسر أمام المقاومة في قطاع غزة مثلًا في معادلتي الأمن والاقتصاد، وفشل في تعديل وتكييف العقل العربي الجماعي، ليكون متوافقًا مع المشروع الصّهيوني الرّامي إلى تهويد الأرض وحصر السّكان ضمن محميّات.. وإنّ محاولات "إسباغ الشرعية" على بعض (العرب الفلسطينيين، القائمة الموحدة منصور عباس مثلًا)، الذين تُشكّل قوائمهم بيضة قبان لترجيح أحد المعسكرين "الإسرائيليين" المتنافسين، فإنّها قد تكون مدخلًا لإجراء أي تحوّل سياسي تجاه القضية الفلسطينية؛ وتكشف حدود التّأثير والمسموح والممنوع على العرب في لعبة الدّيمقراطيّة "الإسرائيليّة" في ملعب "اليسار ـ وسط"، في محاولة للاستيعات والتّدجين وإظهار "الصورة الديمقراطية" للكيان! وفي هذا الإطار يشير الدكتور وليد سالم في مقالة له إلى وجود تيارين صهيونيين قديمين – جديدين داخل "إسرائيل": أحدهما يرى تبعًا لحراك العوامل الداخلية والإقليمية والدولية أن يتم الاكتفاء بدولة استيطانية استعمارية مُقلّصة، وعدم السماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين، وإقامة دولة فلسطينية خاضعة للسيطرة الأمنية الإسرائيلية على بقايا الضفة وقطاع غزة، والتيار الثاني ـ بحسب سالم ـ يهتم بفرض حقائق على الأرض جريًا على ما طرحه جابوتنسكي وقبله هرتزل صاحب العبارة المشهورة "إذا أردتها، فإنّها ليست حلمًا". ويرى هذا التيار ضرورة بناء دولة استيطانية موسّعة، تشمل كل الضفة أو اجزاء واسعة منها ومنع إقامة دولة فلسطينية، وتوسيع القدس الكبرى، ورفض عودة اللاجئين، وحصر حقوق فلسطينيي الداخل بالجانب الفردي والديني..
وبناء على ما تقدّم، يرى الدكتور نايف جراد في مقالة له أن الاتجاه العامّ لتطوّر الخارطة السياسيّة في كيان الاحتلال يسير بخطى حثيثة ومتسارعة أكثر فأكثر نحو التطرف اليمينيّ القوميّ الفاشيّ، الذي يعمّق دولة الأبارتهايد ويشرعنها كمنهج وممارسة رسمية، ومعها تنتفي إمكانيّة أي تسوية إقليميّة مع الفلسطينيين، راهنًا وفي المدى المنظور، وأنّ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ماضٍ في مشروعه لحسم صناعة وجوده عبر التأكيد أنّه لا حقّ في تقرير المصير على أرض فلسطين الانتدابيّة لغير "الشعب اليهودي" كما جاء في قانون أساس القومية، وأنّ سياسة التّمييز العنصري و"التّطهير العرقي" تجاه فلسطينيي 48 تتعمق وتزداد، وستتعزز لاحقًا بالمزيد من التشريعات والقوانين.
في الختام، إنّ الصراع ضد المشروع الصهيوني لا يزال يشقُّ طريقًا واضحًا في المقاومة الفلسطينية المختلفة لكلّ أشكال الاستيطان والاستعمار والنهب والتهويد والأسرلة والتدجين، وإن أفشل شعبنا بانتفاضاته المتكرّرة أهدافًا صهيونيّة، وشكّل ذلك تحوّلًا في مسيرة شعبنا وتضحياته كما في يوم الأرض، إلا أنّ الخطر الاستيطاني يستمر بوتائر مرتفعة مصحوبًا بحملة استيطان شرسة في كل الأرض الفلسطينية، وبخاصة في مدينة القدس المحتلة والنقب، ما يستدعي إعادة الاعتبار لخيار الجماهير التي خرجت في يوم الأرض، من أجل الحفاظ على الأرض والدفاع عنها، ومواجهة المشروع الصهيوني الاستيطاني التوسّعي.
إقرأ المزيد في: فلسطين
30/10/2024