خاص العهد
الآثار المترتبة على رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري.. قراءة على المستويين القانوني والسياسي
رأيٌ استشاريٌّ أصدرته "محكمة العدل الدولية" بشأن تقييم العواقب القانونية المترتّبة على "الاحتلال الطويل الأمد والاستيطان والضم" من جانب الاحتلال "الإسرائيلي" للأراضي الفلسطينية، في وقت يعمد فيه الاحتلال "الإسرائيلي" إلى تكثيف أنشطته الاستيطانية وتوسيع مصادرة أكبر مساحات من الأراضي في الضفة الغربية.
هذا الرأي للمحكمة الدوليّة الذي توصّلت إليه هيئتها المكوّنة من 15 قاضيًا، وتلاه رئيسها نواف سلام، أكد أن "استمرار وجود "دولة إسرائيل" في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني"، و"أن الالتزامات التي تقع على عاتق "إسرائيل" تشمل إنهاء وجودها غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة في أسرع وقت ممكن، ووقف جميع أنشطة الاستيطان الجديدة فورًا، وإجلاء جميع المستوطنين من الأراضي الفلسطينية المحتلة"، بالإضافة إلى "تعويض الأضرار التي لحقت بجميع الأشخاص (المتضررين)".
واللافت في هذه القرارات، أنّها حازت تأييد ما بين 11 و14 قاضيًا، وهو بالتالي حدث غير مسبوق، لكنه غير ملزم، فالمحكمة لا تملك أي وسيلة لفرض تطبيق أي من بنوده على "إسرائيل"، لكنّه قرار يحمل قيمة استثنائية تاريخية، ويُعيد النقاش إلى نقطة الصفر بالنسبة إلى الأراضي المحتلة منذ العام 1967، ويسقط كلّ الاتفاقيات التي حصلت بين السلطة الفلسطينية و"إسرائيل" منذ ذلك التاريخ، ولا سيما اتفاق "أوسلو" وما تلاه.
البروفيسور الجامعي رودولف القارح علّق على رأي محكمة العدل الدولية، وقال لموقع العهد الإخباري: "رأي المحكمة جاء بعد طلب تقدّمت به الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل عملية طوفان الأقصى، وأتت مبادرة جنوب أفريقيا لتزخّمه على أثر مجازر الإبادة الجماعية التي يقوم بها العدوّ "الإسرائيلي" وما زال".
وأضاف القارح أنّ "هناك مستويين في قراءة القرار، المستوى القانوني، والمستوى السياسي، ونترك المستويين التاريخي والأخلاقي جانبًا الآن".
في المستوى القانوني، بحسب القارح، "لم تخرج المحكمة المذكورة عن الإطار الأممي الذي رسمه قرار مجلس الأمن رقم 242 (1967) وكمّله القرار 338 (1973). ولو لم تفعل لوقعت المحكمة المذكورة في تناقض كامل وخالفت مرجعياتها، أي الميثاق ومقررات مجلس الأمن (الملزمة) والجمعية العامة (غير الملزمة)".
وإيجابية الرأي المذكور، وفق الخبير في العلاقات الدولية أنّه "يثبت مرجعية القانون الدولي ويؤمن مجدّدًا سندًا ومستندًا قانونيًا لجميع من يواجه اليوم - دولًا ومجتمعات - المشاريع الصهيوأميركية في فلسطين، كما كنا قد أشرنا في مطالعتنا المنشورة في 7 شباط 2024 الماضي في الأخبار والـLibre Belgique مع الصديقين المحامي Jan Fermon والقانوني حسن جوني".
وتابع القارح: "كنّا أكدنا في النص المذكور أنّ القانون الدولي يخضع في التطبيق لموازين القوى على الأرض، ولحركة الشعوب دفاعًا عن العدالة، مع التذكير بأنّ القانون ليس بالضرورة العدالة. وفي هذا السياق لما كانت الأمور لتتعدل - نسبيًّا - لولا الميدان وموازين الميدان والمقاومة، وفَشَل - وإِفشال - خطط العدوّ في الميدان".
وأردف "ثانيًا، وعلى المستوى السياسي، لا بد من التذكير بأنّ محكمة العدل الدولية هي بحكم طبيعتها محمكة سياسية، ذلك أنها منبثقة عن دول، لأنّ الأمم المتحدة هي في طبيعتها اتحاد دول، فمن الطبيعي أن يكون لآراء ومقرّرات المؤسسة القانونية المذكورة - أعلى هيئة قضائية أممية - طابع سياسيّ إلى جانب مرجعياتها التقنية المذكورة أعلاه".
وذكّر القارح بأنّ "تعيين أعضاء المحكمة يتُم من خلال الدول - وفق تقسيمات الأمم المتحدة الإدارية - وهؤلاء يتأثرون أيضًا بضغوط من عيّنهم أو من ضَغَط لتعيينهم".
ومن اللافت، وفق القارح، أنّ "الرأي الاستشاري صدر بإجماع المؤسسة بصفتها الكيان القضائي المرجع"، ومن الواضح أنّ "الإجماع" المذكور والتوقيت يرتبطان بمحاولة المرجعيات الأطلسية وبعض دوائر الأمم المتحدة إحياء ما يُسمّى "حلّ الدولتين". هنا، يصبح "رأي" المحكمة غطاء لمشاريع لفظية تحاول بعض دوائر واشنطن تحديدًا التقدم بها كـ "حلول" لمأزقها بعد فشلها وأداتها الصهيونية في تحقيق مشاريعها في فلسطين بدءًا من غزّة، واستكمالًا في الضفّة الغربية وما يُسمّى الـ48".
