خاص العهد
نازحون عائدون من لبنان إلى القلمون: ما أحلى الرجوع إلى الوطن
محمد عيد
شهور عديدة مضت منذ أن التقيناهم آخر مرة ذات صيف عائدين من عرسال اللبنانية إلى بلداتهم وقراهم في سلسلة جبال القلمون الشرقية والغربية. لم يتغير فيهم شيء سوى أن منسوب السعادة الذي كانوا عليه قد ارتفع بشكل ملحوظ. بقايا القلق الذي خالطهم حين حذرهم " مغرضون" من مغبة العودة بدده الواقع الجديد الذي عاشوا فيه آمنين مطمئنين. اليوم يمكنهم أن يرفعوا الصوت عالياً ويهيبوا ببقية أهلهم ممن لا يزالون "رهائن المصالح الشخصية لبعض سياسيي الدول المضيفة" بأن يعودوا، فليس أكرم على المرء من وطنه ولا كرامة لإنسان خارج هذا الكيان العاطفي الجميل.
لم يخب أملهم بالوعود
تستقبلنا عائشة بابتسامة لافتة، أسعفتها الذاكرة وهي ترحب بنا على باب بيتها في قرية فليطة في القلمون بذكر أدق تفاصيل حديثنا معها على معبر الزمراني ذات صيف فائت، بل ذات عودة آمنة من عرسال اللبنانية. ذكرناها بحديثها آنذاك لأخيها المتردد والمطلوب حينها للخدمة الإلزامية بأن أحداً لن يمسه بسوء أو يسوقه إلى الجيش، فدون ذلك فترة سماح امتدت لستة أشهر. حسم خالد صراعه الداخلي ومن حينها عرف طريقه نحو الاستقرار "مددوا له في التأجيل لأنه قدم ورقة معيل ومع ذلك ينوي الالتحاق بالخدمة بعدما سبقه إليها أصدقاؤه ممن لم يخدش أحد مسامعهم بأي كلمة مسيئة".
لم يكن خالد وأسرته حالة استثنائية في حياة العائدين من عرسال اللبنانية، الجميع يقول إنه قد اتخذ القرار الصحيح "فليس أكرم على المرء من وطنه" يقول أحمد الذي عاد ليحرث أرضه ويجني خيراتها "لم يستوقفني أحد، كانت الإجراءات سريعة وشكلية اقتصرت على تسجيل أسماء العائدين وذكر ما يريدونه من الحكومة، عدنا بأبسط مما كنا نتوقع". التحق أحمد مجدداً بخدمته في مؤسسة البريد بعد أن قبلت وزارة الاتصالات تبريراته بخصوص التهجير القسري عن الوطن "لم يكن بإمكاني البقاء وأنا أشهد مسلحي "النصرة" وقد اتخذوا من بيوتنا وأراضينا مواقع لهم. اخترت أهون الشرور وهو عبور الحدود إلى الجانب اللبناني" يقول أحمد لموقع العهد الإخباري.
الحكومة حاضرة
البيوت عادت لتعمر بأهلها، الدولة السورية أعادت ترميم البنى التحتية على وجه السرعة، والأهالي بدورهم عجلوا في ترميم بيوتهم بالتزامن مع المساعدات الحكومية العاجلة. في هذا السياق، يقول محمد ديب رئيس بلدية الجراجير لموقع "العهد" الإخباري إن الحكومة السورية قد جندت إمكانياتها لعودة الأهالي وكانت تدرك أن جهوداً أخرى ستبذل بعد مجيئهم تفوق الاستعدادات التي سبقت هذه العودة "الجانب المعنوي ساعدنا كثيراً، ففرحة العودة والمعاملة الحسنة التي تلقاها العائدون من الأمن والجيش جعلتاهم متعاونين معنا في كل شيء سواء على مستوى السكن أو الخدمة الإلزامية أو تلقي الخدمات، عملنا كخلية واحدة". خلية سرعان ما كنست آثار الحرب. الجانب الأهم أن العائدين كانوا رسالة الأمان للذين كان لا يزال لديهم بعض القلق والخوف.
خدم إياد في الجيش السوري لست سنوات منها ثلاث سنوات احتياط . ألحّ أحمد طويلاً على أهله النازحين إلى عرسال من أجل العودة، كان جوابهم عبر الأثير موارباً "لم يشاؤوا حينها أن يتحدثوا عن الضغوط والابتزاز الذي وقع عليهم من قبل بعض الأحزاب والشخصيات اللبنانية المعادية للدولة السورية، ولكنهم حين عادوا حدثوني عن كل شيء، عن التخويف من العودة وعن الابتزاز وسرقة المعونات بأسماء النازحين وفيها أسماء وهمية"، يقول والده صالح لموقع "العهد" الإخباري مشيراً إلى "بعض الجهات اللبنانية التي تكيل العداء للدولة السورية. كانوا فقط وأمام وسائل الإعلام يتحدثون عنا بعطف وشفقة ولكن عنصريتهم كانت واضحة خارج نطاق الإعلام".
فأل الخير
يحظى اللواء عباس ابراهيم المدير العام للأمن العام اللبناني بسمعة عطرة لدى العائدين، فتجربته في تسهيل العودة الآمنة لهؤلاء والضمانات التي كان يقدمها "قطعت بالنسبة لدينا الشك باليقين عن صدق هذا الرجل ومن خلفه صدق وعود الحكومة السورية" يقول ابراهيم مدرس التاريخ وابن بلدة قارة لموقع "العهد" الإخباري. خلف ابن ريف الحسكة قرر العودة من لبنان إلى القلمون "سوريا هي وطني بصرف النظر عن المدينة التي أنتمي إليها".
لم يخب ظن الرجل في أهل الخير فلقد استقبله خليل ابن مدينة يبرود خير استقبال وأعطاه غرفة في منزله المهدم نسبياً يعيش فيها مع زوجته وأطفاله الثلاثة وأرضا يزرعها كذلك حتى "يحين أوان العودة للحسكة". كذلك الأمر، لم تكن قصة خليل فردية فغيره كثيرون تقاسموا المصير نفسه مع شركائهم في النزوح، فالغربة الواحدة رحم أمضى أحيانا من رحم الدم. الحكومة السورية تبدو مرتاحة لما آلت إليه الأمور، فلم يحصل أن أحدا ممن التقيناهم على الأقل قد نسب إليها وعداً لم تفِ به. بدت واضحة الرغبة المشتركة عند الجميع في طي صفحة الحرب الأليمة، والأهم من كل ذلك أن العائدين إلى الوطن شكلوا رأيا عاما لا يزال صداه يتردد في كل مكان، لا بل إن صرخته بأن "عودوا" تجاوزت بكثير أصوات "المرجفين المخوفين من سلوك طريق الإياب إلى الوطن". ولعلها كانت النتيجة التي خلصنا إليها أثناء وجودنا في القلمون بعدما سبقنا إليها الفرحون بتنسم ريح الوطن بعد هذه الغربة القسرية.