خاص العهد
رفع السرية المصرفية وانتفاء الذرائع والمبرّرات
فاطمة سلامة
لا تفارق "الشكاية" من السرية المصرفية ألسنة قضاة كثر وجدوا فيها جدارًا اسمنتيًا للحؤول دون القيام بمهامهم. الحديث معهم على مدار السنوات الثلاث الماضية أي على إثر اشتداد الأزمة المالية والاقتصادية بعد 17 تشرين الأول 2019 يبيّن كيف كانت السرية المصرفية عائقًا فعليًا أمام مكافحة الفساد. تمامًا كما كانت هذه السرية شمّاعة وذريعة لجهات عدّة سياسية ومصرفية وقضائية تحرّكها الميول السياسية والشخصية. أحد القضاة ولدى سؤاله عن سير التحقيق في ملف معيّن يسارع بالإجابة "اسألوا هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان". وفق القاضي المذكور فإنّ الهيئة -وهي الجهة الوحيدة المخوّلة سابقًا بالكشف عن السرية- تمتنع مرارًا وتكرارًا عن تزويده بالمعلومات الضرروية عن حسابات أشخاص يُشتبه بأمرهم في عمليات فساد وما شابه بذريعة "السرية المصرفية".
وبالاستناد الى علّة وجود قانون السرية المصرفية الذي صدر عام 1956 لا خلاف على أنه لطالما كانت له إيجابياته في جذب الرساميل الخارجية بحيث شكّل لبنان بموجبه ملاذًا آمنًا لتلك الودائع. لكن هذا القانون وفي ظل الأزمة المالية والاقتصادية الأعنف التي يعيشها لبنان تحوّل الى نقمة تتستّر حولها جهات عدة للعبث بالأمن المالي. احتمى خلفه النظام المصرفي وعلى رأسه مصرف لبنان لتمرير صفقات مشبوهة وتهريب أموال الى الخارج على حساب المودعين الصغار الذين وجدوا أنفسهم أصحاب ودائع وهمية على الدفتر فقط. تواطأت بموجبه المصارف على الشعب لتمكين المحظيين فقط من صون ودائعهم وسحبها وتحويلها مطمئنين الى أنّ الكشف عن الحسابات بيد هئية التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان أي الحاكم بأمر المصرف رياض سلامة الذي بات الخصم والحكم في آن. وعليه، كيف يُمكن محاسبة مشتبه به باختلاس وفساد وتهريب أموال اذا لم يتم الكشف عن حساباته المصرفية؟!.
الحاجز الاسمنتي الذي تشكّله السرية المصرفية دفع بجهات على رأسها حزب الله للبحث عن صيغ وتعديلات تجعل قانون السرية المصرفية في خدمة مكافحة الفساد لا العكس. وعليه،
أقر مجلس النواب قبل أيام عدة تعديلات على قانون السرية المصرفية (1956) كخطوة إصلاحية على درب مكافحة الفساد وفق ما يؤكّد عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب الدكتور علي فياض الذي يلفت الى أنّ تعديل السرية المصرفية كان من المشاريع الإصلاحية التي طُرحت في الأصل لمكافحة الفساد وأضيف عليها بعد جديد يرتبط بإعادة هيكلة المصارف فضلًا عن أن هذا التعديل تحوّل كأحد المشاريع المطلوبة من صندوق النقد الدولي.
توسعة مروحة الجهات المخوّلة برفع السرية المصرفية
وفي حديث لموقع "العهد الإخباري"، يشدّد فياض على أنّ أهمية التعديل الحاصل تكمن في انتفاء المبرّر أمام القضاء أو أي جهة للتذرع بالسرية المصرفية وإخفاء حسابات أي كان. وفق فياض، في القانون المُقر ليس هناك الغاء للسرية المصرفية بل تعديل لما كان مدرجًا عام 1956. يوضح فياض أنّ أبرز التعديلات التي طرأت على القانون تمثل في توسعة مروحة الجهات المخوّلة برفع السرية المصرفية بعدما كان الكشف عن حسابات أشخاص متهمين بتبييض أموال وإرهاب محصورًا لعقود بهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان. الآن بات الأمر في عهدة 7 جهات منها القضاء المختص، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، لجنة الرقابة على المصارف، مصرف لبنان، المؤسسة الوطنية لضمان الودائع.
أضف الى ما تقدّم، يلفت فياض الى أنّ التعديلات الجديدة أوجدت قطاعات محدّدة تُرفع السرية المصرفية عن حساباتها تلقائيًا دون الطلب من أحد كالموظف العمومي أكان معيّنًا أم منتخبًا، رؤساء الأحزاب وأعضاء الهيئات الادارية في الأحزاب أي الجمعيات التي تتعاطى الشأن السياسي، أصحاب المؤسات الإعلامية، ومُديري مؤسسات المجتمع المدني التي تتعاطى بالأمور المالية والمساعدات.
المصارف أضيفت بناء على اقتراح فياض
ولأنّ المصارف يجب أن تكون على رأس اللائحة المشمولة برفع السرية، اقترح فياض أن يشمل القانون أصحاب المؤسسات المصرفية ومديريها وأعضاء مجالس إداراتها لأنّ الجزء الأكبر منهم حولوا الأموال الى الخارج وتعاطوا باستنسابية. وبالفعل، جرى إضافة الجهات المذكورة -ومدققي حساباتهم وكل من يتيح له موقعه الاطلاع على معلومات سرية تتصل بالواقع المالي- للتمكن من متابعة أحوالهم المالية بعيدًا عن أي تعقيدات. وبحسب التعديلات، تُرفع السرية عن الأشخاص المعنيين مباشرة وعن زوجاتهم وأولادهم.
القانون المذكور يخدم عمليًا مكافحة الفساد في بلد يعاني بصورة عميقة من تفشيه وفق فياض الذي يشير الى أنّ القانون يهدف أيضًا الى مؤازرة الجهات المعنية على إنجاز إعادة هيكلة المصارف ومتابعة قضية الودائع وما الى هنالك. ولا يخفي فياض أنّ القانون تأخّر كحال كل القوانين التي ترتبط بالإصلاح المالي ومكافحة الفساد. وهنا يوضح أنّ القانون بصيغته الأخيرة هو خلاصة دمج اقتراحي قانون، أول يتعلق برفع السرية المصرفية عن الموظف العمومي والجهات الأخرى، وبدأت مناقشته قبل عامين في لجنة المال والموازنة، وثان جرت مناقشته في مرحلة لاحقة حيث طرحت قضية رفع السرية المصرفية ربطًا بمسألة إعادة هيكلة المصارف.
ويلفت فياض الى أنّ رفع السرية يساعد على ترصد الحسابات المالية وحركتها ومعرفة الأموال التي خرجت من البلد علمًا أن ثمة قانونًا خاصًا بإعادة الأموال المحوّلة الى الخارج. برأيه، ثمّة لغط حاصل بين قانون استعادة الأموال المتأتية عن الفساد، وقانون الأموال المحولة الى الخارج والذي لم ينته النقاش حوله نظرًا للتعقيدات.
حزب الله مع رفع السرية بالكامل
وفي ختام حديثه، يكرّر فياض موقف حزب الله الذي يميل الى رفع السرية المصرفية بالكامل، فصحيح أنّ إحدى مميزات لبنان كانت أنه ملجأ وملاذ آمن للأموال وهذا أمر إيجابي، لكن وفي ظل ظروف البلد وانتشار الفساد تتقدم أولوية مكافحة الفساد على أي شيء آخر.