خاص العهد
المصرف المركزي وصناعة الأزمات: تجويع وضغوطات حتى نهاية آذار
يمنى المقداد
شكّل السابع عشر من تشرين الأول/ اكتوبر من العام 2019 نقطة الصفر لانطلاق شرارة الأزمة المالية والنقدية الأعظم في تاريخ لبنان. واتسمت هذه المرحلة بفشل ذريع في إدارتها، أو لنقل إنكارا مقصودا لوجودها يدخل في سياق تنفيذ أجندة غربية عموما وأميركية خصوصا.
لم يضبط قانون النقد والتسليف صلاحيات حاكم المصرف المركزي، الذي استفاد من ذلك ووسعها، إلى حدّ أصبح مال البلد بيده وحده، كما امتهن سياسة التعمية المستمرة على حجم الكارثة، فاتّبع خطة التعاميم وإجراءات مرادفة كمخدّر موضعي للناس عمومًا والمودعين خصوصًا، وأمعن في تعميق الأزمة، من غير أن يقدم على خطوة ينادي بها كبار خبراء الاقتصاد في لبنان والعالم تتمثّل بإعادة هيكلة القطاع المصرفي.
علاوة على ذلك، لم تلحظ موازنة 2022 خطة لإصلاح القطاع المصرفي ومعالجة الخسائر التي قُدرت بنحو 69 مليار دولار، ما يطرح تساؤلات حول مصير الدعم المالي الموعود من قبل صندوق النقد الدولي.
أكثر من ذلك، لجأ الحاكم لمزيد من الضغط السياسي - الاقتصادي، متاجرًا بلقمة المواطن وصحته، ومعتمدًا سياسة المماطلة والتأخير تحديدًا فيما يتعلّق بفتح اعتمادات لشراء مواد حيويّة كالمحروقات والأدوية، واليوم جاء دور القمح، بعد اندلاع الأزمة الروسيّة - الأوكرانيّة وتوقف استيراده، ما يطرح علامات استفهام حول خلفية وتبعات هذا العبث بأمن الناس الغذائي والصحي والاجتماعي.
ويبدو أنّ زمن الطوابير الذي أبصر النور مع المحروقات لم ينته بعد، وربّما نشهد قريبا طوابير خبز وغاز!
سياسة المركزي جزء أساسي من أدوات الحصار
الباحث الاقتصادي زياد ناصر الدين اعتبر في حديثه لموقع "العهد" أنّ سياسة المصرف المركزي هي جزء أساسي من أدوات الحصار على الواقع الاقتصادي اللبناني، وتخدم سياسة تمارسها الحكومة الحالية وحكومات سابقة من خلال رهن الاقتصاد بالكامل إلى الولايات المتحدة الأميركية، لنصبح اليوم أمام مرحلة من الأزمات المتتالية عنوانها الأكبر "لبنان يتوجّه إلى الإفلاس والتجويع"، وهذا ما تؤكده تصريحات سابقة لمسؤولين أميركيين، يقولون فيها إنّ لبنان دخل مرحلة الانهيار لكنّهم لا يزالون يمنعون دخوله في المجاعة حتى اليوم!
لبنان اليوم محاصر ماليًا بأدواته النقدية والمالية، يضاف إلى ذلك زيارة وزارة الخزانة الأميركية لبنان بغرض فرض شروط ومزيد من الضغط، على ما يقول ناصر الدين، مستغربًا اهتمام الولايات المتحدة الأميركية بالداخل اللبناني إلى هذا الحد، ومشددًا على هدفها بفرض مزيد من الشروط على المصارف اللبنانية المفلسة عمليًا.
أداء المركزي يقودنا إلى إفلاس ممنهج
لا يخفى على أحد سياسة تجويع الشعوب التي تعتمدها الولايات المتحدة الأميركية لتحصيل مكتسبات سياسية واقتصادية عبر الثورات الملوّنة المتزامنة مع عقوبات اقتصادية، وهذا ما يحدث في لبنان، فيما شكّل فسادنا السياسي بيئة خصبة سهّلت ومهّدت وساعدت الأميركي على تنفيذ خطّته بسرعة.
