خاص العهد
الأملاك البحرية.."المال السايب بعلّم الناس الحرام"
فاطمة سلامة
عندما يُفتح ملف الأملاك البحرية، غالباً ما تجري مقاربته على أنّه قضية معقّدة وشائكة. على الدوام، كان يخضع هذا الملف للكثير الكثير من اللامبالاة والمحسوبيات وسوء الإدارة من قبل الدولة التي بدت حياله وكأنها في سُبات عميق. تارةً تستخدم أسلوب التجاهل، وتارةً أخرى تتابعه على استحياء، وعندما تشُد العزم على التحرك يأتي "ناقصاً" وفيه ما فيه من تدوير الزوايا لحساب المعتدين على هذه الأملاك.
قصةّ لبنان مع المعتدين على الشاطئ اللبناني قديمة وتتجدّد في المواسم. عندما تذهب السكرة وتأتي الفكرة، توضع هذه القضية تحت المجهر، وتخضع للبحث في اللجان النيابية، وتحال حيالها المراسيم من الحكومة الى البرلمان. إلا أنّه سُرعان ما تهمد "الهمة" فتحال المقررات الى الأدراج، وتنام سنوات. الأسباب كثيرة، يقول المتابعون لهذا الملف. شق منها يتعلّق بسياسة تقسيم الكعكة التي لا تزال تتحكم بالعقلية الحاكمة. ثلّة من السياسيين والنافذين يستفيدون ويغضون الطرف عن المخالفات. وشق آخر يتعلّق في الاهمال الذي تتقنه السلطة وغياب الارادة الفعلية لدى الدولة لاسترداد أملاك الشعب "المنهوبة"، ما عرقل أي حل جذري لهذه القضية العالقة منذ عقود.
والملفت في الأمر أنّ تحرك الدولة "الخجول" حيال هذا الملف لا يبرز إلا عندما يصل "الموس" الى رقبة المالية العامة. تماماً كما حصل عندما تقطّعت فيها السبل في البحث عن إيرادات لسلسلة الرتب والرواتب. حينها أدرج اقتراح قانون لـ"معالجة الإشغال غير القانوني للأملاك العمومية البحرية" ضمن مشروع السلسلة كشق يتعلّق بتمويلها من جهة، وبالأحكام التنظيمية لواقع التعديات على الملك العام من جهة أخرى. وقد أعطت الدولة مهلاً للمعتدين لتسوية الإشغال غير القانوني للأملاك ودفع الغرامات المتوجّبة عليهم.
اليوم، وفيما تبدو الدولة عاجزة عن إيجاد "إيرادات" لتخفيض العجز في موازنة العام 2019، يعود الحديث عن ملف الأملاك البحرية كمورد يدر على الخزينة مئات ملايين الدولارات سنوياً إذا ما عزمت الدولة على التعامل مع هذا الملف بجدية. الوزير السابق شربل نحاس يتحدث باستغراب عن إجراءات السلطة الحاكمة حيال هذا الملف. برأيه، المفروض تغيير العقلية الحاكمة عبر الغاء سُنّة التفاوض والتسويات التي تتبعها السلطة مع المعتدين. فبمجرد أن تدخل الدولة في لعبة التسويات تفقد شرعيتها وتصبح شريكة في النهب. يلفت نحاس الى وجود 1100 حالة اعتداء واحتلال للأملاك البحرية والنهرية معروفة وموثّقة لدى الدولة، إلا أنّ سياسة غضّ الطرف مستمرة، خصوصاً من المنتفعين من هذه العملية. وليس أدل على ذلك من الأوراق التي يحملها المعتدون في حوزتهم والموقعة من سياسيين ونافذين يعملون على تغطية المخالفات. هذا الأمر يستدعي من وجهة نظر المتحدّث محاسبة الموقّع على الورقة وحاملها بجرم الاعتداء على الملك العام.
