معركة أولي البأس

خاص العهد

القطاع العام.. هكذا تصحّح الرواتب بعيدًا عن التضخم  
16/07/2022

القطاع العام.. هكذا تصحّح الرواتب بعيدًا عن التضخم  

فاطمة سلامة

لا عمل ولا حركة ولا حياة في الإدارات العامة للدولة. الأخيرة دخلت في "كوما" جراء الإضراب الذي ينفّذه موظفوها. أولئك لا يجدون ناصرًا لقضيتهم سوى التوقف عن العمل. يعتبرون ذلك السبيل الوحيد للحصول على المطالب. لا يقوون على الاستمرار في وظيفة لا توفّر لهم حياة كريمة كانوا يعيشونها. وظيفة لا يساوي راتبها صفائح البنزين التي ستُدفع شهريًا للوصول الى أماكن العمل. وعليه، لا يُطالب هؤلاء بأكثر من إنصافهم. لكن في المقابل، وعلى الرغم من أحقيّة وضرورة إنصاف هؤلاء، ثمّة ضحايا في "الكباش" الحاصل بين الدولة وموظفيها. ثمّة مواطنون توقّفت معاملاتهم وجرت عرقلة مشاريعهم وسط الشلل الذي تتعرّض له المؤسسات العامة، الأمر الذي يحتّم حلًا جذريًا سريعًا بعيدًا عن سياسة "الترقيع" المعتادة، حل يُنصف الموظفين ويُعيد الروح الى الإدارات العامة التي لطالما تحوّلت الى "خلية نحل" لا تهدأ طوال النهار.

حال موظفي الإدارات العامة لا يختلف عن حال موظفي القطاع العام برُمته. هؤلاء الموظفون باتوا في وضع لا يُحسدون عليه أبدًا. رواتب كثر منهم لا تكفي للذهاب الى عملهم يوميًا. البعض منهم يستدين ليؤمّن أبسط مقوّمات العيش، ما يعني حُكمًا أن استمرار العمل في القطاع العام بذات الرواتب أمر مستحيل. وعليه، فإنّ تصحيح الأجور لموظفي القطاع العام مسألة أكثر من ملحة بعدما تآكلت القدرة الشرائية بما يفوق الـ90 بالمئة. لكن في المقابل تُطرح إشكالية أساسية: كيف السبيل لرفع الرواتب وتحسين ظروف العمال دون إحداث تضخُّم؟. 

الأسمر: أي زيادات تُطرح يجب أن تكون مرتبطة بخطة اقتصادية

لدى سؤال رئيس الاتحاد العمالي العام الدكتور بشارة الأسمر عن الطريقة الأمثل لزيادة الرواتب دون إحداث انعكاسات سلبية على المؤشرات الاقتصادية، يستهل حديثه بالاستناد الى قاعدة أساسية: "أي زيادة غير مموّلة بشكل واضح ومن مصادر واضحة ستؤدي الى زيادة التضخم حكمًا". برأيه، أي زيادات تُطرح يجب أن تكون مرتبطة بخطة اقتصادية واضحة خاصة أنّ حجم الزيادات التي يُحكى عنها في الإعلام كبير وتبلغ 5.5 أضعاف. لا يُنكر الأسمر أنّ أي زيادات تُعطى لموظفي القطاع العام تبقى "قليلة" أمام ما نشهده من وقائع اقتصادية كارثية، إنما التعامل مع هذا الأمر يجب أن لا يكون تعاملًا حسابيًّا بل ضمن خطة شاملة. بهذا المعنى، لا بد - وفق الأسمر- من الإسراع بما هو مطروح في مجلس النواب من مشاريع قوانين حول النهوض الاقتصادي وتفعيلها والسرعة ببتها وإعادة النظر بها باتجاه ربطها بزيادات الأجور وكيفية تمويلها في المرحلة الاقتصادية الصعبة. 

يشدّد الأسمر على أن الاتحاد العمالي العام يملك نظرة شاملة لهذا الأمر، وما يُطرح من زيادات ضخمة تُضاعف فيها الرواتب أكثر من 5 مرات سيُدخلنا بدوامة مدمّرة. أنا مع مضاعفة تلك الرواتب وأكثر - يقول الأسمر- ولكن يجب أن تكون هذه الزيادة ضمن خطة اقتصادية واضحة توفّر الإيرادات للدولة بعد أن باتت (الإيرادات) مُعدمة جراء الإضرابات ووسط بقاء الدولار الجمركي على ما هو عليه (1507 ليرة للدولار). فهل يُعقل أن يدفع الغني مثلا 150 ألف دولار لقاء شراء سيارة، ويدفع في المقابل دولارًا جمركيًا وفق الـ1500 ليرة؟. هل يُعقل أن تبقى الدولة بلا مداخيل؟. هل يُعقل أن يبقى منطق قوانين تمديد المهل ساري المفعول؟. بعد كل هذه الأسئلة، يسأل الأسمر: من أين ستأتي الكتلة النقدية الضخمة التي ستُضاعف وهي تبلغ اليوم 800 مليار ليرة لـ300 ألف موظف ومتقاعد؟ ما الضمانة اذا حصلت أي زيادة بهذا الحجم وقفز الدولار للخمسين ألفًا أن لا تتآكل القدرة الشرائية أكثر فأكثر وأن لا تصل نسبة التضخم الى أعلى مستوياتها؟. وعليه، أي زيادة يجب أن تكون مرتبطة بخطة اقتصادية، يختم المتحدّث. 

