خاص العهد
من التربية الجهادية إلى الوعي الجماعي: مسار متجدّد لترسيخ الثبات والانتصار
تحت عنوان "التربية الجهادية والثبات بعد المعركة"، عُقد لقاء تربوي في مركز الأبحاث والدراسات التربوية بحضور الشيخ الدكتور محمد شقير وجمع من أهل العلم والاختصاص، حيث شكّل محطة للنقاش حول قضايا الثبات والوعي بعد المحن والصدمات. وقد أكّد المشاركون أهمية الاعتبار من التجارب الماضية، والاستفادة من السنن الإلهية في التعامل مع الأزمات، لافتين الى أن الثبات في مواجهة الفتن والأزمات يتطلب يقيناً وإيماناً قويين، مع تحصين الساحة الإيمانية ضد الشبهات والأضاليل.
وفي كلمة له، أكد الشيخ الدكتور محمد شقير، مدير مركز مشارق للبحوث والدراسات الفكرية، أهمية الوعي في مواجهة التحديات الراهنة، قائلًا:"إن المعركة الأساسية ليست في الميدان العسكري فحسب، بل هي معركة وعي وإيمان. إذا انتصرنا في معركة الوعي، سنصل إلى نتائج وخلاصات تعزز الثبات والإيمان، أما إذا انهزمنا فيها، فسنواجه خطر الانزلاق إلى الإحباط والتشكيك".
أبعاد متداخلة وقضايا ملحة
أثارت النقاشات عدة تساؤلات حول كيفية مواجهة الفتن والشبهات التي قد تنشأ بعد انتهاء المعارك، وحول كيفية تعزيز المنهج التربوي ليواكب التحديات النفسية والاجتماعية للمجتمع المقاوم. وشدد المشاركون على أهمية مراجعة السياسات التربوية والخطاب التعبوي ليتلاءم مع تطورات المرحلة.
التربية الجهادية: بين القيم والنصر
تناول الشيخ شقير في مداخلته فلسفة النصر والهزيمة، مؤكداً أن مفهوم الفشل في المنظور القرآني لا يعني الهزيمة المطلقة، بل قد يكون محطة لقراءة الواقع واستنهاض الإرادة.
وأشار إلى أن معركة الوعي تمثل الركيزة الأساسية للتعامل مع الأزمات، قائلاً: "الحرب النفسية أخطر من المعركة الميدانية، لأنها تستهدف زعزعة الإيمان واليقين".
كما استعرض الشيخ تجارب تاريخية، أبرزها شهادة الإمام الحسين عليه السلام في عاشوراء، حيث حوّلت الفاجعة الكبرى إلى ديناميات ثقافية واجتماعية حافظت على هوية الأمة ورسالتها ما خدم مدرسة أهل البيت كعاشوراء، حيث تجلت الإرادة وتخصّب الوعي.
التاريخ يُعيد نفسه: من النكسات إلى النصر
وتطرق إلى تجارب مشابهة من التاريخ الحديث، مثل الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان عام 1982، وما تبعه من تأسيس مشروع المقاومة الذي ما زالت نتائجه ملموسة حتى اليوم. واستشهد الشيخ شقير بهذه التجربة، قائلاً: "ما بدا نكسةً حينها، أثمر مقاومةً أذهلت العالم بإنجازاتها".
وأكد أهمية رؤية الأحداث ضمن سياقها التاريخي وعدم اختزالها بنتائج آنية. وأضاف: "قد يكون الفشل اللحظي مدخلاً لانتصار كبير إذا ما تم التعامل معه بعقلانية ووعي".
التحديات والفرص
ناقش الحضور التحديات التي تواجه المجتمعات بعد الأزمات الكبرى، بدءاً من فقدان القادة وصولاً إلى الضغوط النفسية والاجتماعية، واتفقوا على ضرورة وضع آليات تربوية تعزز الثبات والوعي، مع التركيز على الجوانب الإيمانية والروحية.
البعد الروحي: فلسفة الرضا والتوحيد في الأزمات
وبيّن الشيخ شقير في النقاش أهمية تعزيز قيم التوحيد والإيمان العميق كأحد أعمدة التربية الجهادية، مع الاستشهاد بمواقف السيدة زينب (ع) في كربلاء، فرغم المصيبة الكبرى، كانت رؤيتها ترتبط بعمق بالإيمان بالقضية والبعد الأخروي،إذ إن هذا المنظور يجعل الإنسان قادراً على تحويل المشاهد المؤلمة إلى جميلًا، كما عبّرت السيدة زينب بقولها الشهير: "ما رأيت إلا جميلًا".