يذهب نحاس أبعد من ذلك، فالدولة غير معترفة أصلاً بالملك العام. تتحرّك على استحياء باتجاه المعتدين، فتطلب منهم تسوية أوضاعهم. أيُعقل أن نتفاوض مع المعتدين؟، يسأل نحاس الذي يرفض فكرة التغريم والتسوية. المفروض أن يغّرم المعتدي ويُزال الاعتداء: إما عبر الهدم أو المصادرة. والمفارقة في الأمر تكمن ـ برأي المتحدّث ـ في أنّ هؤلاء المعتدين لم "يقبضوا" الدولة ويمتثلوا لعروضها. كل الاغراءات التي قدّمتها بما يتعلّق بسوء التخمين، والتخفيضات وأسلوب "التقسيط" لم تؤت ثمارها. 20 بالمئة فقط من المعتدين كلّفوا خاطرهم وعملوا على تسوية أوضاعهم، أما البقية فكأنهم لم يسمعوا الدولة التي وجّهت إنذاراً وهدّدت بالويل والثبور وعظائم الأمور لكل من لا يسوي أوضاعه، وقد تبيّن لاحقاً أنه إنذار كاذب بدليل أنها لم تفعل شيئاً. الأمر الذي يفسح المجال أمام التهرب من جديد. يرفض نحاس فكرة معالجة ملف الأملاك البحرية من باب جلب الايرادات. لا نريد قرشاً واحداً. نريد فقط استراداد الأملاك العامة ونقطة على آخر السطر، يختم نحاس.
400 مليون دولار سنوياً
من جهتها، أجرت "الدولية" للمعلومات دراسة العام الماضي لفتت فيها الى أنّه وبعد تأخير ومماطلة دامت لسنوات عديدة صدر المرسوم الرقم 1573 تاريخ 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2017 باعتماد أسس جديدة لتحديد الرسوم السنوية المترتبة على الترخيص بالإشغال المؤقت للأملاك العمومية البحرية. وقد لفتت الى أن ارتفاع الرسوم مقارنة بما كانت عليه في المرسوم السابق (الرقم 2522/92) الذي يعود إلى العام 1992 جاء خجولاً ودون الأسعار الواقعية الرائجة، إذ تراوحت نسبة الارتفاع ما بين 300% و 2,300%، وبالرغم من هذا الارتفاع الكبير فإن الزيادة تعتبر خجولة.
الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين يعيد تأكيد ما ورد في الدراسة. يُعطي مثالاً على ذلك بأنّ سعر المتر حُدّد في منطقة "سوليدير" بـ 9 ملايين ليرة (هو السعر الأعلى)، بينما كان في الماضي مليون ليرة. وهنا يستطرد شمس الدين بالاشارة الى أنّ القيمة الفعلية للمتر تبلغ حوالى 12 الف دولار، ويجري احتساب تخمين بدل الاشغال عبر "ضرب" المساحة بالسعر بقيمة إيجار تتراوح بين 2 و5 بالمئة لا كما هو حاصل الان ويحتسب 0.5 بالمئة، ما يبرز الفارق كبيراً بين ما هو محصّل وما يجب تحصيله.
ويوضح شمس الدين أنّ مساحة الأملاك المشغولة من المفترض أن تدر على خزينة الدولة سنوياً 400 مليون دولار يُضاف اليها تحصيل غرامات بقيمة ملياري دولار ونصف عن السبع سنوات الماضية، وهو الرقم الذي يتعارض مع حسابات الدولة التي تقول أنّ باستطاعتها تحصيل 40 مليون دولار سنوياً في أحسن الحالات، يُضاف اليها 800 مليون دولار بدل غرامات. وهنا يأخذ شمس الدين على الدولة احتسابها للتعدي من عام 1994، بينما في الحقيقة البدء في المخالفات برز منذ الحرب الأهلية عام 1975 ما يُضيّع على خزينة الدولة الاستفادة من بدل غرامات فارق تواريخ احتساب التعدي.
يختم شمس الدين حديثه بالاشارة الى أنّ الأملاك البحرية تُشكّل مورداً مهماً لخزينة الدولة إذا ما تمت مقاربته بشكل منطقي وجرى ملاحقة المعتدين لتحصيل الأموال المنهوبة.