وصف ناصر الدين أداء المصرف المركزي اليوم بـ"السيء"، معتبرا أنّه يقودنا إلى إفلاس ممنهج وتدريجي ومرحلة من المجاعة والفوضى الاجتماعية فهو ينفذ حرفيا سياسات وضغوطات أميركية، واضعا اللوم أيضأ على الحكومة التي تسير بهذا الركب بدلا من مواجهة هذه السياسة، ومؤكدا على وجود حلول إنقاذية للوضع الاقتصادي خارج النفوذ الأميركي، والمطلوب اليوم عدم تنفيذ الشروط التي تفلس البلد من خلال تبديد احتياطاته تدريجيا، وسوقه إلى مرحلة رهن الذهب والغاز في البحر.
المحروقات والأدوية نحو التفاقم
لطالما شكّل تأخير فتح الاعتمادات من قبل حاكم مصرف لبنان معضلة حقيقيّة، لا سيّما حين يتعلّق الأمر بالمواد الحيويّة، كما حصل في موضوع المحروقات والأدوية. هنا يشير ناصر الدين إلى سياسة مصرفية سابقة هدفت لتثبيت قوى اقتصادية ترتبط بالاحتكار، معتبرًا أنّ إقرار قانون المنافسة لم يكسر واقع الاحتكار، وبالتالي استفادة الرأسماليين من الدعم بأرقام ضخمة، ما انعكس سلبًا على الأمن الغذائي والاجتماعي، والذي سيتأثر لاحقًا نتيجة ارتفاع الطلب العالمي على المحروقات، وارتفاع الأسعار واستعمال أكبر للدولار، في ظلّ رفض لبنان اتفاقيات مهمة من "الشرق" وخاصة روسيا لناحية النفط ومراكز تسييل النفط.
فيما يرتبط موضوع الأدوية بجزئية أنّ لبنان بلد غير إنتاجي وليس هناك تحفيز على الإنتاج، وموازنة هذا العام خير دليل، حيث كرّست للصناعة نحو 0.02% من النفقات المطلوبة، ما يرسّخ أنّ لبنان بلد استهلاكي بامتياز، وبالتالي سيكون الثمن أكبر على المستوى الاجتماعي.
ابتزاز الحاكم
يتخوّف اللبنانيون اليوم من انقطاع القمح جراء الأزمة الأوكرانية - الروسيّة، رغم طمأنة وزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام بأنّه سيسعى لتأمين هذه المادة الحيوية لمدة عام كامل، ووعد بالبحث عن أسواق بديلة.
ناصر الدين يعتقد أنّ الحكومة اللبنانية ستنتظر كعادتها للحظة الأخيرة، فيما يتحكّم المصرف المركزي بموضوع فتح الاعتمادات والذي أصبح موضوع "ابتزاز"، ورأى أنّه لا يفترض أن يكون الأمن الغذائي والاجتماعي بيد شخص محدد يقرّر "إنو في مجتمع بياكل أو ما بياكل"، لا سيّما أن لبنان لديه مشكلة بموضوع القمح بعد تدمير الإهراءات خلال انفجار المرفأ، ما يتطلب سرعة بفتح الاعتمادات وإدخال البواخر، وصوغ اتفاقيات وإيجاد بدائل قبل أن تقع الأزمة، موضحا أنّ أسعار الغاز والمحروقات سترتفع هي الأخرى.