وأوضح النقاش أن هذا التصور يعكس جوهر التوحيد الذي يربط بين الحوادث الدنيوية والإرادة الإلهية، ما يساعد على رؤية الأزمات بمنظار أوسع يتجاوز الظواهر السطحية، ليدرك الإنسان الحكمة الإلهية وراء كل حدث.
القيادة الإلهية: الله في الميدان
أشار سماحة الشيخ شقير إلى أن التربية الجهادية تضع الله سبحانه وتعالى في موقع القائد الحقيقي للميدان، مستشهداً بآيات قرآنية تُعلي من دور الإيمان في المعركة. ولفت النظر إلى الآية التي تتحدث عن "ربيون" قاتلوا مع النبي، مؤكداً أن هؤلاء الجنود كانوا موحدين توحيداً ربانياً يجعلهم يرون الله قائداً للميدان والجهاد.
هذا الفهم يساهم في تعزيز الثقة لدى الأفراد، حيث لا يتوقف الأمر على غياب قائد أو استشهاد مجاهد، بل يستمر العمل في ظل الإيمان بأن الله يدير المعركة.
التحول من الحزن إلى الرضا
ناقش أهمية الانتقال من خطاب الحزن إلى خطاب الحمد والرضا بقضاء الله، مستدلين بالقرآن الكريم الذي يحث على عدم الاستسلام للحزن، كما في قوله: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين". وفسر الأعلوية هنا بأنها لا ترتبط بالغلبة العسكرية، بل ترتبط بالأعلوية القيمية والروحية التي يتمتع بها المؤمنون.
ولفت إلى أن الحزن المفرط يؤثر على الأداء والنظرة العامة للحياة، ويؤدي إلى الوهن، ومن هنا تأتي أهمية تعزيز التربية الجهادية التي ترتكز على القيم الصلبة والرضا بقضاء الله لتحريك الإرادة واستدامتها.
الإرادة هي الأساس
وشدد مدير مركز مشارق للبحوث على أن الإرادة هي العامل الحاسم في تحقيق النصر، مشيرين إلى أن الإرادة لا تُهزم طالما استندت إلى قيم صلبة وإيمان واعٍ. وقال الشيخ شقير: "طالما الإرادة لم تنكسر، فهذا يعني أن القيم التي تستند إليها الإرادة ما زالت صلبة".
وأضاف أن "النصر لا يُقاس فقط بمقاييس الغلبة الظاهرية، بل بمدى التمسك بالقيم، وتحقيق الأهداف النبيلة التي ترفع من شأن الأمة على المستويات كافة".
إرادة لا تهن وشباب من طينة الأبطال
خلُص النقاش إلى أن إرادة المقاومة لا تضعف ولا تهن، مستندة على قيم إيمانية راسخة وشباب يحملون روح التفاني والعطاء، كأبطال الطف وكربلاء. هذه الروح تتجلى في مواقفهم التي تمزج بين التضحية والجمال، كما هو الحال في مشهدية عاشوراء التي لم تُرَ إلا جميلًا.
وأشار الشيخ شقير إلى قصص واقعية لشهداء أظهروا شغفًا عارمًا للجهاد والتضحية، حتى على حساب احتياجاتهم الشخصية. هذا النمط من الشباب يجسد الجمال الحقيقي للإيمان والعمل المقاوم، حيث يتحول الألم إلى مصدر إلهام وحافز للتقدم.
القيم الخلاقة: من الألم إلى الجمال
أوضح النقاش أن القيم التي ترتكز عليها المقاومة ليست مجرد شعارات، بل هي عقيدة خلاقة تمتد جذورها إلى عاشوراء والإمام الحسين (ع). هذه القيم تنقل المجتمع من حالة الحزن إلى حالة الحمد والرضا، وتحفز الإرادة الجماعية للاستمرار في المواجهة، رغم التحديات القاسية.
كما أُشير إلى أهمية الدور الثقافي والتربوي الذي تلعبه هذه القيم، خصوصًا في خلق جيل قادر على الثبات في مواجهة الظروف الصعبة، وتحويل التضحيات إلى مكاسب روحية ومجتمعية.
الإعلام والتحدي: صمود في وجه التوحش
تحدث المشاركون عن دور الإعلام المقاوم في تحفيز إرادة التحدي، رغم المحاولات الإسرائيلية لكسر الإرادة وكي الوعي من خلال التوحش والقمع. وأكدوا أن النتائج كانت عكسية، حيث زادت هذه المحاولات من مشروعية فعل المقاومة، واستفزت إرادة التحدي لدى المجتمع المقاوم.