حمادة: لخطة اقتصادية تُرفع فيها إيرادات القطاع العام

وجهة نظر الخبير المالي والاقتصادي الدكتور حسن حمادة تتشابه الى حد ما مع وجهة نظر الأسمر. رفع الرواتب يجب أن يكون بالتوازي مع خطة اقتصادية تُرفع فيها إيرادات القطاع العام، وبغير هذا الحل سنكون أمام تكبير لحجم الكتلة النقدية وارتفاع كبير بسعر صرف الدولار. 

يأخذ حمادة على الحكومة عجزها حتى الآن عن اتخاذ إجراءات تحسّن الوضع المالي لموظفي الدولة وتحسّن الإيرادات المتأتية من خلال الضرائب التي تجنيها الدولة من القطاع العام. وفق قناعاته، الحل موجود ولا يزال ولكن على الحكومة أن تتخذ بعض الإجراءات الأساسية.

تسعيرة الضرائب 

وفي سياق حديثه عن الإجراءات الواجب على الدولة اتخاذها، يشير حمادة الى مسألة الضرائب. الأخيرة لا تزال وفق دولار 1507 ليرات. يعطي مثالًا بسيطًا للدلالة على حجم الهدر والغبن الذي يلحق بالدولة. أي شخص في لبنان يشتري شقّة بـ5 ملايين دولار يدفع بدل تسجيلها 5 بالمئة وفقًا لدولار 1507 ليرات ما يعني أنه فعليًا لا يدفع شيئًا. وهنا يشدّد حمادة على ضرورة أن تتغيّر الضرائب وتتخلى الدولة عن اعتماد تسعيرة الـ1507 لأنّه لا يوجد شيء بعد وفقًا لهذا السعر الرسمي. بهذا المنطق، باتت أكلاف القطاع العام أكثر بكثير من إيراداته ما أوقع الدولة في عجز، فأي إدارة لديها مصاريف عامة وتشغيلية باهظة مقارنة بالإيرادات التي تحصّلها الدولة. الأخيرة تحصّل إيراداتها وفقًا للـ1507 ليرات وتدفع مصاريفها وفقًا لدولار 30 ألف ليرة ما يعمّق الأزمة أكثر فأكثر ويضعنا أمام إشكالية كبيرة. 

تسعيرة الدولار الجمركي 

نقطة أخرى يشير اليها حمادة - في حديث لموقع "العهد" الإخباري - تتمثّل بالدولار الجمركي. ثمة بضائع أساسية في السوق لا يوجد عليها جمرك لا على دولار الـ 1507 ليرات ولا 30 ألف ليرة. المفروض أن لا تتأثر هذه السلع ما يعني عدم تأثر الطبقات الفقيرة برفع الدولار الجمركي. أما السلع الأخرى، فالتجار يجنون الأرباح الهائلة منها مستفيدين من تدني تسعيرة الدولار الجمركي رغم أنهم يبيعون المواطن وفق دولار السوق السوداء. على سبيل المثال، فإنّ أي مواطن يريد شراء سلعة منزلية يدفع سعرها وكأن الدولار الجمركي دولار حقيقي ما يحقّق للتاجر أرباحًا هائلة. وعليه، يرى حمادة أنّ إبقاء الوضع كما هو لا يخدم المواطن، فالحكومة تخشى حتى الآن من أن يؤدي رفع الدولار الجمركي الى رفع الأسعار بينما الواقع يؤكّد أنّ الأسعار ارتفعت لمصلحة جيوب التجار. 

وفيما يشدّد حمادة على ضرورة رفع الدولار الجمركي، يلفت الى أهمية أن يكون هناك خطة واضحة للحكومة تستثني فيها بعض السلع الأساسية من الزيادة كي لا تتأثر الطبقات الفقيرة كإعفاء السلع الأساسية من مسألة الدولار الجمركي أو بعض الفئات من الـTVA مع العلم أنّ التاجر هو من يربح حاليًا. بهذا المعنى، ترتفع إيرادات الدولة ويصبح لديها القدرة على زيادة رواتب الموظفين عبر امتصاص حجم الكتلة النقدية دونما الحاجة الى طباعة المزيد من الليرات، الأمر الذي يخلق نوعًا من التضخم بعيدًا عن الارتفاع الجنوني بسعر صرف الدولار.