الهدف: محاصرة مجتمع المقاومة
واقع الأمن الاجتماعي والغذائي مرتبط بشكل أساسي بتحكّم المصرف المركزي ورهن البلد والخضوع للشروط الأميركية، بحسب ناصر الدين، والنتيجة ستكون قاسية لاحقا وبشكل أساسي على واقع مجتمع المقاومة ومحاصرته، وأن يقتصر انقاذ اقتصادنا على التوجّه الأميركي، فيما برهن لبنان أنه لا يحب أن يتعامل بنقاط قوته، كاشفا أنّنا سنكون تحت وطأة الضغوطات القصوى حتى نهاية شهر آذار من أجل تحقيق حلم العدو "الإسرائيلي" بقدوم الحفّار من سنغافورة والبدء بالعمل في حقل "كاريش" تمهيدا لفرض شروط أقسى علينا والاستسلام في هذا الملف.
في هذا الصدد يعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور عماد عكّوش، أنّه لن يكون هناك فقدان للقمح في لبنان بشكل كامل إذا ما كنا عمليين في عملية البحث والمفاوضات، أما إذا تمت هذه العملية بنفس عقلية وطريقة التفاوض الروتينية التي تتبعها الدولة فالخطر كبير ان لا نصل الى تأمين هذه السلعة بعد انتهاء المخزون الحالي.
حاكم مصرف لبنان وصل إلى ما يريد..
إلى أين تتّجه الأزمة؟ يجزم عكّوش لموقع "العهد" أنّنا ذاهبون الى مشكلة كبيرة جدا بعد الإنتخابات، حيث لا حدود لارتفاع الدولار بسبب تآكل احتياطي مصرف لبنان، مشيرًا إلى أنّ الهدف تحقق و"انتهت القصة" عند حاكم مصرف لبنان الذي وصل الى ما يريد، وطبعًا بطلب أميركي، وما يحصل اليوم هو مزيج من الغباء والتخبّط، إذ ليس هناك أيّ خطة أو مجال للخروج من الأزمة، متوقعا تخبطا واسعا بسعر صرف الدولار في الأشهر الثلاثة المقبلة، والسبب هو انخفاض الاحتياطي بنحو 500 مليون دولار شهريا، والذي كان يفترض تمويل الخطة المالية منه لاعادة توزيع الخسائر ورد جزء من أموال المودعين.
احتياطي لبنان الحرّ: 8 مليارات دولار
أكثر من ذلك، تتآكل الودائع والاحتياطي بشكل تدريجي وفق عكّوش، لافتا إلى أنّ الاحتياطي الحرّ (غير المرهون) لا يتجاوز 8 مليارات دولار، فيما الجزء الآخر محجوز مقابل ديون في الخارج، وإذا ما استمر هذا الأسلوب في إدارة الأزمة وارتفاع أسعار المحروقات والأدوية والقمح، قد لا يكفينا الاحتياطي لمدّة 7 أشهر أو سنة كحدّ أقصى، و"نحن ذاهبون لأزمة كبيرة جدا بعد الانتخابات".
والحل برأيه هو بالتوافق فالمشكلة لا تتعلّق بالولايات المتحدة فحسب بل في عدم قبول الإصلاح واتفاق الأطراف اللبنانية على خطوط عريضة وحل معيّن، معتبرا أنّ الخطة التي يطلبها صندوق النقد الدولي أصبحت "أرحم" من الطبقة السياسية الموجودة، في وقت لم يكن يوما صندوق النقد علاجا اقتصاديا لأي دولة.
لا يقف سلوك المماطلة عند حاكم مصرف لبنان فيما يتعلّق بفتح الاعتمادات، و"تقطيع" الوقت حتى الانتخابات، بل يمتّد ليشمل مماطلة أغلب السياسيين في إيجاد حل للأزمة، في وقت يرتفع عدّاد الخسائر ويدق ناقوس الانهيار الشامل.. وأسئلة تطرح: من يمتلك صلاحية تجميد مدّ الحاكم وتجزيره بحياة الناس؟ لم تلفظ أغلب الطبقة الحاكمة الإصلاح؟ هل يحتمل الوضع حتى إجراء الانتخابات؟ ومن يضمن أن استمرار هدوء الدولار لن تطيح به عاصفة الانتخابات؟