وأشار سماحة الشيخ إلى تجربة حرب تموز 2006، حيث استطاع المجتمع تحويل المعاناة إلى مصدر قوة، رافضًا الانصياع لإملاءات الإعلام الموجه.
إدارة الشهادة: حضور أقوى من الغياب
تمت مناقشة مفهوم إدارة الشهادة كقوة ناعمة تجعل الشهيد أقوى حضورًا وتأثيرًا من حياته. واستشهد سماحة الشيخ بالتجربة المهدوية وغياب الإمام المهدي (عج)، حيث يُستحضر الحضور المهدوي كعنصر تحفيز مستمر.
وتم طرح تساؤل جوهري: هل يمكن أن تكون الشهادة أقوى تأثيرًا ومصداقية من النصر العسكري؟ وأشار النقاش إلى أن الشهادة تمنح المصداقية للقضية، وتُبرز قوة الرسالة بعيدًا عن الانتصارات المادية.
نحو مجتمع قوي ومستدام
كما تطرق سماحته إلى أهمية الانتقال من محورية الأشخاص إلى محورية القضية، مشيرًا إلى أن تجربة الإمام روح الله الخميني (قده) بعد وفاته تُعد مثالًا حيًا على ذلك، حيث استمر نهجه من خلال الأمة والمؤسسات التي بناها.
وشدد على أن الثبات والإيمان والوعي هي الأسس التي تقوم عليها الإرادة الجماعية، وأن هذه القيم تُمكّن المجتمع من التعويض عن الخسائر، وإعادة بناء القوة بطريقة أكثر صلابة واستدامة.
ورأى أن المقاومة ليست مجرد معركة عسكرية، بل هي مشروع ثقافي، عقائدي، واجتماعي يمتد ليشمل كل جوانب الحياة. وإذا استطاع المجتمع امتلاك هذا الإيمان والوعي، فإنه قادر على الثبات في وجه التحديات، وتحقيق النصر الذي ينبع من صبره ويقينه، كما جاء في دعاء القرآن الكريم: "أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا".
وخلص اللقاء في الختام إلى النقاط التالية:
1. التربية الجهادية والتوازن: هناك حاجة لتربية متوازنة تمزج بين العقل والوجدان، وبين الحدث وسياقه التاريخي. هذه التربية يجب أن تستثمر ما حصل كفرصة للتطوير والبناء.
2. البعد الإيماني والقرآني: الاستفادة من التربية القرآنية والرسالية لتعزيز الإرادة والوعي والبصيرة في مواجهة الأزمات. مثل هذه القيم تسهم في تحويل الحزن إلى رضا والتحدي إلى فرصة.
3. الوعي التاريخي: ضرورة النظر إلى الأحداث بمنظار تاريخي لفهم دورها في تحقيق انتصارات مستقبلية. التركيز على المراجعات الدائمة للوصول إلى تصحيحات استراتيجية مفيدة.
4. الجمال في الشهادة: تقديم الشهادة كقيمة عليا تمتلك تأثيرًا أعمق وأقوى من النصر المادي. الشهادة تُظهر المصداقية وتبرز قوة الرسالة التي تحملها الأمة.
5. محورية الأمة بدل الأفراد: الدعوة إلى الانتقال من الاعتماد على كاريزما الأفراد إلى التركيز على حضور الأمة ككل، واستثمار الطاقات الجماعية لتحقيق الأهداف.
6. استيعاب التحديات: الإشارة إلى أهمية الاعتراف بالتحديات والانتقادات، والعمل على إيجاد إجابات واضحة وشافية للشباب وللأجيال الجديدة التي تبحث عن فهم لما حدث.
7. إدارة المواجهة: التأكيد على أن مراجعة الأخطاء لا تعني جلد الذات، بل هي فرصة لتطوير القدرة على المواجهة المستقبلية بشكل أكثر فاعلية.
8. الرسالة المستمرة: اللقاء يُعتبر بداية لنهج مستدام يستهدف معالجة التحديات عبر رؤية تربوية وإيمانية متكاملة، مع وعي بأن الإجابات تحتاج إلى وقت وسعي دؤوب لتحقيقها.
مركز الأبحاث والدراسات التربويةالعدوان الإسرائيلي على لبنان 2024
إقرأ المزيد في: خاص العهد
22/01/2025