خاص العهد
رسوم الكاريكاتور.. رصاصات ساخرة في قلب المعركة
لطيفة الحسيني
تفرض حرب الصورة نفسها اليوم على كلّ شيء. تماشيًا مع إنجازات المقاومة في قطاع غزة وفي جنوب لبنان وفي المنطقة، يبرز أهل الفنّ بمُختلف مجالاته على خطّ نُصرة القضية الفلسطينية، يتبّنونها ويعتنقونها وينقلون أشكالها. الكاريكاتور الذي يعود تاريخ ظهوره للمرة الأولى الى القرن السادس عشر وتحديدًا في أوروبا، يبدو اليوم أكثر العروض التعبيرية جماهيرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو في المسيرات الطوفانية التي تجوب العالم دعمًا لغزة.
قد يكون ناجي العلي الذي نذر عمره من أجل فلسطين، وسخّر ريشته كرمى لها، أشهر الشخصيات التي وضعت أُسُس النضال بالرسم الذي يوصل رسائل الإسناد والانتقاد على حدّ سواء. "للكلمة والخطّ المرسوم وقعٌ أقوى من طلقات الرصاص"، هكذا كان يقول. يتّخذ الكثير من تلامِذَته ومَن خَلفَه في المجال من كلامه عقيدة.
الضحك المرّ
هل يؤدي الكاريكاتور اليوم رسالته الفعلية في ظلّ المواجهة المفتوحة مع العدو؟ وما هو سرّ نجاحه وانتشاره؟ يقول الرسّام الفلسطيني الدكتور علاء اللقطة، وهو من أبرز فناني الكاريكاتور على الساحة العربية اليوم، لموقع "العهد" الإخباري، إن "الكاريكاتور هو لغة عالمية سامية في التأثير، وفنّ بصريّ جليّ بل فنّ الصورة المؤثّرة والتعبير الساخر الذي يصل الى العالم كلّه بلا ترجمان أو تفسير"، ويعتبر أن "الكاريكاتور هو بضع ثوانٍ تستطيع أن تبثّ من خلال خطوطٍ بسيطة معانيَ جميلة وعميقة مُمتدّة الأثر".
برأي اللقطة، هذا الفنّ يجد طريقه اليوم الى العالمية والانتشار السريع في ظلّ وجود وسائل التواصل الاجتماعي، غير أنه ينقسم الى قسميْن الأوّل يضمّ من يحملون همّ القضية الفلسطينية ويعتبرونها على رأس جدول أعمالهم، وهؤلاء هم الذي يحملون الريشة الصادقة وصفة رسام الكاريكاتور في الوقوف في وجه الظلم والطغيان، وقيادة عملية الوعي والتحريض للجماهير لتحقيق العدالة ونُصرة قضاياها، أمّا الثاني فيشمل من يأتمرون بالصحف التي يعملون بها والتي تتبع حكومات دولٍ مُطبّعة أو داعمة للسلام مع الاحتلال، هذا القسم منهم من شبّه عمليات المقاومة بعمليات الاحتلال في قتل المدنيين، ومنهم من صمتَ صمْت القبور لا تسمع لهم حسًّا، وهذا نوع من أنواع الخذلان في موطن يحتاج الى كلمة حقّ. هؤلاء لم يؤدّوا الرسالة بل خانوا العهد وتنكّروا لرسالة الكاريكاتور وصغّروا من حجمه وحاصروه في وظيفة هي أصغر بكثير وأقلّ بكثير من دماء الأطفال والشيوخ الذين قضوا شهداء في فلسطين.
من هنا، يشدّد اللقطة على أن "المُحرّك الأول للرسم الكاريكاتوري يجب أن يكون إنسانيًا بالدرجة الأولى بهدف نُصرة الحقّ والدفاع عن المظلومين، وتحت هذا العنوان تأتي مُحرّكات أخرى كالعروبة والدين والجوار والتي من شأنها أن تُحرّك الحجر فكيف إذا كان الانسان مرهف الإحساس ويشعر بجراح الآخرين، والذي من المفترض أن يكون الناطق الرسمي باسم الشعوب المغلوبة والمُغيّبة والمطحونين من الناس وصوتَ من لا صوت له؟ وهذا بحدّ ذاته دافعٌ ليمتشق الفنان ريشته ويأخذ دوره في الميدان دفاعًا عن القضية الفلسطينية".