نصر: ثمّة هدر وهبات وإعفاءات في غير محلها
 
وفي الوقت الذي يتم فيه استحضار قضية التضخم لمجرد طرح مسألة تصحيح رواتب القطاع العام، تشدّد رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر في حديث لموقع "العهد" الإخباري على أنّ ذريعة التضخم ليست منطقية، لأننا كجهة "طرحنا وارادات كثيرة تُنفق في هذه الدولة على غير أصحاب الحق". برأيها، ثمّة هدر وهبات وإعفاءات في غير محلها، واذا عملت الدولة في هذا الإطار ستتمكّن من تحسين أوضاع العمال دون إحداث تضخم أو عجز.

تشير نصر الى مسألة الهدر الحاصل في وارادات الدولة، فعندما يعطى استثمار الأملاك العامة لمستثمر يعطى بقيمة زهيدة جدًا، وبدل أن تأخذ الدولة البدل الحقيقي للإشغال تأخذ شيئًا لا يُذكر. على سبيل المثال،  تأخذ الدولة 550 ليرة شهريًا على المتر المربع الواحد لمشروع "مارينا الضبيه" الذي تبلغ مساحته 38 ألف و164 مترا مربعا، بينما الإيجار الحقيقي يبلغ 100 دولار وما فوق، وقس على هذا المثال الكثير.  

الرسوم المذكورة بُنيت على مرسوم وضعته الحكومة للأسف عام 2018 تحت عنوان "كيف تُحتسب بدلات إشغال الأملاك العامة"، ما يعني - وفق نصر- أن الدولة تشرّع بمراسيم كيف تهدر وارادتها، مع الإشارة الى أنّ هذه الأموال في حال استوفتها الدولة من أصحابها لا تزيد على الكتلة النقدية بل تنتقل من غير ذي حق الى ذي حق. 

مثال آخر على مسألة الهدر ما يحصل في مطار بيروت. ثمّة اقتراح قانون يقوم على استيفاء رسوم المطار "فريش دولار" من الشركات الأجنبية بدلا من استيفائها على مبلغ 1507 ليرات للدولار، بينما في المقابل تستوفي المطارات في العالم الرسوم وفق اليورو والدولار. اقتراح القانون المذكور اذا ما سارت به الدولة ستجني من خلاله 700 ألف دولار يوميًا ما يعني مبلغًا هائلًا اذا ما احتسبناه وفق 365 يومًا. 

كما تشير نصر الى مسألة "التهرب الضريبي" شبه المقونن. على سبيل المثال ثمّة إعفاءات ضريبية لجهات معينة تسمح لها بإدخال بضائع الى البلد دون "جمرك" ما يخوّل جهات سياسية وغير سياسية وأحزابا ورجال أعمال وغيرهم الاستفادة من هذه الإعفاءات ليدفع المواطن وحده ثمن الجمرك، هذا بالإضافة الى ضرورة التفات الدولة الى مسألة المدارس والجمعيات الوهمية وغير ذلك. وهنا تشدّد نصر على أنّ مكافحة الدولة للهدر والإعفاءات و"التهريب الضريبي" كفيلة بإيقاف البلد على رجليه وإعطاء 
كل ذي حق حقه.  

لا عودة عن الإضراب قبل...

وفي معرض حديثها، تشدّد رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة على أن لا عودة عن الإضراب قبل:

- تصحيح الرواتب والمعاشات التقاعدية

- تحسين الطبابة والاستشفاء بشكل كامل  

- إعطاء قسائم بنزين بقيمة ما يدفع الموظّف دون زيادة أو نقصان، فبدل النقل بات أكبر بكثير من أن يتحمله الراتب

وتؤكّد نصر أن موظفي الإدارة العامة (15 ألف موظف) كباقي المواطنين يدفعون بدل النفقات بالـ"فريش دولار"، وعليه لا بد من الالتفات قليلًا الى راتبهم لرفعه الى مستوى الحياة. وتضيف نصر "نزلنا الى الحد الأدنى وهو الدولار المصرفي، ما يخولنا العيش بكرامة قليلًا.. وعليه، نطالب فقط بما يلامس حاجاتنا الأساسية، واستشفاء عائلاتنا خط أحمر وسط عدم قدرة الموظف على الدخول الى المستشفى".

وفق نصر، فإنّ موظّف الإدارة العامة لا يستطيع الاستمرار بدون المقومات المذكورة لبث الحياة في الادارة العامة التي يحرص عليها كثيرًا. وهنا تلفت الى نقطة تصفها بالمهمة، فموظفو وزارة الصحة وطيلة فترة الإضراب كانوا حريصين على مد كل المرضى بكل حاجاتهم من معاملات الاستشفاء والدواء ولم يقصّروا بحق أي مريض. 

وفي الختام، تشدّد نصر على ضرورة أن تتعامل الدولة مع مطالبنا كحاجة انسانية ملحة لا أرقام أو رواتب.
 

إقرأ المزيد في: خاص العهد

خبر عاجل