وعلى الهامش، يرى القارح، أنّ "تهليل البعض في "سلطة رام الله" يؤكد أيضًا توظيف رأي المحكمة لتعويم افتراضي لمخلفات اتفاقية "أوسلو" المشؤومة والساقطة. لكن فات الكثيرين، أنّ مشروع الإبادة في غزّة أتى لتدمير "أوسلو" على يد أصحاب المشروع الصهيوني الكولونيالي الاستعماري الاستيطاني أنفسهم".
ويستذكر القارح جرف وتدمير التمثال التذكاري لياسر عرفات بتاريخ 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 في رام الله، والذي حصل بعد عملية طوفان الأقصى وفي بدايات هستيريا الكيان، قائلًا: "لا عجب أمام هذا المشهد، أنّهم في الواقع يزيلون "أوسلو". وما لا يعرفونه أن إزالة نصب أبي عمار كرمز لـ"أوسلو" - المشؤومة - هو المسمار الأخير في نعش المحاولة اليتيمة لفرض "تسوية تاريخية" للمشكلة "الإسرائيلية" بالاستفادة من حالة ظرفيّة نجمت عن تقاطع سقوط نظام القطبين مع العدوان على العراق".
وهذه "التسوية التاريخية"، بحسب القارح، "كان فشلها حتميًا بسبب طبيعة المشروع الكولونيالي الصهيوني، وفي هذه اللحظة تمت تصفيتها مع اغتيال رابين وعرفات"، مؤكدًا أنّ "هذا المشهد كان نهاية هذه المرحلة، ونهاية هذه المرحلة هي، باختصار، نهاية الكيان".
باختصار، يضيف القارح، أن "رأي محكمة العدل الدولية ليس سوى محطة جديدة في المسار المتدرّج الحتمي لإنهاء الحالة الكولونيالية في فلسطين المحتلة".
وبخصوص التسويف والمماطلة من قبل المحكمة الدولية للبت بجوهر القضايا الأساسية المتعلقة بصلب الحرب على غزة، قال القارح إنّ "عملية تطبيق مقررات وحتى أي رأي استشاري لمحكمة العدل منوطة بمنظمة الأمم المتحدة وآلياتها التنفيذية وتحديدًا مجلس الأمن. كما أن هذا التنفيذ منوط بالدول الأعضاء"، وأضاف "على أن العرف المعتمد في الممارسة يقضي بأنّ للآراء التي تبديها محكمة العدل قيمة قانونية إلزامية حتى عندما لا يكون الأمر ملزمًا صراحة في إطار النص".
وأردف: "ما يعنينا هنا، وباختصار، ما اعتبرته المحكمة من أنّ "الوجود الدائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير مشروع"، وأنّ "إسرائيل" ملزمة بإنهاء الاحتلال في أقصر مدى ممكن"، بالإضافة إلى أنّ "جميع الدول ملزمة بعدم الاعتراف بهذا الوجود غير المشروع أو المساهمة أو المساعدة على استمراره"، مشدّدة على ضرورة التزام الجميع بهذا الرأي عبر اعتمادها العبارة اللاتينية erga omes، أي أنّ النص يطبق على الجميع دون استثناء".
على أنه بين المبدأ والتطبيق، بحسب القارح، خاصة في الحالة الكولونيالية الصهيونية، مسافة واسعة لأسباب مركّبة عِدّة أهمها حالة الإفلات من العقاب التي تؤمنها للكيان، الولايات المتحدة أولًا، ومعها توابعها في الفضاء الأطلسي وتحديدًا أوروبا.
وأوضح القارح "لنلاحظ أولًا أنّ قرار المحكمة الدولية الصادر في شهر كانون الثاني/يناير الماضي الخاص بالإبادة الجماعية، وهو قرار ملزم بحكم اتفاقية 1948 الخاصة بحالات الإبادة الجماعية، قوبل من قبل العدوّ بمزيد من المجازر والجرائم الواقعة تحت عنوان جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وذلك بمباركة الولايات المتحدة التي تتحمل كامل المسؤولية في الموضوع".
وتابع "أودّ التذكير هنا بأنّ أحد أهم مندوبي الولايات المتحدة في مجلس الأمن في القرن الماضي، باتريك موينيهان، أقرّ في مذكراته أنّ مهمته الأساس في المؤسسة كادت تقتصر على العمل على تعطيل مقررات مجلس الأمن بخصوص فلسطين. وكصدى لموينيهان طالعتنا مندوبة واشنطن في مجلس الأمن، السيدة ليندا توماس غرينفيلد، منذ بضعة أسابيع، وبصلافة قلّ نظيرها، بعد اعتماد المجلس قرارًا بشأن غزة، طالعتنا ببدعة جديدة عندما ادّعت أنّ قرارات مجلس الأمن الدولي غير ملزمة (...)".
وبالإضافة إلى حماية الولايات المتحدة للكيان، يلفت القارح، إلى "أن هذا الأخير يعتبر نفسه خارج القانون الدولي وخارج المساءلة القانونية، بدليل استنفار مسؤوليه السياسيين بالتصعيد في فلسطين ردًا على رأي محكمة العدل".
ويوضح القارح ما ذهب إليه في بداية حديثه لـ "العهد"، أن "هذا الأمر يؤكد مجددًا أنّ تطبيق العدالة في فلسطين يمرّ بالضرورة بتعديل موازين القوى من جهة مع لحاظ أهمية الوحدة الوطنية الفلسطينية، معطوفًا على رفض كامل للرواية الخرافية الصهيونية من جهة أخرى، وإنهاء الوجود الكولونيالي الاستعماري في فلسطين".
فلسطين المحتلةجيش الاحتلال الاسرائيليمحكمة العدل الدولية