يؤكد اللقطة أن "الأصوات المُقاوِمة ومنها ريشة الكالريكاتور استطاعت أن تسحب البساط من تحت أرجل الدعاية الاسرائيلية الكاذبة وأن تُحرج المحتلّ، ولا سيّما أن لوحاتنا الكاريكاتورية أصبحت تُرفع في المظاهرات والاحتجاجات في العواصم الأوروبية والعربية على حدّ سواء"، ويُشير إلى أن "فنّاني الكاريكاتور استطاعوا أن يُرغموا القرّاء على إمساك الصحيفة من الصفحة الأخيرة ليروا رسوماتهم أوّلًا قبل قراءة العناوين".
بحسب اللقطة، المطلوب من رسّامي الكاريكاتور أن ينتموا الى القضايا العربية والاسلامية وأن يكون لهم مبدأ ورسالة وأن يسخّروا ريشتهم لنُصرة الحقّ وأن يتعالوا على الحسابات الشخصية ويكونوا على قدَرٍ من المسؤولية في وقت تستصرخهم أصوات المظلومين في أرض مباركة وأن يكونوا مُخلصين لهذه الدماء وأن يعبّروا بطريقة ساحرة وساخرة في آنٍ عمّا يحدث في أرض غزة فيفضحوا جرائم الاحتلال وازدواجية حقوق الإنسان التي أثبت العدوان على غزة كذبها. كذلك عليهم أن يُبرزوا صوت المقاومة التي تملؤنا عزّةً وكرامة في مخاطبة الشعوب العربية لكي يحثّوها على الاستخفاف بهذا الاحتلال الذي بات أوهن من بيت العنكبوت.
سرّ الكاريكتور، على ما يورد اللقطة، يكمن في أنه فنّ بصري مُحبّب وقريب الى النفس وهو الضحك المرّ الذي يؤرّخ للقضية الفلسطينية ويتقدّم على الكثير من أنواع التعبير كالمقال والقصة.
المحاذير التي توضع بوجه الرسّامين لا تعني للدكتور علاء اللقطة شيئًا، لأن فناني هذا المجال حدودهم السماء ولديهم الحرية الكافية التي تصل الى عنان السماء للتعبير عمّا يريدون
ويخلص الى أن "الرسّام ليس سياسيًا يلتزم بموازنات مُعينة، بل حرٌّ طليقٌ يُعبّر عمّا يدور في صدور الشعوب بلا مواربة أو حسابات أو رتوش"، ويرفض كلّ أساليب الحدّ من حرية فنان الكريكاتور وإن كان يتعرّض لتهديدات ومُضايقات من آنٍ الى آخر من أنظمة عربية قمعية تريد أن تكتم أيّ صوت يفضح تخاذلها وظلمها وطغيانها، لهذا يُحارب حتى من وسائل التواصل الاجتماعي التي تُضيّق على المحتوى الفلسطيني بسبب أهمية هذه الريشة التي ستبقى وفية لقضايا الأمة وعلى رأسها فلسطين".
فزعة الكاريكاتور اليمني
الرسّام اليمني الناشط كمال شرف يظهر اليوم بقوّة على خريطة التفاعل مع الأحداث والعدوان المتواصل على قطاع غزة وجنوب لبنان. يتحدّث شرف لـ"العهد" عن أن حِراكه "لا ينفصل عن الفزعة اليمنية الشاملة تجاه فلسطين"، ويلفت الى أن "الفن المقاوم ومنه الكاريكاتور حاضرٌ بشكل تلقائي في المعركة ليقوم بدوره في فضح العدو وإبراز حقيقته خاصة في ظلّ تزييف إعلامي واسع يُساند الكيان المؤقت، وكذلك بهدف إبراز دور محور المقاومة الحقيقي في دعم المُستضعفين في غزة ومنه الدور اليمني التاريخي الذي نفتخر به كيمنيين"، ويقول "نحاول أنا وزملائي من الفنانين القيام بواجبنا بكل ما نستطيع كمُقاتلين مؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية".
يعتقد شرف بأن "حضور القضية الفلسطينة العميق في وجداننا العربي هو ثورة في حدّ ذاتها وفي ظلّ حرب الإبادة التي يقودها مجرمو العالم لتصفية كل إنسان في غزة بلا استثناء حتى أولئك الاطفال الذين ما يزالون في الحضانات، ما يجعلنا نستحضر ما حصل من البداية في فلسطين من إبادة ووحشية وأمر عظيم ليخلق ثورة أكثر أثرًا اليوم".
يعدّ شرف الكاريكاتور "رصاصةً صغيرة الحجم، لكنها وبحسب حرفية الفنان تستطيع استهداف التزييف الإعلامي بدقّة عالية وتقضي على قصة إعلامية كلّفت الملايين لإقناع الناس بها بعمل بسيطٍ في خطوطه عميقٍ في رسالته.
