ابناؤك الاشداء

خاص العهد

مجتمع الاستهلاك اللبناني في عين العاصفة
07/06/2023

مجتمع الاستهلاك اللبناني في عين العاصفة

حسن نعيم

يقول عالم الإجتماع زيغمونت باومان في كتابه "الحداثة السائلة": "في مجتمع الإغواء والإغراء الذي يسكنه مدمنو التسوق والفرجة، لا يستطيع الفقراء أن يغضوا الطرف عما حولهم؛ فلا يوجد مكان يمكنهم فيه أن يغضوا الطرف. فكلما زادت الحرية على الشاشة، وجاذبية المغريات التي تغري الناس بعروض التسوق، زاد الإحساس بالواقع البائس الفقير".

المجتمع الاستهلاكي

المقصود بظاهرة المجتمع الاستهلاكي ذلك المجتمع الذي تحتل فيه كثرة الإستهلاك تقديرًا مبالغًا فيه في سلم الأولويات، وما يستتبع ذلك من السعي الحثيث للحصول على دخل مرتفع ولو من طرق غير قانونية وغير أخلاقية، في سبيل الوصول إلى الحد الأعلى من الاستهلاك في تنافس محموم وتدافع تغدو معه القيم الأخلاقية والدينية بحكم المعدومة.

يصعب علينا تتبع نشأة ظاهرة المجتمع الاستهلاكي من التاريخ، إلا أنها ليست ظاهرة جديدة، وقد صنفها والت روستو كمرحلة أخيرة في تصنيفه الشهير الذي حقب فيها مراحل النمو الاقتصادي وأسماها مرحلة الاستهلاك الجماهيري.

يمكن اعادة بداية هذه الظاهرة إلى السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية وما أطلق عليه حينها "إعادة بناء ما دمرته الحرب"، حيث حققت الدول المنتصرة معدلات للنمو الاقتصادي لم يسبق أن عرفت مثلها في أي فترة سابقة. فبدأت تظهر معالم الرفاه متمثلة في ارتفاع الدخل، وتوفر أوقات الفراغ، وتقلص البطالة إلى الحد الأدنى، مما أدى إلى اشتداد قوة النقابات العمالية ونجاحها المستمر في الحصول على أجور أعلى وتخفيض ساعات العمل. صاحب هذا التطبيق بعض الأساليب التكنولوجية الجديدة، التي استحدثت خلال الحرب وبسببها، في إنتاج سلع الاستهلاك، فزادت كمياتها وزاد تنوعها، مما احتاج إلى جهود إضافية في الدعاية لها، فزادت سطوة الحملات الإعلانية للسلع، مما ساهم بدوره في تقوية الرغبة في الاقتناء وشراء المزيد من السلع، حتى أصبح هذا الاقتناء و"التمتع بالحياة" هدفًا في حد ذاته يستحق أن يعيش المرء من أجله.

في الفترة التي سبقت قوة وسطوة وسائل التواصل وصل الى المجتمعات العربية "رذاذ" ظاهرة المجتمع الاستهلاكي التي انتشرت في الغرب، وحال انخفاض مستوى الدخل في بعض الدول العربية كلبنان وسورية مصر دون انتشار هذه الثقافة الوافدة ومن توسع الطموحات الإستهلاكية الجديدة. وما إن انتشرت وسائل التواصل وزادت قوتها حتى زادت المساحة التي احتلتها الحملات الدعائية، فضلاً عن التلفزيون والإذاعة واعلانات الشوارع. هذه النوازع نحو المادية أنتجت مجتمعًا جديدًا يحتفي بأنواع الإستهلاك على حساب الجانب الروحي والإنساني، وفتحت سنابك الرغبة الشديدة في الاقتناء وانسحقت القيم الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية وباتت الرغبة في الثراء فوق كل اعتبار.

سارع علماء الاجتماع والاقتصاد إلى التحذير من مغبة هذا النهم الاستهلاكي الذي يفوق قدرة المستهلكين، وهذا ما سيؤدي حتماً الى إضعاف معدل الادخار، وكسر حاجز الحماية للسلع الوطنية، وارتفاع أربحية الاستثمار في التجارة ومختلف أنواع الوساطة بالمقارنة بالاستثمار في الصناعة أو الزراعة، مما سيقود إلى نمو غير متوازن ينمو فيه قطاع الخدمات على حساب القطاعات الإنتاجية.

لقد ساد الرعب في أوساط المثقفين من هذه الظاهرة التي اجتاحت العالم بفعل قوة وسطوة وسائل التواصل الاجتماعي التي انتشرت على صفحاتها محلات تجارية تبيع وتشتري في الفضاء الافتراضي، وحذرت هربرت ماركيوز في أمريكا من "الإنسان ذي البعد الواحد" في كتابها، ومن "تكاليف النمو الاقتصادي" كما عبر إيزرا ميشان في إنجلترا، ومن الافتتان أكثر من اللازم بالتكنولوجيا أو "لعبة العصر" كما ذهب جاك إيلول في فرنسا، كما ظهرت الكتب التي تدعو إلى "العودة إلى الحجم الصغير" في كل شيء على حد تعبير فريتز شوماخر في إنجلترا..

الاستهلاك اللبناني في عين العاصفة

في ظل الأزمة الإقتصادية الخانقة التي تعصف بالبلاد يوصي الخبراء الاقتصاديون بمغادرة الكثير من العادات الاستهلاكية التي اعتادوا عليها في مرحلة ما قبل الأزمة. فهم بحاجة إلى إسقاط الكثير من لائحة ضروريات المرحلة السابقة نظراً إلى أن أساسيات المرحلة الراهنة تختلف عن ما اعتادوا عليه سابقاً. يقول عالم الإقتصاد ميلتون فريدمان إنه من الصعوبة بمكان تغيير العادات الاستهلاكية اثر تغير مستوى الدخل لأن الناس بحاجة إلى فترة زمنية حتى تدرك التغيير الحاصل إدراكًا نفسيًا حسيًا يختلف عن الإدراك الذهني الذي يحتاج إلى فترة زمنية مديدة كي يتحول الوعي الى سلوك إقتصادي.

بعد مضي ثلاث أو أربع سنوات على بداية الأزمة وانهيار المداخيل، أليست هذه الفترة الزمنية كافية كي يسلك اللبنانيون سلوكًا لا بد منه!

 

إقرأ المزيد في: خاص العهد