من هذا المنطلق، يرى شرف أن "على رسام الكاريكاتور أن يمتلك روح إنسان يشعر بمعاناة المُستضعفين ومُقاتل يُقاتل من أجلهم ليكون صادقًا في تعبيره وهذا يُساهم في تفعيل عمله تلقائيًا"، ويُشدّد على أن "سرّ فن الكاريكاتور يكمن في بساطته العميقة وهي مُعادلة نادرة ولغة خاصّة تتجاوز كل اللّغات المُختلفة لتصل الى كل شرائح المجتمع في أيّ مكان في العالم، ولهذا هو قريب من الجميع، من المثقّف الكبير والعامل البسيط، ومن كبير السنّ والشاب".
وفق شرف، غالبية الفنانين العرب استطاعوا تجاوز تلوّث التطبيع التي تتبناه بعض الأنظمة العربية على الرغم من ظهور نماذج جديدة تدعم القصة الإعلامية للعدو بأعمال كاريكاتورية عربية شاذّة يتناقلها العدو أكثر من الجمهور العربي والاسلامي.
ومن باب انتقاد ما يحصل، يُلاحظ أن "الكثير من الفنانين العرب يتحدّثون عن الخذلان العربي وليس التواطؤ العربي، يتحدّثون عن الصمت العربي ولا يتحدّثون عن المُقاومين في لبنان والعراق واليمن والذين لم يصمتوا، يتحدّثون عن المجازر الإسرائيلية ولا يتحدّثون عن المُقاتل الفلسطيني المقاوم، وهذا يجعل الرسالة مبتورة".
الكاريكاتور لغة عالمية
من موقعه كفنان "عتيق" في هذا المجال ومُراقب لكلّ الأعمال التي تُقدّم اليوم عبر المنصّات ومواقع التواصل الاجتماعي، يرى رسام الكاريكاتور اللبناني محمد نور الدين أن "الرسم الكاريكاتوري أصبح مُسيّرًا، الى أن وصل بالبعض أن يرسم ضدّ ما يُسميّه همجية المقاومة الفلسطينية"، ويذكر أن "الرسم الذي يخلو من رمز لنجمة داود ينتشر بسرعة، أمّا عندما يتضمّنها فيُقيّد انتشاره أو تقفل حساباته وتُحظر".
النصر الكبير الذي تحقّق في 7 تشرين الأول/أكتوبر على يد المقاومة الفلسطينية من وجهة نظر نور الدين حصد تفاعلًا كبيرًا وعظيمًا على مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام المكتوب والمرئي وحتى الشعر، لكنّ الدور الأبرز كان لرسّامي الكاريكاتور في العالم أجمع خصوصًا في أميركا اللاتينية والولايات المتحدة، فالتجاوب أو التفاعل لم يكن بالزخم نفسه في العالم العربي.
يقول نور الدين إن "الفنّ الكاريكاتوري مؤثّر جدًا ويصل الى المشاهد بشكل مُعبِّر وبسيط، ويُبيّن أن الحدث السياسي أو القومي وحجمه ومدى تأثيره على مشاعرنا هو المحرّك الأول لدى الرسّامين، فالصور الآتية من الأحداث تطلق لديهم الريشة ليعبّروا عن سخطهم أو تضامنهم إزاء أيّة قضية"، ويستشهد هنا بـ"مشهد المقاوِم الذي يضع العبوة على الدبابة الاسرائيلية الذي يحفّز الرسّام على استلهام صورة وظيفتها إظهار العجز الاسرائيلي أمام الإبداع المقاوم الفلسطيني، وكذلك الحال بالنسبة مجزرة عيترون - عيناتا، والمشهد القاسي في مجمع الشفاء، والمجازر بحقّ الأطفال الفلسطينيين، والبحث عن أنفاق المقاومة الفلسطينية فهذه كلّها أحداث وتطوّرات قادرة على حثّنا على تناولها بطريقة فنية مؤثّرة".
نور الدين يعتبر أن "الخطوة الأولى لتفعيل الفنّ الكاريكاتوري هي قراءة الأحداث بطريقة صحيحة، والتفكير جيدًا، وأن يُميّز الرسّامون الحقّ من الباطل، وألّا يكونوا رسّامي بلاط على غرار شُعراء البلاط قديمًا، وأن يكونوا ناقلين لقضايا المُستضعفين والشعوب المقهورة والمظلومة، وألّا يكونوا تجّارًا، الى جانب أن يتمتعوا بحرية كبيرة لا تحدّهم خطوط حمراء أو أسقف معيّنة، وألّا يكترثوا للمُضايقات والتهديدات، وأن يكونوا رسّامين يخدمون خطّ المقاومة".